صفحة جزء
[ ص: 382 ] 41 - باب

السمر مع الأهل والضيف

577 602 - ثنا أبو النعمان : ثنا المعتمر بن سليمان : ثنا أبي : ثنا أبو عثمان ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر ، قال : إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، وإن أربعة فخامس أو سادس ) وإن أبا بكر جاء بثلاثة ، وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشرة . قال : فهو أنا وأبي وأمي - ولا أدري هل قال : وامرأتي - وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر ، وإن أبا بكر تعشى عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لبث حتى صليت العشاء ، ثم رجع فلبث حتى تعشى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله . قالت له امرأته : ما حبسك عن أضيافك - أو قال : ضيفك - ؟ قال : أوما عشيتيهم ؟ قالت : أبوا حتى تجيء ، قد عرضوا فأبوا . قال : فذهبت أنا فاختبأت ، قال : يا غنثر ، فجدع وسب ، وقال : كلوا لا هنيئا . فقال : والله ، لا أطعمه أبدا ، وايم الله ، ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها ، حتى شبعوا ، وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك ، فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر . قال لامرأته : يا أخت بني فراس ، ما هذا ؟ قالت : لا وقرة عيني ، لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات ، فأكل منها أبو بكر ، وقال : إنما كان ذلك من الشيطان - يعني : يمينه - ثم أكل منها لقمة ، ثم حملها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأصبحت عنده ، وكان بيننا وبين قوم عقد ، فمضى الأجل ، فعرفنا اثني عشر رجلا ، مع كل رجل منهم أناس ، الله أعلم كم مع كل رجل ، فأكلوا منها أجمعون - أو كما قال .


[ ص: 383 ] في هذا الحديث فوائد كثيرة :

منها : استحباب إيثار الفقراء بالشبع من الطعام ومواساتهم فيه ، فلهذا أمر من كان عنده طعام اثنين أن يذهب بثالث ، ومن كان عنده طعام أربعة أن يذهب بخامس - أو سادس - وهذا شك من الراوي .

ولفظ مسلم في هذا الحديث : ( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة ، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس ، بسادس ) أو كما قال .

وهذا يدل على أن الراوي شك .

وفي ( الصحيحين ) ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( طعام الاثنين كافي الثلاثة ، وطعام الثلاثة كافي الأربعة ) .

وفي ( صحيح مسلم ) ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة ، وطعام الأربعة يكفي الثمانية ) .

وفي هذا إشارة إلى أن البركة تتضاعف مع الكثرة والاجتماع على الطعام .

وفي ( سنن ابن ماجه ) بإسناد ضعيف ، عن عمر - مرفوعا - : ( كلوا جميعا ولا تفرقوا ؛ فإن البركة مع الجماعة ) .

وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث وحشي ، أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : يا رسول الله ، إنا نأكل ولا نشبع ؟ قال : ( فلعلكم تتفرقون ؟ ) قالوا : نعم . قال : ( فاجتمعوا على طعامكم ، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه ) .

ومعنى : ( يكفي ) : أنه يكتفي به ، وإن لم يشبعه .

[ ص: 384 ] وكان عمر في عام الرمادة يدخل على أهل البيت من المسلمين مثلهم ، ويقول : لن يهلك امرؤ وعنده نصف قوته .

فهذا مأخوذ من هذا الحديث . والله أعلم .

ومجيء أبي بكر بثلاثة ، إن كان هو وامرأته وابنه فقط ، فقد أتى بنظير عدتهم ، وإن كانوا خمسة - على رواية الشك - فقد صاروا ثمانية ، وطعام الأربعة يكفي الثمانية .

وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة على قدر قوته على الإيثار ، وما خصه الله به من الجود والكرم في اليسر والإعسار .

ومنها : أنه إذا أتى الإنسان بضيوف إلى منزله ، فإنه يجوز له أن يكلهم إلى أهله وولده ، ولا يحضر معهم في الأكل ؛ فإن في ذلك كفاية إذا وثق من أهله وولده بالقيام بحقهم .

ومنها : اختصاص أبي بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في عشائه عنده ، واحتباسه إلى أن يمضي ما شاء الله من الليل .

وقد سبق حديث عمر في سمر أبي بكر وعمر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في الباب الماضي .

وأما سب أبي بكر ولده ؛ فظنه أنه قصر في حق ضيفه ، ولم يقم به كما ينبغي .

ومعنى ( جدع ) - أي : قطعه بالقول الغليظ .

وأما قوله : ( يا غنثر ) ، فروي بوجهين - ذكرهما الخطابي :

أحدهما : ( عنتر ) بالعين المهملة ، والتاء المثناة من فوق ، وهما مفتوحتان .

[ ص: 385 ] قال الخطابي : إن كانت هذه محفوظة ، فالعنتر : الذباب - : قاله ثعلب .

سمي به لصوته ؛ وكأنه حين حقره وصغره شبهه بالذباب .

والثاني : ( غنثر ) بالغين المعجمة المضمومة وبالثاء المثلثة - فهو مأخوذ من الغثارة ، وهي : الجهل ، يقال : رجل أغثر وغنثر . والنون زائدة .

ومنها : إثبات كرامات الأولياء وخرق العوائد لهم .

وهو قول عامة أهل السنة ، ووافق على ذلك المعتزلة في زمن الأنبياء خاصة ، كما جرى لأبي بكر في هذه القضية ، وجعلوها من جملة معجزاتهم حينئذ .

والتحقيق : أنها من جملة معجزات الأنبياء على كل حال ، وفي كل زمان ؛ لأن ما يكرم الله بذلك أولياءه ، فإنما هو من بركة اتباعهم للأنبياء ، وحسن اقتدائهم بهم ، فدوام ذلك لأتباعهم وخواصهم من جملة معجزاتهم وآياتهم .

ومنها : جواز الإهداء إلى الإخوان الطعام بالليل ، مع العلم بأنهم قد تعشوا واكتفوا ، وإن أدى ذلك إلى أن يبيت الطعام عندهم .

واستمرت هذه الآية في ذلك الطعام حتى أكل منه الجمع الكثير من الغد .

ومعنى : ( عرفنا اثني عشر رجلا ) - أي : جعلناهم عرفا .

وروي : ( ففرقنا ) .

ومنها : من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيرا منها ، فإنه يأتي الذي هو خير ، ولا تحرم عليه يمينه فعل ما حلف على الامتناع منه ، وهذا قول جمهور العلماء .

وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأن يأتي الذي هو خير ويكفر ، وكان في نفسه يفعل ذلك .

وقد قيل : إن اليمين تحرم المحلوف عليه تحريما ترفعه الكفارة .

[ ص: 386 ] والصحيح : خلافه ؛ لأنه يجوز الإقدام على فعل المحلوف قبل التكفير بالاتفاق ، ولو كان محرما لوجب تحليله بالكفارة قبله ، كالظهار .

وفي ( سنن أبي داود ) هذا الحديث ، قال : ( ولم يبلغني كفارة ) وهذا من قول بعض الرواة .

وهذا بمجرده لا ينفي أن يكون أبو بكر كفر عن يمينه ، بل الظاهر - أو المجزوم به - أنه كفرها .

وقد ثبت من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كان أبو بكر إذا حلف على يمين لا يحنث ، حتى نزلت آية الكفارة ، فقال : لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير ، وكفرت يميني .

كذا رواه يحيى القطان والليث والثوري وابن المبارك وغيرهم ، عن هشام .

وخرجه البخاري في ( صحيحه هذا ) من رواية النضر بن شميل ، عن هشام .

وخالفهم الطفاوي ، فرواه عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة .

ورفعه وهم منه ، والصحيح : كان أبو بكر - : كذا قاله البخاري والدارقطني .

وفي ( صحيح مسلم ) عن أبي هريرة ، قال : أعتم رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع إلى أهله ، فوجد الصبية قد ناموا ، فأتاه أهله بطعام ، فحلف لا يأكل ؛ من أجل صبيته ، ثم بدا له فأكل ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك [ له ] ، فقال [ ص: 387 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها ، وليكفر [ عن ] يمينه ) .

ولعل هذا الرجل هو أبو بكر الصديق ، وتكون الإشارة إلى هذه القصة ، إلا أن حديث عبد الرحمن يدل على أنه لم يكن لأبي بكر صبية .

وقد ذهب قوم إلى أن من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه أنه يأتي الذي هو خير ، ويكون ذلك كفارة يمينه ، ولا يحتاج إلى كفارة بمال أو صوم .

وهذا معروف عن ابن المسيب والشعبي وسعيد بن جبير وسالم وعكرمة ، وزاد عليه ، فجعل من حلف بطلاق على معصية ، أنه لا يفعل ما حلف عليه ، ولا طلاق عليه .

وهذا شذوذ .

وروي أصل هذا عن ابن عباس .

وروي عنه مرفوعا .

خرجه ابن حبان في ( صحيحه ) .

ولا يصح رفعه .

وروى مالك بن يحيى بن عمرو بن مالك النكري ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيرا منها ، فليأتها ؛ فإنها كفارتها ، إلا طلاقا أو عتاقا ) .

خرجه ابن عدي .

وقال : هو غير محفوظ ؛ تفرد به يحيى ، عن أبيه .

ويحيى هذا ، ضعفه ابن معين وغيره .

[ ص: 388 ] وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة ، أنها كفارتها أن يأتي الذي هو خير ، وفي أسانيدها كلها مقال .

والأحاديث الصحاح كلها تدل على أنه يكفر يمينه ، قال ذلك أبو داود ومسلم في ( كتاب التمييز ) وغيرهما .

وكانت يمين أبي بكر ألا يأكل هذا الطعام في غضب ، ولهذا قال : إنما ذلك من الشيطان - يعني : يمينه .

وفيه : دليل على انعقاد يمين الغضبان ، كما حلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في غضبه ألا يحمل النفر من الأشعريين ، ثم حملهم ، وقال : ( لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير ) .

وفي الحديث : جواز الحلف بقرة العين ؛ فإن امرأة أبي بكر حلفت بذلك ، ولم ينكره عليها .

وقرة عين المؤمن : هو ربه وكلامه وذكره وطاعته .

ومقصود البخاري من هذا الحديث : جواز السمر عند الأهل والضيف ؛ فإن أبا بكر سمر عند أهله وضيفه لما رجع من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ذهب من الليل ما ذهب منه . والظاهر - أيضا - : أنه سمر عند النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي السمر عند الأهل : حديث ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العشاء ، ثم دخل بيته ، فتحدث مع أهله ساعة .

وقد خرجه [ البخاري ] في موضع آخر .

وقد روي عن عائشة ، أنها رأت قوما يسمرون ، فقالت : انصرفوا إلى [ ص: 389 ] أهليكم ، فإن لهم فيكم نصيبا .

وهذا يدل على أنها استحبت السمر عند الأهل لما فيه من المؤانسة لهم ، وهو من حسن العشرة .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسمر مع بعض الوفود الذين يفدون عليه المدينة ، وهو من نوع السمر مع الضيف .

فخرج أبو داود وابن ماجه من رواية عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي ، عن عثمان بن عبد الله بن أوس ، عن جده أوس بن حذيفة ، قال : كنت في وفد ثقيف ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتينا كل ليلة بعد العشاء ، فيحدثنا قائما على رجليه ، حتى يتراوح بين رجليه ، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش - وذكر الحديث .

وسئل أبو حاتم عن هذا الحديث ، فقال : حديث أبي برزة أصح منه .

يعني : حديثه : كان يكره الحديث بعدها .

وروي الرخصة في السمر للمصلي والمسافر [ . . . ] خاصة .

خرجه الإمام أحمد من رواية خيثمة ، عن رجل من قومه من قريش ، عن عبد الله ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا سمر بعد الصلاة ) - يعني : العشاء الآخرة - ( إلا لمصل أو مسافر ) .

قال ابن المديني : في إسناده انقطاع ؛ لأن الرجل الذي لم يسمه خيثمة لا [ ص: 390 ] أدري هو من أصحاب عبد الله ، أو لا ؟ وقد روى خيثمة عن غير واحد من أصحاب عبد الله ، منهم : سويد بن غفلة ، وأرجو أن يكون هذا الرجل منهم .

وقال الأثرم : هو حديث غير قوي ؛ لأن في إسناده رجلا لم يسم .

وقد أخذ به الإمام أحمد ، فكره السمر في حديث الدنيا ، ورخص فيه للمسافر .

وروي من وجه آخر بزيادة ، من رواية ابن وهب ، عن معاوية ، عن أبي عبد الله الأنصاري ، عن عائشة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا سمر إلا لثلاثة : مصل ، أو مسافر ، أو عروس ) .

خرجه سمويه الأصبهاني الحافظ : نا عبد الله بن الزبير : نا ابن وهب - فذكره .

وخرجه بقي بن مخلد في ( مسنده ) : ثنا ابن مقلاص : ثنا ابن وهب : أخبرني معاوية ، عن أبي حمزة ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نائما قبل العشاء ، ولا لاغيا بعدها ، إما ذاكرا فيغنم ، أو نائما فيسلم .

قال معاوية : وحدثني أبو عبد الله الأنصاري ، عن زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : السمر لثلاثة : لعروس ، أو لمسافر ، أو لمتهجد بالليل .

وهذا موقوف على عائشة .

وأبو عبد الله وأبو حمزة ، مجهولان .

وروى الحسين بن إسحاق التستري ، عن أحمد ، أنه سئل عن السمر بعد [ ص: 391 ] العشاء الآخرة ؟ قال : لا ، إلا لمسافر أو مصل ، فأما الفقه فأرجو أن لا يكون به بأس .

ونقل عبد الله بن أحمد ، عن أبيه ، أنه سئل عن الحديث [ الذي ] نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النوم قبل العشاء ، والحديث بعدها ، والرجل يقعد مع عياله بعدما يصلي يتحدث ثم ينام : هل يحرج ؟ قال : ينبغي أن يجتنب الحديث والسمر بعدها .

وهذا يدل على كراهة السمر مع الأهل - أيضا .

وقال سفيان الثوري : كان يقال : لا سمر بعد العشاء ، إلا لمصل ، أو مسافر . قال : ولا بأس أن يكتب الشيء ، أو يعمل بعد العشاء .

وهذا يدل على أن سهر الإنسان في عمل يعمله وحده ، من غير مسامرة لغيره ، أنه لا كراهة فيه ، بخلاف المسامرة والمحادثة . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية