صفحة جزء
436 [ ص: 481 ] 63 - باب

التعاون في بناء المسجد

ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر - إلى قوله -: من المهتدين


عمارة المساجد تكون بمعنيين:

أحدهما: عمارتها الحسية ببنائها وإصلاحها وترميمها، وما أشبه ذلك.

والثاني: عمارتها المعنوية بالصلاة فيها، وذكر الله وتلاوة كتابه، ونشر العلم الذي أنزله على رسوله، ونحو ذلك.

وقد فسرت الآية بكل واحد من المعنيين، وفسرت بهما جميعا، والمعنى الثاني أخص بها.

وقد خرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان " ثم تلا: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر .

ولكن قال الإمام أحمد : هو منكر.

وقوله: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله - وقرئ "مسجد الله".

فقيل: إن المراد به جميع المساجد على كلا القراءتين ; فإن المفرد المضاف يعم، كقوله: أحل لكم ليلة الصيام

وقيل: المراد بالمسجد المسجد الحرام خاصة، كما قال: [ ص: 482 ] وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون

وقيل: إنه المراد بالمساجد على القراءة الأخرى، وأنه جمعه لتعدد بقاع المناسك هناك، وكل واحد منها في معنى مسجد. روي ذلك عن عكرمة . والله أعلم.

فمن قال: إن المراد به المسجد الحرام خاصة، قال: لا يمكن الكفار من دخول الحرم كله، بدليل قوله تعالى: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا

وجمهور أهل العلم على أن الكفار يمنعون من سكنى الحرم ، ودخوله بالكلية، وعمارته بالطواف وغيره، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من ينادي: " لا يحج بعد العام مشرك ".

ورخص أبو حنيفة لهم في دخوله دون الإقامة به.

ومن قال: المراد جميع المساجد، فاختلفوا:

فمنهم: من قال: لا يمكن الكفار من قربان مسجد من المساجد، ودخوله بالكلية.

ومنهم: من رخص لهم في دخول مساجد الحل في الجملة.

ومنهم: من فرق بين أهل الكتاب والمشركين، فرخص فيه لأهل الكتاب دون المشركين.

وقد أفرد البخاري بابا لدخول المشرك المسجد، ويأتي الكلام على هذه المسألة هناك مستوفى - إن شاء الله تعالى.

واتفقوا على منع الكفار من إظهار دينهم في مساجد المسلمين، لا نعلم [ ص: 483 ] في ذلك خلافا.

وهذا مما يدل على اتفاق الناس على أن العمارة المعنوية مرادة من الآية.

واختلفوا في تمكينهم من عمارة المساجد بالبنيان والترميم ونحوه على قولين:

أحدهما: المنع من ذلك ; لدخوله في العمارة المذكورة في الآية، ذكر ذلك كثير من المفسرين كالواحدي وأبي الفرج ابن الجوزي ، وكلام القاضي أبي يعلى في كتاب "أحكام القرآن" يوافق ذلك، وكذلك كيا الهراسي من الشافعية، وذكره البغوي منهم احتمالا.

والثاني: يجوز ذلك، ولا يمنعون منه، وصرح به طائفة من فقهاء أصحابنا والبغوي من الشافعية وغيرهم.

وهؤلاء ; منهم من حمل العمارة على العمارة المعنوية خاصة، ومنهم من قال: الآية إنما أريد بها المسجد الحرام ، والكفار ممنوعون من دخول الحرم على كل وجه، بخلاف بقية المساجد، وهذا جواب ابن عقيل من أصحابنا.

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه استعمل طائفة من النصارى في عمارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لما عمره في خلافة الوليد بن عبد الملك .

ويتوجه قول ثالث، وهو: أن الكافر إن بنى مسجدا للمسلمين من ماله لم يمكن من ذلك، ولو لم يباشره بنفسه، وإن باشر بناءه بنفسه باستئجار المسلمين له جاز، فإن في قبول المسلمين منة الكفار ذلا للمسلمين، بخلاف استئجار الكفار للعمل للمسلمين ; فإن فيه ذلا للكفار.

[ ص: 484 ] وقد اختلف الناس في هذا - أيضا - على قولين:

أحدهما: أنه لو وصى الكافر بمال للمسجد أو بمال يعمر به مسجد أو يوقد به، فإنه تقبل وصيته، وصرح به القاضي أبو يعلى في "تعليقه" في مسألة الوقيد، وكلامه يدل على أنه محل وفاق، وليس كذلك.

والثاني: المنع من ذلك، وأنه لا تقبل الوصية بذلك، وصرح به الواحدي في "تفسيره" وذكره ابن مزين في كتاب "سير الفقهاء" عن يحيى بن يحيى ، قال: سمعت مالكا ، وسئل عن نصراني أوصى بمال تكسى به الكعبة ؟ فأنكر ذلك، وقال: الكعبة منزهة عن ذلك.

وكذلك المساجد لا تجري عليها وصايا أهل الكفر.

وكذلك قال محمد بن عبد الله الأنصاري قاضي البصرة : لا يصح وقف النصراني على المسلمين عموما، بخلاف المسلم المعين، والمساجد من الوقف على عموم المسلمين -: ذكره حرب عنه بإسناده.

وقال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن المرأة الفقيرة تجيء إلى اليهودي أو النصراني فتصدق منه؟ قال: أخشى أن ذلك ذلة.

وقال مهنا : قلت لأحمد : يأخذ المسلم من النصراني من صدقته شيئا؟ قال: نعم، إذا كان محتاجا.

فقد يكون عن أحمد روايتان في كراهة أخذ المسلم المعين من صدقة الذمي ، وقد يكون كره السؤال، ورخص في الأخذ منه بغير سؤال. والله أعلم.

وأما وقفهم على عموم المسلمين كالمساجد، فيتوجه كراهته بكل حال، كما قاله الأنصاري .

[ ص: 485 ] وقد ذكر أهل السير كالواقدي ومحمد بن سعد أن رجلا من أحبار اليهود ، يقال له: مخيريق ، خرج يوم أحد يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن أصبت في وجهي هذا فمالي لمحمد يضعه حيث شاء، فقتل يومئذ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله، فقيل: إنه فرقها وتصدق بها، وقيل: إنه حبسها ووقفها .

وروى ابن سعد ذلك بأسانيد متعددة، وفيها ضعف. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية