صفحة جزء
[ ص: 126 ] فصل

خرج البخاري ومسلم :

29 29 - من حديث مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أريت النار فرأيت أكثر أهلها النساء بكفرهن " . قيل : أيكفرن ؟ قال : " يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ; لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ، ثم رأت منك شيئا - قالت : ما رأيت منك خيرا قط "

وقال البخاري : كفر دون كفر .


والكفر قد يطلق ويراد به الكفر الذي لا ينقل عن الملة مثل كفران العشير ونحوه ، وهذا عند إطلاق الكفر . فأما إن ورد الكفر مقيدا بشيء فلا إشكال في ذلك كقوله تعالى : فكفرت بأنعم الله

وإنما المراد هاهنا أنه قد يرد إطلاق الكفر ، ثم يفسر بكفر غير ناقل عن الملة ، وهذا كما قال ابن عباس في قوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال : ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ، إنه ليس بكفر ينقل عن الملة ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون كفر دون كفر .

[ ص: 127 ] خرجه الحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .

وعنه في هذه الآية قال : هو به كفر ، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .

وكذا قال عطاء وغيره : كفر دون كفر .

وقال النخعي : الكفران كفران : كفر بالله ، وكفر بالمنعم .

واستدل البخاري لذلك بحديث ابن عباس الذي خرجه هاهنا ، وهو قطعة من حديث طويل خرجه في " أبواب الكسوف " ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق على النساء الكفر ، فسئل عنه ، ففسره بكفر العشير .

وحديث أبي سعيد في هذا المعنى يشبه حديث ابن عباس .

وقد خرج هذا المعنى من حديث ابن عمر وأبي هريرة أيضا .

وفي المعنى أيضا حديث ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " . وقد خرجه البخاري في موضع آخر .

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض .

وقوله : من قال لأخيه : يا كافر - فقد باء بها أحدهما " .

[ ص: 128 ] وللعلماء في هذه الأحاديث وما أشبهها مسالك متعددة :

منهم من حملها على من فعل ذلك مستحلا لذلك .

وقد حمل مالك حديث " من قال لأخيه : يا كافر " - على الحرورية المعتقدين لكفر المسلمين بالذنوب . نقله عنه أشهب .

وكذلك حمل إسحاق بن راهويه حديث " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد كفر " - على المستحل لذلك . نقله عنه حرب وإسحاق الكوسج .

ومنهم من يحملها على التغليظ والكفر الذي لا ينقل عن الملة كما تقدم عن ابن عباس وعطاء .

ونقل إسماعيل الشالنجي عن أحمد ، وذكر له قول ابن عباس المتقدم ، وسأله : ما هذا الكفر ؟ قال أحمد : هو كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض ، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه .

قال محمد بن نصر المروزي : واختلف من قال من أهل الحديث : إن مرتكب الكبائر مسلم وليس بمؤمن - هل يسمى كافرا كفرا لا ينقل عن الملة كما قال عطاء : كفر دون كفر ، وقال ابن عباس وطاوس : كفر لا ينقل عن الملة ؟ على قولين لهم .

قال : وهما مذهبان في الجملة محكيان عن أحمد بن حنبل في موافقيه من أهل الحديث .

قلت : قد أنكر أحمد في رواية المروذي ما روي عن عبد الله بن عمرو أن شارب الخمر يسمى كافرا ، ولم يثبته عنه مع أنه قد روي عنه من وجوه كثيرة ، وبعضها إسناده حسن .

[ ص: 129 ] وروي عنه مرفوعا .

وكذلك أنكر القاضي أبو يعلى جواز إطلاق كفر النعمة على أهل الكبائر ، ونصب الخلاف في ذلك مع الزيدية من الشيعة ، والإباضية من الخوارج .

ورواية إسماعيل الشالنجي عن أحمد قد توافق ذلك ، فمن هنا حكى محمد بن نصر عن أحمد في ذلك مذهبين .

والذي ذكره القاضي أبو عبد الله بن حامد شيخ القاضي أبي يعلى عن أحمد جواز إطلاق الكفر والشرك على بعض الذنوب التي لا تخرج عن الملة ، وقد حكاه عن أحمد .

وقد روي عن جابر بن عبد الله أنه سئل : هل كنتم تسمون شيئا من الذنوب الكفر أو الشرك ؟ قال : معاذ الله ، ولكنا نقول مؤمنين مذنبين .

خرجه محمد بن نصر وغيره .

وكان عمار ينهى أن يقال لأهل الشام الذين قاتلوهم بصفين : كفروا . وقال : قولوا : فسقوا ، قولوا : ظلموا .

وهذا قول ابن المبارك وغيره من الأئمة .

وقد ذكر بعض الناس أن الإيمان قسمان :

أحدهما : إيمان بالله ، وهو الإقرار والتصديق به .

والثاني : إيمان لله ، وهو الطاعة والانقياد لأوامره .

فنقيض الإيمان الأول الكفر ، ونقيض الإيمان الثاني الفسق ، وقد يسمى كفرا ولكن لا ينقل عن الملة .

وقد وردت نصوص اختلف العلماء في حملها على الكفر الناقل عن [ ص: 130 ] الملة أو على غيره مثل الأحاديث الواردة في كفر تارك الصلاة .

وتردد إسحاق بن راهويه فيما ورد في إتيان المرأة في دبرها أنه كفر ، هل هو مخرج عن الدين بالكلية ؟ أم لا ؟

ومن العلماء من يتوقى الكلام في هذه النصوص تورعا ، ويمرها كما جاءت من غير تفسير مع اعتقادهم أن المعاصي لا تخرج عن الملة .

وحكاه ابن حامد رواية عن أحمد .

ذكر صالح بن أحمد وأبو الحارث أن أحمد سئل عن حديث أبي بكر الصديق : " كفر بالله تبر من نسب وإن دق ، وكفر بالله ادعاء إلى نسب لا يعلم " .

قال أحدهما : قال أحمد : قد روي هذا عن أبي بكر ، والله أعلم . وقال الآخر : قال : ما أعلم ، قد كتبناها هكذا .

قال أبو الحارث : قيل لأحمد : حديث أبي هريرة " من أتى النساء في أعجازهن فقد كفر " ! فقال : قد روي هذا ، ولم يزد على هذا الكلام .

وكذا قال الزهري لما سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لطم الخدود " وما أشبهه من الحديث ، فقال : من الله العلم ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم .

ونقل عبدوس بن مالك العطار عن أحمد أنه ذكر هذه الأحاديث التي ورد فيها لفظ الكفر ، فقال : نسلمها وإن لم نعرف تفسيرها ، ولا نتكلم فيه ، ولا نفسرها إلا بما جاءت .

ومنهم من فرق بين إطلاق لفظ الكفر ، فجوزه في جميع أنواع الكفر [ ص: 131 ] سواء كان ناقلا عن الملة أو لم يكن ، وبين إطلاق اسم الكافر ، فمنعه إلا في الكفر الناقل عن الملة ; لأن اسم الفاعل لا يشتق إلا من الفعل الكامل . ولذلك قال في اسم المؤمن : لا يقال إلا للكامل الإيمان ، فلا يستحقه من كان مرتكبا للكبائر حال ارتكابه ، وإن كان يقال : قد آمن ، ومعه إيمان .

وهذا اختيار ابن قتيبة .

وقريب منه : قول من قال : إن أهل الكتاب يقال : إنهم أشركوا وفيهم شرك ، كما قال تعالى : سبحانه عما يشركون ولا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق ، بل يفرق بينهم وبين المشركين كما في قوله تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فلا تدخل الكتابية في قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وقد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره .

وكذلك كره أكثر السلف أن يقول الإنسان : أنا مؤمن ، حتى يقول : إن شاء الله ، وأباحوا أن يقول : آمنت بالله .

وهذا القول حسن لولا ما تأوله ابن عباس وغيره في قوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية