صفحة جزء
590 [ ص: 471 ] 9 - باب

الاستهام في الأذان

ويذكر أن قوما اختلفوا في الأذان ، فأقرع بينهم سعد .


قال عبد الله ابن الإمام أحمد : ثنا أبي : ثنا هشيم ، قال : ابن شبرمة أخبرنا ، قال : تشاح الناس بالقادسية على الأذان ، فارتفعوا إلى سعد ، فأقرع بينهم .

وهذا إسناد منقطع .

قال عبد الله ابن الإمام أحمد : سألت أبي عن مسجد فيه رجلان يدعيان أنهما أحق بالمسجد ، هذا يؤذن فيه وهذا يؤذن فيه ؟ فقال : إذا استووا في الصلاح والورع أقرع بينهما . وكذلك فعل سعد ، فإن كان أحدهما أصلح [ في دينه ] فينبغي لهم ألا يختصموا .

فقلت : وإن كان أحدهما أسن وأقدم في هذا المسجد ، ينفق عليه ويحوطه ويتعاهده ؟ قال : هذا أحق به .

ومعنى هذا : أنه إذا تشاح في الأذان اثنان ، فإن امتاز أحدهما بمزيد فضل في نفسه فإنه يقدم ، وهو مراد أحمد بقوله : ( إن كان أحدهما أصلح [ في دينه ] فينبغي لهم ألا يختصموا ) - يعني : أن الأصلح أحق فلا ينازع - فإن استووا في الفضل في أنفسهم وامتاز أحدهم بخدمة المسجد وعمارته قدم بذلك .

وقال أصحابنا : إنه يقدم أحد المتنازعين باختصاصه بصفات الأذان [ ص: 472 ] المستحبة فيه ، مثل أن يكون أحدهما أندى صوتا وأعلم بالمواقيت ونحو ذلك ؛ فإن استووا في الفضائل كلها أقرع بينهم حينئذ ، كما فعل سعد .

والظاهر : أن مراد أحمد : التنازع في [ طلب ] الأذان ابتداء ، فأما من ثبت له حق الأذان في المسجد ، وهو مؤذن راتب فيه ، فليس لأحد منازعته ، ويقدم على كل من نازعه .

وقد نقل الشالنجي عن أحمد ما يبين هذا المعنى :

قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد عن القوم إذا اختلفوا في الأذان فطلبوه جميعا ؟ فقال : القرعة في ذلك حسن .

وقال : ثنا هشيم ، عن ابن شبرمة : أن الناس تشاحوا يوم القادسية في الأذان ، فأقرع بينهم سعد في ذلك .

قال الشالنجي : قال أبو أيوب - يعني : سليمان بن داود الهاشمي - : إن مات المؤذن وله ولد صالح فهو أحق بالأذان ، وإن لم يطلبه ، وإن لم يكن بأهل لذلك ، وطلبه صلحاء المسجد يقرع بينهم في ذلك .

وبه قال أبو خيثمة - يعني : زهير بن حرب .

وقال ابن أبي شيبة في الأذان : على ما جاء : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) ، وكذلك الأذان .

قال الجوزجاني بعد أن ذكر هذا عن الشالجني - ما معناه - : إن اختلاف الناس يرد إلى السنة .

ثم روى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ( المؤذن مؤتمن ) من طرق .

[ ص: 473 ] وروى حديث حسين بن عيسى ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ليؤذن لكم خياركم ) .

وقد خرجه أبو داود وابن ماجه .

وتكلم فيه من جهة الحسين ، والحكم - أيضا .

وفي مراسيل صفوان بن سليم ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبني خطمة من الأنصار : ( يا بني خطمة ، اجعلوا مؤذنكم أفضلكم في أنفسكم ) .

ثم قال الجوزجاني : لا بد أن يكون المؤذن خيارا ، وبأن يكون مؤتمنا متبعا للسنة ، فالمبتدع غير مؤتمن . فإن اجتمعت هذه الخلال في عدة من أهل المسجد ، فإن أحقهم بالأذان أنداهم صوتا .

ثم ذكر حديث عبد الله بن زيد ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( ألقه على بلال ؛ فإنه أندى صوتا منك ) . قال : وإنما أظنهما كانا متقاربين في الفضل والأمانة ، وفضله بلال بالصوت ، فلذلك رآه أحق .

فإذا اجتمع رجال في المسجد وعلاهم رجل ببعض هذه الخصال كان أحق بالأذان ، وإذا استوت فيها حالاتهم فالقرعة عند ذلك حسن .

وأشار إلى فعل سعد وعضده بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لو يعلم الناس ما في النداء ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ) .

ثم قال : فأما الآباء والأبناء والعصبة في الأذان والإمامة ، فإنا لا نعلم فيه [ ص: 474 ] سنة ماضية . والله أعلم . انتهى ما ذكره ملخصا .

وخرج أبو داود من رواية غالب القطان ، عن رجل ، عن أبيه ، عن جده ، أن رجلا منهم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فقال : إن أبي شيخ كبير ، وهو عريف الماء ، وإنه سألك أن تجعل إلي العرافة بعده ؟ فقال : ( إن العرافة حق ، ولا بد للناس من العرفاء ، والعرفاء في النار ) .

وهذا إسناد مجهول .

ولم يذكر أنه جعل العرافة له بمجرد كون أبيه عريفا ، والإمامة العظمى لا تستحق بالنسب ، ولهذا أنكر الصحابة على من بايع لولده .

وقال عبد الرحمن بن أبي بكر : جئتم بها هرقلية ، تبايعون لأبنائكم !

وسمع ذلك عائشة والصحابة ، ولم ينكروه عليه ، فدل على أن البيعة للأبناء سنة الروم وفارس ، وأما سنة المسلمين فهي البيعة لمن هو أفضل وأصلح للأمة .

وما تزعمه الرافضة في ذلك فهو نزعة من نزعات المشركين في تقديم الأولاد والعصبات .

وسائر الولايات الدينية سبيلها سبيل الإمامة العظمى في ذلك . والله أعلم .

وقد روي ما يستدل به من جعل الأذان للأبناء بعد آبائهم .

قال الإمام أحمد : ثنا خلف بن الوليد : ثنا الهذيل بن بلال ، عن ابن أبي محذورة ، عن أبيه - أو جده - قال : جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذان لنا ولموالينا ، والسقاية لبني هاشم ، والحجابة لبني عبد الدار .

الهذيل بن بلال ، ضعفه ابن معين . وقواه الإمام أحمد ، وأبو حاتم .

وإسناده مشكوك فيه ، ولم يسم ابن أبي محذورة هذا .

[ ص: 475 ] وخرج الإمام أحمد والترمذي من رواية أبي مريم ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الملك في قريش ، والقضاء في الأنصار ، والأذان في الحبشة ) .

وخرجه الترمذي موقوفا على أبي هريرة ، وقال : هو أصح .

وأبو مريم هذا ليس بالمشهور .

والمراد بهذا : أن سيد المؤذنين كان من الحبشة ، لا أنه يتوارثونه بعد بلال ، فإنه لا يعرف بعده من الحبشة مؤذن .

وقد يستدل - أيضا - بأن ولد أبي محذورة كانوا يتوارثون الأذان بمكة مدة طويلة ، وكذلك أولاد سعد القرظ بالمدينة .

وروى الدارقطني بإسناده عن سعد القرظ : أن عمر دعاه ، فقال له : الأذان إليك وإلى عقبك من بعدك .

وفي الإسناد ضعف .

قال الشافعي - رحمه الله - وأصحابه : يستحب أن يكون المؤذن من ولد بعض من جعل بعض الصحابة الأذان فيهم ، ثم الأقرب إليهم فالأقرب .

وقال الشافعي - أيضا - : إذا تنازع جماعة في الأذان ، ولم يكن للمسجد مؤذن راتب أقرع بينهم ، وكذا إذا كان له مؤذنون ، وتنازعوا في الابتداء ، أو كان المسجد صغيرا ، وأدى اختلاف أصواتهم إلى تهويش ، فيقرع ، ويؤذن من خرجت له القرعة ، أما إذا كان هناك راتب ، ونازعه غيره ، قدم الراتب ، وإن كان جماعة مرتبون ، وأمكن أذان كل واحد في موضع من المسجد ؛ لكبره ، أذن كل واحد وحده . وإن كان صغيرا ، ولم يؤد اختلاف أصواتهم إلى تهويش ، أذنوا جملة واحدة .

[ ص: 476 ] وهذا كله إذا كان التشاح رغبة في فضله وثوابه ، فإن كان رغبة في الرياسة والتقدم فينبغي أن يؤخر من قصد ذلك ولا يمكن منه ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنا لا نولي عملنا هذا من طلبه أو حرص عليه ) .

قال سفيان الثوري : إذا رأيت الرجل حريصا على الإمامة فأخره .

وكذلك إذا كان غرضه أخذ العوض الذي يعطاه أهل الأذان في هذه الأزمان ، إما من بيت المال - وقد عدم ذلك - أو من الوقف .

فإن تشاح اثنان : أحدهما غرضه ثواب الأذان ، والآخر غرضه غرض الدنيا ، فلا شك في أن الأول أحق .

وقد قال عثمان بن أبي العاص : إن من آخر ما عهد إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا .

أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي .

وقال : حسن ، والعمل عليه عند أهل العلم ، كرهوا أن يأخذوا على الأذان أجرا ، واستحبوا للمؤذن أن يحتسب في أذانه .

وروى أبو نعيم : ثنا عمارة بن زاذان ، عن يحيى البكاء ، قال : كنت أطوف مع سعيد بن جبير ، فمر ابن عمر ، فاستقبله رجل من مؤذني الكعبة ، فقال ابن عمر : والله ، إني لأبغضك في الله ؛ لأخذ الدراهم .

قال : وثنا المسعودي ، عن القاسم - هو : ابن عبد الرحمن - قال : كان يقال : أربع لا يؤخذ عليهن رزق : قراءة القرآن ، والأذان ، والقضاء ، والمقاسم .

[ ص: 477 ] وروى وكيع في ( كتابه ) عن عمارة بن زاذان ، عن يحيى البكاء : أن ابن عمر قال له رجل في الطواف من مؤذني الكعبة : إني لأحبك في الله . قال : وإني لأبغضك في الله ؛ لتحسينك صوتك لأجل الدراهم .

قال معاوية بن قرة : لا يؤذن إلا محتسب .

وروى ابن أبي شيبة : ثنا ابن نمير ، عن حلام بن صالح ، عن فائد بن بكير ، قال : خرجت مع حذيفة إلى المسجد صلاة الفجر ، وابن النباح مؤذن الوليد بن عقبة يؤذن ، وهو يقول : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، يهوي بأذانه يمينا وشمالا . فقال حذيفة : من يرد الله أن يجعل رزقه في صوته فعل .

وهذا إنما قاله حذيفة على وجه الذم له ؛ لأنه رآه يتمايل في أذانه ، كأنه يعجب بحسن صوته ، فجعل حذيفة يناكل بذلك ، وهذا مثل قول ابن عمر .

ونص الشافعي - في الحديث - : إن الإمام ليس له أن يرزق المؤذنين وهو يجد من يؤذن له طوعا ممن له أمانة .

وكذلك قال أصحابنا .

وقال الشافعي - في القديم - : قد رزقهم إمام هدى : عثمان بن عفان .

وسئل الضحاك عن مؤذن يؤذن بغير أجر فيعطى : هل يأخذ ؟ قال : إن أعطي من غير مسألة ، وكان فقيرا ، فلا بأس أن يأخذ .

وظاهر مذهب الإمام أحمد : أنه لا يأخذ على شيء من الأذان أجرا ، ونص عليه في الأذان بخصوصه .

وروي عنه : أن الإمام يرزقهم من الفيء ، وهو محمول على أنه لم يجد من يتطوع بذلك .

[ ص: 478 ] ونقل عنه ابن منصور في الذي يقوم للناس في رمضان : أيعطى ؟ قال : ما يعجبني أن يأخذ على شيء من الخير أجرا .

قال : وقال إسحاق بن راهويه : لا يسعه أن يؤم على نية أخذ ، وإن أم ولم ينو شيئا من ذلك ، فأعطي أو أكرم جاز .

ونقل حرب وغيره عن أحمد : أنه يقدم عند [ النسا ] من رضيه أهل المسجد .

فحكى القاضي وأصحابه هذه رواية ثانية عن أحمد ؛ لأن الحق لهم في ذلك ؛ لأنهم أعرف بمن يبلغهم صوته ، ومن هو أعف عن النظر عند علوه عليهم للأذان .

وجعل صاحب ( المغني ) رضا الجيران مقدما على القرعة ، وأنه إنما يقرع بعد ذلك .

والصحيح : طريقة الأكثرين ؛ لأن أبا داود نقل عن أحمد : أنه لا يعتبر رضا الجيران بالكلية ، وإنما يعتبر القرعة ، فعلم أن رواية ومن وافقه تخالف ذلك .

ولا يعتبر رضا من بنى المسجد واختياره : نص عليه أحمد ؛ معللا بأن المسجد لله ، ليس للذي بناه .

يشير إلى أنه خرج عن ملكه ، وصار لله عز وجل .

وهذا يدل على أنه لا [ تصرف ] له على المسجد الذي بناه .

وهو المشهور - أيضا - عن الشافعية : أن باني المسجد ليس أحق بإمامته وأذانه من غيره .

[ ص: 479 ] وقال أبو حنيفة وطائفة من الشافعية - كالروياني - : إن من بنى المسجد فهو أحق بأذانه وإمامته ، كما أن من أعتق عبدا فله ولاؤه .

وهذا التشبيه لا يصح ؛ لأن ثبوت الولاء على العبد المعتق لا يستفيد به الولاية عليه في حياته ، والحجر عليه ، والانتفاع بماله ، وإنما يستفيد به رجوع ماله إليه بعد موته ؛ لأنه لا بد من انتقال ماله عنه حينئذ ، فالمولى المعتق أحق به من غيره من المسلمين ؛ لاختصاصه بإنعامه عليه .

وأما المسجد ، فالمقصود من بنائه انتفاع المسلمين به في صلواتهم واعتكافهم وعباداتهم ، والباني له [ كبقية ] المسلمين في ذلك من غير زيادة .

فإن شرط باني المسجد عند وقفه له قبل مصيره مسجدا بالفعل أنه وولده أحق بإمامته وأذانه صح شرطه واتبع ، وإن كان غيرهم أقرأ منهم وأندى صوتا ، إذا كان فيهم من يصلح لذلك ، وإن كان غيره أولى منه . نص على ذلك : عبيد الله بن الحسن العنبري .

وهو قياس قول أحمد في صحة الواقف لنفسه ما شاء من غلة الوقف ومنافعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية