صفحة جزء
[ ص: 677 ] 101 - باب

إثم المار بين يدي المصلي

488 510 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن بسر بن سعيد، أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله: ماذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المار بين يدي المصلي؟ فقال أبو جهيم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه . قال أبو النضر: لا أدري: قال أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة؟


وخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى ، عن مالك .

وخرجه - أيضا - من طريق وكيع ، عن سفيان - هو: الثوري - عن سالم أبي النضر - بمعنى حديث مالك .

ورواه ابن عيينة ، عن سالم أبي النضر ، عن بسر بن سعيد ، قال: أرسلني أبو الجهيم أسأل زيد بن خالد الجهني : ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره من رواية زيد بن خالد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

كذا رويناه في "مسند الحميدي " عن سفيان .

وكذا خرجه ابن ماجه ، عن هشام بن عمار ، عن ابن عيينة إلا أنه قال: "أرسلوني إلى زيد بن خالد أسأله" ولم يذكر من أرسله.

[ ص: 678 ] وذكر أن الشك في تمييز الأربعين من ابن عيينة .

وهذا كله وهم.

وممن نص على أن جعل الحديث من مسند زيد بن خالد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم من ابن عيينة ، وخطأ: ابن معين في رواية ابن أبي خيثمة ، وأشار إليه الإمام أحمد في رواية حنبل .

وقد اضطرب ابن عيينة في لفظه وإسناده، ولم يحفظه جيدا.

وقد روي عنه كقول مالك وسفيان على الصواب.

خرجه ابن خزيمة ، عن علي بن خشرم ، عنه.

ومن تكلف الجمع بين القولين من المتأخرين، فقوله ليس بشيء، ولم يأت بأمر يقبل منه.

وأبو الجهيم، هو: ابن الحارث بن الصمة ، وقد سبق له حديث في "التيمم".

وقد رواه الضحاك بن عثمان ، عن سالم أبي النضر ، عن بسر بن سعيد ، عن زيد بن خالد ، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلي ما عليهما" وذكر الحديث.

خرجه أبو العباس السراج في "مسنده".

وهذا يوافق رواية ابن عيينة ، وهو - أيضا - وهم.

وزيادته: "والمصلي" غير محفوظة - أيضا.

وقد وقع في بعض نسخ كتاب البخاري ، ومسلم - أيضا - بعد: "ماذا عليه": "من الإثم" وهي غير محفوظة.

[ ص: 679 ] وذكر ابن عبد البر : أن هذه اللفظة في رواية الثوري ، عن سالم أبي النضر .

وقد وقعت في كتاب ابن أبي شيبة من رواية الثوري مدرجة بلفظة: "يعني: من الإثم" فدل على أنها مدرجة من قول بعض الرواة، وتفسير للمعنى; فإن هذا يفهم من قوله: "ماذا عليه" فإن ابن آدم له عمله الصالح وعليه عمله السيئ، كما قال تعالى: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وقال: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وإذا كان هذا عليه فهو من سيئاته.

وفي المعنى أحاديث أخر، ليست على شرط البخاري :

فروى عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب ، عن عمه، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لو يعلم أحدكم ما له أن يمشي بين يدي أخيه معترضا وهو يناجي ربه، كان لأن يقف في ذلك المكان مائة عام أحب إليه أن يخطو" .

خرجه أحمد ، وهذا لفظه.

وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" بمعناه.

وخرجه ابن ماجه ولم يذكر: "وهو يناجي ربه" وعنده: "معترضا في الصلاة".

وعبيد الله بن عبد الله بن موهب ضعفه يحيى . وقال النسائي : ليس [ ص: 680 ] بذاك القوي. وقال ابن عدي : هو حسن الحديث، يكتب حديثه.

وخرج الطبراني من رواية ابن أخي ابن وهب ، عن عمه: ثنا عبد الله بن عياش ، عن أبي رزين الغافقي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الذي يمر بين يدي الرجل وهو يصلي عمدا يتمنى يوم القيامة أنه شجرة يابسة ".

إسناده ليس بقوي.

وقد روي موقوفا بلفظ آخر، من رواية أبي عبد الرحمن المقرئ : ثنا موسى بن أيوب ، قال: سمعت أبا عمران الغافقي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: لأن يكون الرجل رمادا يذرى به خير له من أن يمر بين يدي رجل متعمدا وهو يصلي.

خرجه ابن عبد البر وغيره.

وروى ابن أبي شيبة ، عن أبي أسامة ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، قال: سمعت عبد الحميد بن عبد الرحمن - عامل عمر بن عبد العزيز - يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو يعلم المار بين يدي المصلي لأحب أن تنكسر فخذه ولا يمر بين يديه ".

هذا مرسل.

وأبو أسامة قد قيل: إنه كان يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم الشامي ، ويسميه: ابن جابر ، وابن تميم ضعيف، وابن جابر ثقة.

وذكر مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن كعب الأحبار ، قال: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يخسف [ ص: 681 ] به خير له من أن يمر بين يديه.

وروى أبو نعيم في "كتاب الصلاة": ثنا سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن هلال ، قال: قال عمر رضي الله عنه: لو يعلم المار بين يدي المصلي ما يصيب من الإثم ما مر أحد بين يدي أحد وهو يصلي.

وروى أبو بكر النجاد الفقيه الحنبلي بإسناده عن ابن عمر قال: لأن يكون الرجل رمادا يذرى به خير من أن يمر بين يدي رجل وهو يصلي.

وبإسناده، عن قتادة ، أن عمر وأبا الدرداء قالا: لو يعلم المار بين يدي المصلي كان أن يقوم حولا أهون عليه من أن يمر بين يديه.

وروى أبو نعيم - أيضا -: ثنا أبو خلدة ، عن أبي العالية قالا: إن الإنسان إذا صلى بين يديه ملك يكتب ما يقول، فما أحب أن يمر بين يدي شيء.

وفي هذا إشارة إلى علة كراهة المرور بين يدي المصلي، وهو قرب الملائكة منه، فالمار يصير دخيلا بين المصلي وملائكته الموكلين به.

وفي حديث أبي هريرة المتقدم: إشارة إلى أن المصلي مشتغل بمناجاة ربه، والرب تعالى يقرب المصلي له إليه، قربا لا يشبه قرب المخلوقين، كما سبق ذكره في "أبواب البصاق في القبلة".

فالداخل بين المصلي وبين ربه في حال مناجاته له، وتقريبه إياه، وإقباله عليه، واستماعه منه ما يناجيه، ورده عليه جواب ما يتلوه من كتابه - متعرض لمقت الله، ومستحق لعقوبته.

وهذا كله يدل على تحريم المرور بين يدي المصلي، وهو الصحيح عند أصحابنا، والمحققين من أصحاب الشافعي .

[ ص: 682 ] وطائفة منهم ومن أصحابنا أطلقوا الكراهة.

وكذلك أطلقها غيرهم من أهل العلم، منهم: ابن عبد البر وغيره.

وحكاه الترمذي عن أهل العلم.

وقد حمل إطلاق هؤلاء للكراهة على التحريم; فإن متقدمي العلماء كانوا يستعملون ذلك كثيرا.

وقد حكى ابن حزم في "كتاب الإجماع" الاتفاق على أن المار بين المصلي وسترته آثم.

وفي الحديث: دليل على تحريم المرور بين يدي المصلي، سواء كان يصلي إلى سترة أو لم يكن، فإن كان يصلي إلى سترة حرم المرور بينه وبينها، إذا لم يتباعد عنها تباعدا كثيرا.

وإن لم يكن بينه وبين القبلة سترة، أو كانت سترة وتباعد عنها تباعدا فاحشا، ففي تحريم المرور وجهان لأصحابنا:

أصحهما: التحريم; لعموم حديث أبي جهيم .

والثاني: يكره ولا يحرم، وهو قول أصحاب الشافعي .

والذي نص عليه الشافعي في "كتاب اختلاف الحديث" أنه مباح غير مكروه، واستدل عليه بحديث ابن عباس والمطلب بن أبي وداعة .

وفي قدر القرب الذي يمنع من المرور فيه وجهان لأصحابنا:

أحدهما: أنه محدود بثلاثة أذرع; لأنها منتهى المسنون في وضع السترة، على ما سبق.

والثاني: حده بما لو مشى إليه لدفع المار أو غيره، لم تبطل صلاته.

[ ص: 683 ] وجاء في حديث مرفوع من حديث ابن عباس : تقديره بقدر قذفة بحجر.

خرجه أبو داود وسنذكره فيما بعد - إن شاء الله تعالى.

وحكي عن الحنفية، أنه لا يمنع من المرور إلا في محل سجود المصلي خاصة.

وحكى أبو بكر بن العربي ، عن قوم أنهم قدروه بمثل طول الرمح، وعن آخرين أنهم قدروه برمية السهم، وقالوا: هو حريم للمصلي. قال: وأخذوه من لفظ المقاتلة، ولم يفهموا المراد منها. قال: والمقاتلة هنا: المنازعة بالأيدي خاصة.

وقال الشافعي : قوله: "فليقاتله" يعني: فليدفعه.

فأما من وقف في مجاز الناس الذي ليس لهم طريق غيره وصلى، فلا إثم في المرور بين يديه، صرح به أصحابنا وغيرهم; لأنه مفرط بذلك، فلا حرمة له.

وحكى القرطبي ، عن أصحابهم المالكية، أن المصلي إذا كان في موضع لا يأمن المرور عليه اشترك هو والمار في الإثم.

وهذا يدل على أنه يحرم المرور بين يديه - أيضا - ولكنه يأثم المار والمصلي جميعا.

وكذلك قال بعض الشافعية : أنه إذا صلى على الطريق، أو قصر في الدفع شارك المار في الإثم، وحملوا رواية السراج المتقدمة: "لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلي ما عليهما" على ذلك.

وحكي عن بعض الفقهاء أنه إن كان للمار مندوحة عن المرور، وكان المصلي متعرضا لذلك أثما جميعا، وإن لم يكن للمار مندوحة، ولا المصلي [ ص: 684 ] متعرضا لذلك فلا إثم على واحد منهما، وإن لم يتعرض المصلي لذلك، وكان للمار مندوحة أثم المار وحده، وإن تعرض المصلي لذلك، ولم يكن للمار مندوحة أثم المصلي وحده.

وقال أبو عمر بن عبد البر : الإثم على المار بين يدي المصلي فوق الإثم على الذي يدعه يمر بين يديه، وكلاهما عاص إذا كان بالنهي عالما، والمار أشد إثما إذا تعمد ذلك، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا.

كذا قال، مع أنه ذكر في موضع آخر: أن الدفع ليس بلازم، ولا يأثم من تركه، وأنه قول الثوري وغيره.

وخرج ابن أبي شيبة من رواية الأسود قال: قال عبد الله - هو: ابن مسعود -: من استطاع منكم أن لا يمر بين يديه وهو يصلي فليفعل; فإن المار بين يدي المصلي أنقص من الممر عليه.

ولعله أراد أن المار أنقص علما أو دينا أو خيرا من الممر عليه، ولم يرد - والله أعلم - أنه أنقص منه إثما، اللهم إلا أن يحمل على ما إذا كان المصلي مفرطا بصلاته في موضع مرور الناس، والمار لا يجد بدا من مروره كما سبق.

وقد روي عن جماعة من الصحابة أن الصلاة تنقص بمرور المار:

فروى أبو نعيم : ثنا سليمان بن المغيرة - أظنه: عن حميد بن هلال - قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو يعلم المصلي قدر ما ينقص من صلاته ما صلى أحدكم إلا إلى شيء يستره من الناس .

وهذا منقطع.

وقد روي عن ابن مسعود أنه ينقص نصف صلاته.

[ ص: 685 ] قال أبو طالب : قلت لأحمد : قول ابن مسعود : إن ممر الرجل يضع نصف صلاته؟ قال: نعم، يضع من صلاته، ولكن لا يقطعها، ينبغي له أن يمنعه.

وهذا الذي أشار إليه خرجه أبو بكر النجاد بإسناده، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه، قال: كان عبد الله إذا مر بين يديه رجل وهو يصلي التزمه حتى يرده. قال: وقال عبد الله : إن مرور الرجل بين يدي الرجل ليضع نصف صلاته.

قال القاضي أبو يعلى : وينبغي أن يكون هذا محمولا على ما إذا أمكنه أن يرده فلم يرده، فيكون قد أخل بفضيلة الرد.

كذا قال، وفيه نظر.

ومذهب أحمد وأصحابه: أن مرور الكلب الأسود يبطل الصلاة ويقطعها، سواء أمكنه الرد وتركه، أو تركه عجزا، كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى.

وعلى هذا; فلا يبعد القول بنقص كمال الصلاة بمرور غير الكلب، وإن عجز عن دفع ذلك.

ولهذا المعنى رد طائفة من العلماء حديث قطع الصلاة بمرور الكلب وغيره، وقالوا: إنه مخالف للقرآن في قوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى كما ذكر ذلك الشافعي .

وقد روي: أن مرور الرجل بين يدي الرجل في صلاته يقطع صلاته.

وخرجه أبو داود في "سننه" بإسناد فيه نظر، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بتبوك إلى نخلة، فأقبل غلام يسعى حتى مر بينه وبين قبلته، فقال: "قطع صلاتنا، [ ص: 686 ] قطع الله أثره". قال: فما قمت عليها إلى يومي هذا .

وهذا مما يستدل به على أن قطع الصلاة يراد به إذهاب كمال فضلها، دون إبطالها من أصلها، وإيجاب إعادتها، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "المسند": ثنا سويد بن سعيد : ثنا إبراهيم بن سعد : حدثني أبي، عن أبيه، قال: كنت أصلي، فمر رجل بين يدي فمنعته، فسألت عثمان بن عفان فقال: لا يضرك يا ابن أخي.

وظاهر هذا: أنه لا ينقص الصلاة، ويحتمل أنه أراد أنه لم تبطل صلاته، أو لعله أراد أنه إذا منعه من المرور فلا يضره إذا رجع ولم يمر.

وقد روي، عن عائشة ما يدل على أن المرور بين يدي المصلي إذا لم يقطع صلاته فهو جائز.

قال: عبد الله ابن الإمام أحمد في "مسائله": ثنا أبي: ثنا حجاج : أبنا شعبة ، قال: سمعت عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ، قال: سمعت صفية بنت شيبة ، قالت: كانت امرأة تصلي عند البيت إلى مرفقة، وكانت عائشة تطوف، فمرت عائشة بينها وبين المرفقة، فقالت عائشة : إنما يقطع الصلاة الهر والكلب الأسود.

ولعل عائشة - رضي الله عنها - كانت ترى أن المسجد الحرام لا يمنع فيه المرور بين يدي المصلي كما سبق، وإنما ذكرت أن الصلاة لا تقطع بذلك لئلا; تظن تلك المرأة بطلان صلاتها. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية