صفحة جزء
[ ص: 39 ] 5 - باب

فضل الصلاة لوقتها

504 527 - حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك : ثنا شعبة ، قال : الوليد بن العيزار أخبرني ، قال : سمعت أبا عمرو الشيباني يقول : ثنا صاحب هذه الدار - وأشار إلى دار عبد الله - ، قال : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) . قال : ثم أي ؟ قال : ( ثم بر الوالدين ) . قال : ثم أي ؟ قال : ( الجهاد في سبيل الله ) . قال : حدثني بهن ، ولو استزدته لزادني .


وخرجه بهذا الإسناد بعينه في كتاب البر والصلة " .

وخرجه أول " الجهاد " من طريق مالك بن مغول ، عن الوليد ، به ، ولفظه : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي العمل أفضل ؟ قال : ( الصلاة على ميقاتها ) - وذكر باقيه بمعناه .

وفي رواية لمسلم من حديث أبي يعفور ، عن الوليد - بهذا الإسناد - ، قلت : يا نبي الله ، أي الأعمال أقرب إلى الجنة ؟ قال : ( الصلاة على مواقيتها ) - وذكر باقيه .

وهذه الألفاظ متقاربة المعنى أو متحدة ; لأن ما كان من الأعمال أحب إلى الله فهو أفضل الأعمال ، وهو أقرب إلى الجنة من غيره ; فإن ما كان أحب إلى الله فعامله أقرب إلى الله من غيره ، كما في حديث أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه ، قال : ( ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال [ ص: 40 ] عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) - وذكر الحديث .

خرجه البخاري في " الرقاق " من " كتابه " هذا .

وقال عمر بن الخطاب : أفضل الأعمال أداء ما فرض الله .

وكذا قال عمر بن عبد العزيز في خطبته .

فدل حديث ابن مسعود هذا على أن أفضل الأعمال وأقربها إلى الله وأحبها إليه الصلاة على مواقيتها المؤقتة لها .

وقد روي في هذا الحديث زيادة ، وهي : ( الصلاة في أول وقتها ) ، وقد خرجها ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما " والحاكم والدارقطني من طرق متعددة .

ورويت من حديث عثمان بن عمر ، عن مالك بن مغول ، [و] من حديث علي بن حفص المدائني ، عن شعبة ، ورويت عن شعبة من وجه آخر ، وفيه نظر ، ورويت من وجوه أخر .

واستدل بذلك على أن الصلاة في أول الوقت أفضل ، كما استدل لحديث أم فروة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه سئل : أي العمل أفضل ؟ قال : ( الصلاة لأول وقتها ) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .

وفي إسناده اضطراب - : قاله الترمذي والعقيلي .

وقد روي نحوه من حديث ابن عمر ، إلا أن إسناده وهم ، وإنما هو حديث [ ص: 41 ] أم فروة - : قاله الدارقطني في " العلل " .

وروي نحوه من حديث الشفاء بنت عبد الله .

وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الصلاة على وقتها - أو على مواقيتها ) : دليل - أيضا - على فضل أول الوقت للصلاة ; لأن " على " للظرفية ، كقولهم : ( كان كذا على عهد فلان ) ، والأفعال الواقعة في الأزمان المتسعة عنها لا تستقر فيها ، بل تقع في جزء منها ، لكنها إذا وقعت في أول ذلك الوقت فقد صار الوقت كله ظرفا لها حكما .

ولهذا سمي المصلي مصليا في حال صلاته وبعدها إما حقيقة أو مجازا على اختلاف في ذلك ، وأما قبل الفعل في الوقت فليس بمصل حقيقة ولا حكما ، وإنما هو مصل بمعنى استباحة الصلاة فقط ، فإذا صلى في أول الوقت فإنه لم يسم مصليا إلا في آخر الوقت .

وقوله : ( ثم بر الوالدين ) لما كان ابن مسعود له أم احتاج إلى ذكر بر والديه بعد الصلاة ; لأن الصلاة حق الله وحق الوالدين متعقب لحق الله عز وجل ، كما قال تعالى : أن اشكر لي ولوالديك

وقوله : ( ثم الجهاد في سبيل الله ) ; لأن الجهاد فرض كفاية ، والدخول فيه بعد قيام من سقط به حق فرض الكفاية تطوع إذا لم يتعين بحضور العدو ، ولهذا تقدم بر الوالدين على الجهاد إذا لم يتعين ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن أراد أن يجاهد معه : ( ألك والدان ؟ ) قال : نعم . [قال] : ( ففيهما فجاهد ) - وفي رواية : ( فأمره أن يرجع إليهما ) .

فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود أن أفضل الأعمال القيام بحقوق الله التي فرضها على عباده فرض ، وأفضلها : الصلاة لوقتها ، ثم القيام بحقوق عباده ، وآكده [ ص: 42 ] بر الوالدين ، ثم التطوع بأعمال البر ، وأفضلها الجهاد في سبيل الله .

وهذا مما يستدل به الإمام أحمد ومن وافقه على أن أفضل أعمال التطوع الجهاد .

فإن قيل : فقد روي خلاف ما يفهم منه ما دل عليه حديث ابن مسعود هذا ; ففي " الصحيحين " ، عن أبي هريرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( إيمان بالله ورسوله ) . قيل : ثم أي ؟ قال : ( الجهاد في سبيل الله ) . قيل : ثم أي ؟ قال : ( حج مبرور ) .

وفيهما - أيضا - عن أبي ذر ، أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله ) .

ولم يذكر في هذين الحديثين الصلاة ولا بر الوالدين ، وروي نصوص أخر بأن الجهاد أفضل الأعمال مطلقا ، وروي ما يدل على أن أفضل الأعمال ذكر الله عز وجل ، وجاء ذلك صريحا عن جماعة كثيرة من الصحابة - رضي الله عنهم - .

قيل : هذا مما أشكل فهمه على كثير من الناس ، وذكروا في توجيهه والجمع بين النصوص الواردة به وجوها غير مرضية .

فمنهم من قال : أراد بقوله : " أفضل الأعمال كذا " أي : أن ذلك من أفضل الأعمال ، لا أنه أفضلها مطلقا .

وهذا في غاية البعد .

ومنهم من قال : أجاب كل سائل بحسب ما هو أفضل الأعمال له خاصة كما خص ابن مسعود بذكر الوالدين لحاجته إليه ، ولم يذكر ذلك لغيره .

لكن أبو هريرة كانت له أم - أيضا .

[ ص: 43 ] وظهر لي في الجمع بين نصوص هذا الباب ما أنا ذاكره بحمد الله وفضله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فنقول :

لا ريب أن أفضل الأعمال ما افترضه الله على عباده ، كما ذكرنا الدليل عليه في أول الكلام على هذا الحديث ، وأولى الفرائض الواجبة على العباد وأفضلها الإيمان بالله ورسوله ، تصديقا بالقلب ، ونطقا باللسان ، وهو النطق بالشهادتين ، وبذلك بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأمر بالقتال عليه ، وقد سبق ذلك مبسوطا في " كتاب الإيمان " .

ثم بعد ذلك : الإتيان ببقية مباني الإسلام الخمس التي بني عليها ، وهي : الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج .

وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر من يبعثه يدعو إلى الإسلام أن يدعو أولا إلى الشهادتين ، ثم إلى الصلاة ، ثم إلى الصيام ، ثم إلى الزكاة ، كما أمر بذلك معاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن ، وكان يعلم من يسأله عن الإسلام مبانيه الخمس ، كما في حديث سؤال جبريل عليه السلام له عن الإسلام ، وكما في حديث طلحة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم الأعرابي الذي سأله عن الإسلام المباني .

فإذا تقرر هذا ، فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة لما سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( إيمان بالله ورسوله ) فهذا وجه ظاهر ، لا إشكال فيه ; فإن الإيمان بالله ورسوله أفضل الأعمال مطلقا ، وسمى الشهادتين مع التصديق بهما عملا ، لما في ذلك من عمل القلب واللسان .

وقد قرر البخاري ذلك في " كتاب الإيمان " وسبق الكلام عليه في موضعه .

وقوله في حديث أبي هريرة : ( ثم الجهاد في سبيل الله ) ، وفي حديث أبي ذر : " والجهاد " - بالواو - يشهد له أن الله قرن بين الإيمان به وبرسوله [ ص: 44 ] والجهاد في سبيله في مواضع ، كقوله تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم وقوله : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم الآية .

فالإيمان بالله ورسوله : التصديق بهما في القلب مع الإقرار بذلك باللسان . والجهاد هو دعاء الناس إلى ذلك بالسيف والسنان ، بعد دعائهم بالحجة والبيان ، ولهذا يشرع الدعاء إلى الإسلام قبل القتال .

وقد قيل : إن الجهاد كان في أول الإسلام فرض عين على المسلمين كلهم ، لا يسع أحدا التخلف عنه ، كما قال تعالى : انفروا خفافا وثقالا ثم بعد ذلك رخص لأهل الأعذار ، ونزل قوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة روي ذلك عن ابن عباس وغيره ، وحينئذ فيحتمل جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأعمال بعد الإيمان الجهاد معنيين :

أحدهما : أن يقال : إنما كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين ، فكان حينئذ أفضل الأعمال بعد الإيمان ، وقرينا له ، فلما نزلت الرخصة وصار الجهاد فرض كفاية تأخر عن فرض الأعيان .

وقد اختلف ابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص في عد الجهاد من فرائض الإسلام ، فعده عبد الله بن عمرو منها بعد الحج ، وأنكر ذلك ابن عمر عليه ، وقال : فرائضه تنتهي إلى الحج .

وقد روى اختلافهما في ذلك أبو عبيد في " كتاب الناسخ والمنسوخ " وغيره .

وعد حذيفة بن اليمان الجهاد من سهام الإسلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأضافهما إلى مباني الإسلام الخمس ، وجعلها ثمانية سهام ، وكأنه [ ص: 45 ] جعل الشهادتين سهمين .

والثاني - وهو أشبه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سئل عن أفضل الأعمال ، فتارة يذكر الإيمان بالله ورسوله لدخوله في مسمى الأعمال ، كما سبق تقريره ، وتارة يذكر أعمال الجوارح ; لأن المتبادي إلى الفهم عند ذكر الأعمال مع الإطلاق أعمال الجوارح ، دون عمل القلب واللسان ، فكان إذا تبين له أن ذلك هو مراد السائل ذكر الصلاة له ، كما ذكرها في حديث ابن مسعود هذا ; فإن الصلاة أفضل أعمال الجوارح ، وحيث أجاب بذكر الإيمان أو بذكر الصلاة ، فإنما مقصوده التمثيل بأفضل مباني الإسلام ، ومراده المباني بجملتها ; فإن المباني الخمس كالشيء الواحد ، وكل من دخل في الإسلام بالإقرار بالشهادتين أو بالصلاة - على رأي من يرى فعلها إسلاما - ، فإنه يؤمر ببقية المباني ، ويلزم بذلك ، ويقاتل على تركه .

وفي حديث خرجه الإمام أحمد . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أربع فرضهن الله في الإسلام ، فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئا حتى يأتي بهن جميعا : الصلاة ، والزكاة ، وصيام رمضان ، [وحج البيت] ) .

وفي حديث آخر : ( الدين خمس لا يقبل الله منهن شيئا دون شيء ) - فذكر مباني الإسلام الخمس ، وأن من أتى ببعضها دون بعض لم يقبل منه .

ونفي القبول لها بمعنى نفي الرضا بذلك واستكمال الثواب عليه ، وحينئذ [ ص: 46 ] فذكر بعض المباني مشعر بالباقي منها ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة يكتفي في جواب من سأله عن أفضل الأعمال بالشهادتين ، وتارة بالصلاة ، ومراده في كلا الجوابين سائر المباني ، لكنه خص بالذكر أشرفها ، فكأنه قال : الشهادتان وتوابعهما ، والصلاة وتوابعها ولوازمها ، وهو بقية المباني الخمس .

ويشهد لهذا : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ) .

فتوهم طائفة من الصحابة أن مراده أن مجرد هذه الكلمة يعصم الدم حتى توقفوا في قتال من منع الزكاة ، حتى بين لهم أبو بكر - ورجع الصحابة إلى قوله - : أن المراد : الكلمتان بحقوقهما ولوازمهما ، وهو الإتيان ببقية مباني الإسلام .

وقد تبين صحة قولهم بروايات أخر تصرح بإضافة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلى الشهادتين في شرط عصمة الدم .

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( من قال : لا إله إلا الله لم تمسه النار - أو دخل الجنة ) .

إنما أراد الشهادتين بلوازمهما وتوابعهما ، وهو الإتيان ببقية أركان الإسلام ومبانيه .

وفي حديث ابن مسعود قدم بر الوالدين على الجهاد إشارة إلى أن حقوق العباد اللازمة التي هي من فروض الأعيان تقدم على التطوع بالجهاد .

وحديث أبي هريرة وأبي ذر فيهما اقتران الجهاد بالإيمان ، لكنه في حديث أبي هريرة جعله بعد الإيمان ، وجعل بعده الحج المبرور ، فيحتمل أن يقال : [ ص: 47 ] كان ذلك في زمان كان الجهاد فيه فرض عين ، فكان مقدما على الحج ، ويحتمل أن يقال : قد فهم دخول الحج من ذكر الإيمان بالله ورسوله ; لأن ذلك يتبعه بقية مباني الإسلام ، ومنها الحج ، لا سيما وقد تقرر في أول الكتاب أن الإيمان قول وعمل ويكون المراد به جهاد المتطوع .

وهذا أشبه بقواعد الشريعة ; فإن من معه مال ، وعليه زكاة أو حج ، وأراد التطوع بالجهاد ، فإنه لا خلاف أنه يقدم الزكاة والحج على التطوع بالجهاد ، كما قال عبد الله بن عمرو بن العاص : حجة قبل الغزو أفضل من عشر غزوات ، وغزوة بعد حجة أفضل من عشر حجات .

وروي - مرفوعا - من وجوه في أسانيدها مقال .

فتبين بهذا التقرير أن الأحاديث كلها دالة على أن أفضل الأعمال الشهادتان مع توابعهما ، وهي بقية مباني الإسلام ، أو الصلاة مع توابعها - أيضا - من فرائض الأعيان التي هي من حقوق الله عز وجل ، ثم يلي ذلك في الفضل حقوق العباد التي هي من فروض الأعيان ، كبر الوالدين ، ثم بعد ذلك [أعمال] التطوع المقربة إلى الله ، وأفضلها الجهاد .

وفي حديث أبي هريرة تأخير الحج عن الجهاد ، ولعله إنما ذكره بعد الجهاد حيث كان الحج تطوعا ، فإن الصحيح أن فرضه تأخر إلى عام الوفود .

وقد يقال : حديث أبي هريرة دل على أن جنس الجهاد أشرف من جنس الحج ، فإن عرض للحج وصف يمتاز به على الجهاد وهو كونه فرض عين ، كان ذلك الحج المخصوص أفضل من الجهاد ، وإلا فالجهاد أفضل منه .

[ ص: 48 ] فهذه الثلاثة المذكورة في هذا الحديث هي رأس الإسلام وعموده وذروة سنامه ، كما في حديث معاذ : ( فرأسه الشهادتان ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ) .

والجهاد أفضل ما تطوع به من الأعمال ، على ما دلت عليه النصوص الصحيحة الكثيرة ، وهو مذهب الإمام أحمد .

وفي " الصحيحين " عن أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أفضل الناس مؤمن آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره ) .

فهذا نص في أن المجاهد أفضل من المتخلي لنوافل العبادات من الصلاة والذكر وغير ذلك ، فأما النصوص التي جاءت بتفضيل الذكر على الجهاد وغيره من الأعمال ، وأن الذاكرين لله أفضل الناس عند الله مطلقا ; فالمراد بذلك أهل الذكر الكثير المستدام في أغلب الأوقات .

وليس الذكر مما يقطع عن غيره من الأعمال كبقية الأعمال ، بل يمكن اجتماع الذكر مع سائر الأعمال ، فمن عمل عملا صالحا ، وكان أكثر لله ذكرا فيه من غيره فهو أفضل ممن عمل مثل ذلك العمل من غير أن يذكر الله معه .

وقد ورد في نصوص متعددة أن أفضل المصلين والمتصدقين والمجاهدين والحاج وغيرهم من أهل العبادات أكثرهم لله ذكرا .

وقد خرجه الإمام أحمد متصلا ، وخرجه ابن المبارك وغيره مرسلا .

فهؤلاء أفضل الناس عند الله ، ثم يليهم الذين يذكرون الله كثيرا وليس لهم نوافل من غير الذكر كالجهاد وغيره ، بل يقتصرون مع الذكر على فرائض الأعيان ، [ ص: 49 ] فهؤلاء هم الذاكرون لله كثيرا ، المفضلون على المجاهدين ، ويليهم قوم يقومون بالفرائض وبالنوافل كالجهاد وغيره من غير ذكر كثير لهم .

وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عما يعدل الجهاد : ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر ، وتقوم ولا تفتر ؟ ) . قال : لا . قال : ( فذلك الذي يعدل الجهاد ) ; لأنه سأله عن عمل ينشئه عند خروج المجاهد يعادل فضل جهاده .

وأما الذاكرون لله كثيرا ، فإنما فضلوا على المجاهدين بغير ذكر ; لأن لهم عملا مستمرا دائما قبل جهاد المجاهدين ، ومعه وبعده ، فبذلك فضلوا على المجاهدين بغير ذكر كثير .

وبهذا تجتمع النصوص الواردة في ذلك .

وأما حديث : ( خير الإسلام إطعام الطعام وإفشاء السلام ) فقد سبق الكلام عليه في أول الكتاب ، وأنه ليس المراد به تفضيل هاتين الخصلتين على سائر خصال الإسلام من الشهادتين والصلاة وغيرهما ، بل المراد أن أفضل أهل الإسلام القائمين بخصاله المفروضة من الشهادتين والصلاة والصيام والزكاة والحج ، من قام بعد ذلك بإطعام الطعام وإفشاء السلام .

فإن قيل : فيكون التطوع بذلك أفضل من التطوع بالجهاد والحج .

قيل : فيه تفصيل : فإن كان إطعام الطعام فرض عين كنفقة من تلزم نفقته من الأقارب فلا ريب أنه أفضل من التطوع بالنفقة في الجهاد والحج ، فإن كان تطوعا ، فإن كان صلة رحم فهو أفضل من الجهاد والحج ، نص عليه أحمد وكذا إن كان في عام مجاعة ونحوها ، فهو أفضل من الحج عند الإمام أحمد ، [ ص: 50 ] وقد يقال في الجهاد كذلك إذا لم يتعين .

وهذا الكلام كله في تفضيل بعض الأعمال على بعض لذاتها ، فأما تفضيل بعض الأعمال على بعض لزمانها أو مكانها فإنه قد يقترن بالعمل المفضول من زمان أو مكان ما يصير به فاضلا ، فهذا فيه كلام آخر نذكره في موضع آخر - إن شاء الله سبحانه وتعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية