صفحة جزء
27 [ ص: 116 ] فصل

قال البخاري :

19 - باب

إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة

وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل


لقوله عز وجل : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا

فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله : إن الدين عند الله الإسلام وقوله : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه


معنى هذا الكلام أن الإسلام يطلق باعتبارين :

أحدهما : باعتبار الإسلام الحقيقي وهو دين الإسلام الذي قال الله فيه : إن الدين عند الله الإسلام وقال : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه

والثاني : باعتبار الاستسلام ظاهرا مع عدم إسلام الباطن إذا وقع خوفا كإسلام المنافقين .

واستدل بقوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وحمله على الاستسلام خوفا وتقية .

وهذا مروي عن طائفة من السلف ، منهم مجاهد ، وابن زيد ، ومقاتل بن حيان وغيرهم .

[ ص: 117 ] وكذلك رجحه محمد بن نصر المروزي كما رجحه البخاري ; لأنهما لا يفرقان بين الإسلام والإيمان ، فإذا انتفى أحدهما انتفى الآخر .

وهو اختيار ابن عبد البر ، وحكاه عن أكثر أهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وداود .

وأما من يفرق بين الإسلام والإيمان فإنه يستدل بهذه الآية على الفرق بينهما ، ويقول : نفي الإيمان عنهم لا يلزم منه نفي الإسلام ، كما نفى الإيمان عن الزاني والسارق والشارب وإن كان الإسلام عنهم غير منفي .

وقد ورد هذا المعنى في الآية عن ابن عباس وقتادة والنخعي ، وروي عن ابن زيد معناه أيضا . وهو قول الزهري وحماد بن زيد وأحمد ، ورجحه ابن جرير وغيره .

واستدلوا به على التفريق بين الإسلام والإيمان .

وكذا قال قتادة في هذه الآية ، قال : قولوا أسلمنا شهادة أن لا إله إلا الله ، وهو دين الله ، والإسلام درجة ، والإيمان تحقيق في القلب ، والهجرة في الإيمان درجة ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتل في سبيل الله درجة .

خرجه ابن أبي حاتم .

فجعل قتادة الإسلام الكلمة ، وهي أصل الدين ، والإيمان ما قام بالقلوب من تحقيق التصديق بالغيب ، فهؤلاء القوم لم يحققوا الإيمان في قلوبهم ، وإنما دخل في قلوبهم تصديق ضعيف بحيث صح به إسلامهم .

[ ص: 118 ] ويدل عليه قوله تعالى : وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا

واختلف من فرق بين الإسلام والإيمان في حقيقة الفرق بينهما ; فقالت طائفة : الإسلام كلمة الشهادتين والإيمان العمل ، وهذا مروي عن الزهري وابن أبي ذئب ، وهو رواية عن أحمد ، وهي المذهب عند القاضي أبي يعلى وغيره من أصحابه .

ويشبه هذا قول ابن زيد في تفسير هذه الآية ، قال : لم يصدقوا إيمانهم بأعمالهم ، فرد الله عليهم ، وقال : لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا فقال : الإسلام إقرار ، والإيمان تصديق .

وهو قول أبي خيثمة وغيره من أهل الحديث .

وقد ضعف ابن حامد من أصحابنا هذا القول عن أحمد ، وقال : الصحيح أن مذهبه أن الإسلام قول وعمل رواية واحدة ، ولكن لا تدخل كل الأعمال في الإسلام كما تدخل في الإيمان .

وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا يكفر تارك الصلاة ، فالصلاة من خصال الإيمان دون الإسلام ، وكذلك اجتناب الكبائر من شرائط الإيمان دون الإسلام .

كذا قال ، وأكثر أصحابنا أن ظاهر مذهب أحمد تكفير تارك الصلاة ، فلو لم تكن الصلاة من الإسلام لم يكن تاركها عنده كافرا .

والنصوص الدالة على أن الأعمال داخلة في الإسلام كثيرة جدا .

وقد ذهب طائفة إلى أن الإسلام عام والإيمان خاص ، فمن ارتكب الكبائر خرج من دائرة الإيمان الخاصة إلى دائرة الإسلام العامة .

[ ص: 119 ] هذا مروي عن أبي جعفر محمد بن علي ، وضعفه ابن نصر المروزي من جهة راويه عنه وهو فضيل بن يسار ، وطعن فيه . وروي عن حماد بن زيد نحو هذا أيضا .

وحكي رواية عن أحمد أيضا ; فإنه قال في رواية الشالنجي في مرتكب الكبائر : يخرج من الإيمان ، ويقع في الإسلام .

ونقل حنبل عن أحمد معناه .

وقد تأول هذه الرواية القاضي أبو يعلى وأقرها غيره ، وهي اختيار أبي عبد الله ابن بطة وابن حامد وغيرهما من الأصحاب .

وقالت طائفة : الفرق بين الإسلام والإيمان أن الإيمان هو التصديق تصديق القلب ، فهو علم القلب وعمله ، والإسلام الخضوع والاستسلام والانقياد ; فهو عمل القلب والجوارح .

وهذا قول كثير من العلماء ، وقد حكاه أبو الفضل التميمي عن أصحاب أحمد ، وهو قول طوائف من المتكلمين .

لكن المتكلمون عندهم أن الأعمال لا تدخل في الإيمان وتدخل في الإسلام ، وأما أصحابنا وغيرهم من أهل الحديث فعندهم أن الأعمال تدخل في الإيمان مع اختلافهم في دخولها في الإسلام ، كما سبق .

فلهذا قال كثير من العلماء : إن الإسلام والإيمان تختلف دلالتهما بالإفراد والاقتران ; فإن أفرد أحدهما دخل الآخر فيه ، وإن قرن بينهما كانا شيئين حينئذ .

وبهذا يجمع بين حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان ، ففرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وبين حديث وفد عبد القيس حيث فسر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان المنفرد [ ص: 120 ] بما فسر به الإيمان المقرون في حديث جبريل .

وقد حكى هذا القول أبو بكر الإسماعيلي عن كثير من أهل السنة والجماعة ، وروي عن أبي بكر بن أبي شيبة ما يدل عليه ، وهو أقرب الأقوال في هذه المسألة وأشبهها بالنصوص ، والله أعلم .

والقول بالفرق بين الإسلام والإيمان مروي عن الحسن ، وابن سيرين ، وشريك ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى بن معين ، ومؤمل بن إهاب . وحكي عن مالك أيضا ، وقد سبق حكايته عن قتادة ، وداود بن أبي هند ، والزهري ، وابن أبي ذئب ، وحماد بن زيد ، وأحمد ، وأبي خيثمة . وكذلك حكاه أبو بكر ابن السمعاني عن أهل السنة والجماعة جملة .

فحكاية ابن نصر وابن عبد البر عن الأكثرين التسوية بينهما غير جيد ، بل قد قيل : إن السلف لم يرو عنهم غير التفريق ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية