صفحة جزء
[ ص: 439 ] 6 - باب

ما يحقن بالأذان من الدماء

585 610 - حدثني قتيبة : ثنا إسماعيل بن جعفر ، عن حميد ، عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا غزا بنا قوما لم يغز بنا حتى يصبح وينظر ، فإن سمع أذانا كف عنهم ، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم . قال : فخرجنا إلى خيبر ، فانتهينا إليهم ليلا ، فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب ، وركبت خلف أبي طلحة ، وإن قدمي لتمس قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال : فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم ، فلما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : محمد والله ، محمد والخميس . قال : فلما رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الله أكبر ، الله أكبر . خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين .


في هذا الحديث فوائد كثيرة :

منها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يغير على العدو .

والإغارة : تبييت العدو ليلا .

وقد جاءت نصوص أخر بإباحة الإغارة ، وموضع ذكر ذلك " كتاب الجهاد " إن شاء الله .

ومنها : التفاؤل ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رآهم خرجوا بالمكاتل - وهي : الزبيل والقفاف - والمساحي - وهي : المجرفة - وهذه آلات الحراث ، ووقع الأمر كذلك .

ومنها : التكبير على العدو عند مشاهدته .

[ ص: 440 ] ويحتمل أن يكون سر ذلك أن التكبير طارد لشيطان الجن تقارنهم ، فإذا انهزمت شياطينهم المقترنة بهم انهزموا ، كما جرى للمشركين يوم بدر ، فإن إبليس كان معهم يعدهم ويمنيهم ، فلما انهزم انهزموا .

وقولهم : " محمد والخميس " ، فيه روايتان : الخميس ، والجيش ، وهما بمعنى واحد .

وسمي الجيش خميسا ؛ لأنه ينقسم خمسة أجزاء : مقدمة ، وساقة ، وميمنة ، وميسرة ، وقلب .

ومنها - وهو المقصود بهذا الباب - : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجعل [ الأذان ] فرق ما بين دار الكفر ودار الإسلام ، فإن سمع مؤذنا [ للدار ] كحكم ديار الإسلام ، فيكف عن دمائهم وأموالهم ، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم بعدما يصبح .

وفي هذا دليل على أن إقامة الصلاة توجب الحكم بالإسلام ؛ فإن الأذان إنما هو دعاء إلى الصلاة ، فإذا كان موجبا للحكم بالإسلام ، فالصلاة التي هو المقصود الأعظم أولى .

ولا يقال : إنما حكم بإسلامهم بالأذان لما فيه من ذكر الشهادتين ؛ لأن الصلاة تتضمن ذلك - أيضا - فإذا رأينا من ظاهره يصلي - ولا سيما في دار الحرب أو دار لم يعلم أنها دار إسلام - حكمنا بإسلامه لذلك . وهو قول كثير من العلماء ، وهو ظاهر مذهب أحمد .

[ ص: 441 ] وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر بالكف عن دار يسمع فيها الأذان ، أو يرى فيها مسجد ، من رواية ابن عصام المزني ، عن أبيه - وكانت له صحبة - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث جيشا أو سرية يقول لهم : " إذا رأيتم مسجدا ، أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا [ أحدا ] " .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي .

وقال : حسن غريب .

وقال ابن المديني : إسناد مجهول ، وابن عصام لا يعرف ، ولا ينسب أبوه .

وروى الهرماس بن حبيب العنبري ، عن أبيه ، عن جده ، قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيينة بن حصن حين أسلم الناس ودجا الإسلام على الناس ، فهجم على بني عدي بن جندب فوق النباح بذات الشقوق ، فلم يسمعوا أذانا عند الصبح ، فأغاروا عليهم ، فأخذوا أموالهم حتى أحضروها المدينة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فقالت وفود بني العنبر : أخذنا يا رسول الله مسلمين غير مشركين . فرد عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذراريهم وعقار بيوتهم ، وعمل الجيش أنصاف الأموال .

خرجه إبراهيم الحربي في " كتاب غريب الحديث " وأبو القاسم البغوي في " معجم الصحابة " .

وقال الحربي : إنما رد عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذراريهم ؛ لأنه لم ير أن يسبيهم إلا على أمر صحيح لا شك فيه ، وهؤلاء مقرون بالإسلام ، وليس حجة من سباهم ، إلا أنهم قالوا : لم نسمع أذانا . وكذلك فعل في عقار بيوتهم - يريد : [ ص: 442 ] أرضهم - وعمل الجيش جعالة عمالة لهم أنصاف الأموال ؛ وذلك لأن أصحاب الجيش ادعوا أن ذلك فيئا لهم ؛ لأنهم لم يسمعوا أذانا ، والمأخوذ منهم ادعوا أنه لهم ؛ أسلموا عليه .

ثم روى الحربي من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أناس من خثعم ، فاستعصموا بالسجود ، فقتل منهم رجل ، فأعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - نصف الدية .

قال الحربي : لا ، لم يقروا بالإسلام ، وإنما سجدوا ، وقد يسجد ولم يسلم ، فلذلك أعطاهم نصف الدية .

قلت : هذا حديث مرسل .

والذين يقولون : إن الكافر يصير مسلما بالصلاة ، فصلاته عندهم كإقراره بالإسلام .

وذكر - أيضا - حديث الزبيب العنبري ، وقد خرجه أبو داود في " سننه " ، وفيه : أنهم سبوا ، ثم شهد لهم شاهد بالإسلام ، وحلف الزبيب ، فأعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الذراري ونصف الأموال .

قال الحربي : لأنه لم تكمل البينة .

قلت : في سياق حديث أبي داود : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم : " لولا أن الله لا يحب ضلالة العمل ما رزيناكم عقالا " .

وهذا تعليل بغير ما ذكره الحربي .

وحاصل الأمر : أن الدار إن سمع فيها أذان لم يجز الإقدام على قتلهم ابتداء ، بل يصيرون في عصمة دمائهم وأموالهم كالمسلمين ؛ فإن الأذان وإن [ ص: 443 ] كان لم يسمع من بعضهم ، إلا أن ظهوره في دار قوم دليل على إقرارهم بذلك ورضاهم . فأما المؤذن نفسه فإنه يصير مسلما بذلك ، ولا سيما إذا كان في دار كفر وموضع لا يخاف فيه من المسلمين ولا يتقيهم .

وعند أصحابنا : أنه يصير الكافر بالأذان مسلما .

وبه قال الليث بن سعد ، وسعيد بن عبد العزيز . وقالا : لو ادعى أنه فعله تقية وخيفة على نفسه أنه لا يقبل منه ، ويصير مرتدا .

وحكى الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ومالك ، أنه يقبل منه ذلك ولا يقتل .

ذكره محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة " .

وينبغي أن يقبل هذا بموضع يحتمل فيه ذلك كدار الإسلام ، أو دار يخشى أن يغار عليها المسلمون ؛ فإن الكافر إذا أتى بالشهادتين على وجه الإسلام كالذي يجيء ليسلم ، فتعرض عليه الشهادتان فيقولهما ، فإنه يصير مسلما بغير خلاف .

وإن قالهما على غير هذا الوجه ، ثم ادعى أنه لم يرد بهما الإسلام ، فالمشهور عن أحمد ، أنه لا يقبل منه ويصير مرتدا .

وعنه رواية ، أنه يقبل منه ولا يقتل . وهو قول إسحاق .

وضعف هذه الرواية أبو بكر الخلال .

وعن أحمد ، أنه يجبر على الإسلام ، ولا يقتل إن أباه .

وللشافعية - أيضا - وجهان فيما [ إذا ] أتى بالشهادتين على غير وجه الاستدعاء ولا الحكاية : هل يصير مسلما ، أم لا ؟ وأصحهما : أنه يصير مسلما - : حكاهما صاحب " شرح المهذب " .

وإن لم يسمع في الدار أذان :

[ ص: 444 ] فإن كانت معروفة قبل ذلك بأنها دار حرب جاز ابتداؤهم بالقتل والسبي والنهب ، هذا هو الذي دل عليه حديث أنس المخرج في هذا الباب .

وإن كانت معروفة بأنها دار إسلام ، ولم يسمع فيها أذان ، فهذه مسألة قتال أهل البلدة المسلمين إذا اتفقوا على ترك الأذان .

وهي مبنية على أن الأذان على أهل الأمصار والقرى : هل هو فرض كفاية ، أو سنة مؤكدة ؟

وفيه قولان :

أحدهما : أنه فرض كفاية ، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد ، وقول داود ، ووافقهم جماعات من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي .

وكذا قال عطاء ومجاهد وابن أبي ليلى والأوزاعي وأهل الظاهر : إن الأذان فرض .

وحكي عن هؤلاء كلهم أن الإقامة شرط لصحة الصلاة ، فمن ترك الإقامة وصلى أعاد الصلاة .

وعن الأوزاعي : أنه يعيد في الوقت .

وقال عثمان بن كنانة من المالكية : يعيد إذا تركها عمدا .

وذهب الجمهور إلى أنه لا إعادة على من صلى بغير أذان ولا إقامة .

واستدلوا لوجوب الأذان بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " .

وقد خرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث وعمرو بن سلمة الجرمي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 445 ] وروى ابن جرير الطبري ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن أشهب ، عن مالك ، قال : إذا ترك الأذان مسافر عمدا أعاد الصلاة .

وهذا غريب جدا .

وحكى ابن عبد البر نحوه عن داود .

ونقل ابن منصور ، عن إسحاق ، قال : إذا نسي الأذان والإقامة وصلى أجزأه ، وإن كان في السفر فلا بد له من الإقامة .

والقول الثاني : أن الأذان سنة مؤكدة ، وهو ظاهر مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي ، ورواية عن أحمد .

فمن قال : الأذان فرض كفاية ، قال : إذا اجتمع أهل بلد على تركه قوتلوا عليه حتى يفعلوه .

ومن قال : هو سنة ، اختلفوا على قولين :

أحدهما : أنهم يقاتلون عليه - أيضا - لأنه من أعلام الدين وشرائعه الظاهرة ، وهو قول محمد بن الحسن وطائفة من الشافعية .

والثاني : لا يقاتلون عليه كسائر النوافل ، وهو قول أبي حنيفة وطائفة من الشافعية .

وقال أبو يوسف : آمرهم وأضربهم ، ولا أقاتلهم ؛ لأنه دون الفرائض وفوق النوافل .

واستدل بعض من قال : يقاتلون على تركه بحديث أنس هذا ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الأذان مانعا من القتال ، وتركه مبيحا له ، فدل على استباحة القتال بمجرد تركه ، وإن جاز أن يكونوا قد أسلموا .

التالي السابق


الخدمات العلمية