صفحة جزء
[ ص: 552 ] 19 - باب

هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا ؟ وهل يلتفت في الأذان ؟

ويذكر عن بلال ، أنه جعل إصبعيه في أذنيه .

وكان ابن عمر لا يجعل إصبعيه في أذنيه .

وقال إبراهيم : لا بأس أن يؤذن على غير وضوء .

وقال عطاء : الوضوء حق وسنة .

وقالت عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه .

608 634 - ثنا محمد بن يوسف : ثنا سفيان ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه ، أنه رأى بلالا يؤذن ، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا بالأذان .


هكذا خرجه البخاري هاهنا عن الفريابي ، عن سفيان الثوري - مختصرا .

ورواه وكيع عن سفيان بأتم من هذا السياق .

خرجه مسلم من طريقه ، ولفظ حديثه : قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم ، قال : فخرج بلال بوضوئه ، فمن نائل وناضح . قال : فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمراء ، كأني أنظر إلى بياض ساقيه . قال : فتوضأ ، وأذن بلال ، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا - يقول : يمينا وشمالا - يقول : حي على الصلاة ، حي على الفلاح . قال : ثم ركزت له عنزة ، فتقدم فصلى الظهر ركعتين ، يمر بين يديه الحمار والكلب ، لا يمنع ، ثم صلى العصر ركعتين ، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة .

ورواه عبد الرزاق ، عن سفيان ، ولفظ حديثه : عن أبي جحيفة ، قال : [ ص: 553 ] رأيت بلالا يؤذن ويدور ويتتبع فاه هاهنا وهاهنا ، وإصبعاه في أذنيه ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبة له حمراء - وذكر بقية الحديث .

خرجه الإمام أحمد عن عبد الرزاق .

وخرجه من طريقه الترمذي ، وقال : حسن صحيح .

وخرجه البيهقي ، وصححه - أيضا .

وهذا هو الذي علقه البخاري هاهنا بقوله : ( ويذكر عن بلال ، أنه جعل إصبعيه في أذنيه ) .

وقال البيهقي : لفظة الاستدارة في حديث سفيان مدرجة ، وسفيان إنما روى هذه اللفظة ، في ( الجامع ) - رواية العدني ، عنه - عن رجل لم يسمه ، عن عون .

قال : وروي عن حماد بن سلمة ، عن عون بن أبي جحيفة - مرسلا ، لم يقل : ( عن أبيه ) . والله أعلم .

قلت : وكذا روى وكيع في ( كتابه ) ، عن سفيان ، عن عون ، عن أبيه ، قال : أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام بلال فأذن ، فجعل يقول في أذانه ، يحرف رأسه يمينا وشمالا .

وروى وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن أبي جحيفة ، أن بلالا كان يجعل إصبعيه في أذنيه .

فرواية وكيع ، عن سفيان تعلل بها رواية عبد الرزاق عنه .

ولهذا لم يخرجها البخاري مسندة ، ولم يخرجها مسلم - أيضا - وعلقها [ ص: 554 ] البخاري بصيغة التمريض ، وهذا من دقة نظره ومبالغته في البحث عن العلل والتنقيب عنها - رضي الله عنه .

وقد خرج الحاكم من حديث إبراهيم بن بشار الرمادي ، عن ابن عيينة ، عن الثوري ومالك بن مغول ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل بالأبطح - فذكر الحديث بنحو رواية عبد الرزاق ، وذكر فيه الاستدارة ، وإدخال الإصبعين في الأذنين .

وقال : هو صحيح على شرطهما جميعا .

وليس كما قال ؛ وإبراهيم بن بشار لا يقبل ما تفرد به عن ابن عيينة ، وقد ذمه الإمام أحمد ذما شديدا ، وضعفه النسائي وغيره .

وخرج أبو داود من رواية قيس بن ربيع ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه ، قال : رأيت بلالا خرج إلى الأبطح فأذن ، فلما بلغ ( حي على الصلاة ، حي على الفلاح ) لوى عنقه يمينا وشمالا ، ولم يستدر .

وخرج ابن ماجه من رواية حجاج بن أرطاة ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح ، وهو في قبة حمراء ، فخرج بلال فأذن ، فاستدار في أذانه ، فجعل إصبعيه في أذنيه .

وحجاج مدلس .

قال ابن خزيمة : لا ندري هل سمعه من عون ، أم لا ؟

وقال البيهقي : يحتمل أن يكون أراد الحجاج باستدارته التفاته يمينا [ ص: 555 ] وشمالا ، فيكون موافقا لسائر الرواة . قال : وحجاج ليس بحجة .

وخرجه من طريق آخر عن حجاج ، ولفظ حديثه : رأيت بلالا يؤذن ، وقد جعل إصبعيه في أذنيه ، وهو يلتوي في أذانه يمينا وشمالا .

وقد رويت هذه الاستدارة من وجه آخر : من رواية محمد بن خليد الحنفي - وهو ضعيف جدا - عن عبد الواحد بن زياد ، عنه ، عن مسعر ، عن علي بن الأقمر ، عن عون ، عن أبيه .

ولا يصح - أيضا .

وخرج ابن ماجه من حديث أولاد سعد القرظ ، عن آبائهم ، عن سعد ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالا أن يجعل إصبعيه في أذنيه ، وقال : ( إنه أرفع لصوتك ) .

وهو إسناد ضعيف ؛ ضعفه ابن معين وغيره .

وروي من وجوه أخر مرسلة .

وقد ذكر البخاري في هذا الباب ثلاث مسائل :

الأولى : الالتفات في الأذان يمينا وشمالا .

والسنة عند جمهور العلماء أن يؤذن مستقبل القبلة ، ويدير وجهه في قول : ( حي على الصلاة ، حي على الفلاح ) يمينا وشمالا .

وأنكر ابن سيرين الالتفات ، حكاه ابن المنذر وابن أبي شيبة بإسناد صحيح \155 عن ابن سيرين ، أنه إذا أذن المؤذن استقبل القبلة ، وكان يكره أن يستدير في المنارة \155 .

[ ص: 556 ] وروى وكيع ، عن الربيع ، \155 عن ابن سيرين ، قال : المؤذن لا يزيل قدميه .

وكأن الروايتين لا تصرحان بكراهة لوي العنق .

وكذلك مالك .

وفي ( تهذيب المدونة ) : ولا يدور في أذانه ، ولا يلتفت ، وليس هذا من الأذان ، إلا أن يريد بالتفاته أن يسمع الناس فيؤذن كيف تيسر عليه . قال : ورأيت المؤذنين بالمدينة يتوجهون القبلة في أذانهم ويقيمون عرضا ، وذلك واسع يصنع كيف شاء . انتهى .

وفي حديث عبد الله بن زيد الذي رأى الأذان في منامه أنه رأى الذي علمه النداء في نومه قام فاستقبل القبلة فأذن .

خرجه أبو داود من حديث معاذ .

والذين رأوا الالتفات . قال أكثرهم : يلتفت بوجهه ، ولا يلوي عنقه ، ولا يزيل قدميه ، وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد في المشهور عنه ، وأبي ثور ، وحكاه ابن المنذر عن أبي حنيفة وأصحابه .

وحكي - أيضا - عن الحسن والنخعي والليث بن سعد .

وروى الحسن بن عمارة ، عن طلحة بن مصرف ، عن سويد بن غفلة ، عن بلال ، قال : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أذنا أو أقمنا أن لا نزيل أقدامنا عن مواضعها .

خرجه الدارقطني في ( أفراده ) .

والحسن بن عمارة ، متروك .

وقالت طائفة : إن كان في منارة ونحوها دار في جوانبها ؛ لأنه أبلغ في [ ص: 557 ] الإعلام والإسماع ، وهو رواية عن أحمد وإسحاق ، وظاهر فيه مالك إذا أراد الإعلام .

وروي عن الحسن أنه يدور .

وظاهر كلام أصحابنا اختصاص الالتفات بالأذان .

وللشافعية في الالتفات في الإقامة وجهان .

والفرق بينهما : أن الأذان إعلام للغائبين ، فلذلك يلتفت ليحصل القصد بتبليغهم ، بخلاف الإقامة ؛ فإنها إعلام للحاضرين ، فلا حاجة إلى التلفت فيها ، ولذلك لم يشرع في الموعظة في خطب الجمع وغيرها الالتفات ؛ لأنها خطاب لمن حضر ، فلا معنى للالتفات فيها .

\155 وقال النخعي : يستقبل المؤذن بالأذان والشهادة والإقامة القبلة \155 .

خرجه ابن أبي شيبة .

وروى بإسناده عن حذيفة : أنه مر على ابن النباح وهو يؤذن ، يقول : الله أكبر [ الله ] أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، يهوي بأذانه يمينا وشمالا ، فقال حذيفة : من يرد الله أن يجعل رزقه في صوته فعل .

وهذا يدل على أنه كره التلفت في غير الحيعلة ، وجعله مناكلا بأذانه .

المسألة الثانية :

جعل الإصبعين في الأذنين .

[ ص: 558 ] وقد حكى عن ابن عمر : أنه كان لا يفعل ذلك .

وظاهر كلام البخاري : يدل على أنه غير مستحب ؛ لأنه حكى تركه عن ابن عمر ، وأما الحديث المرفوع فيه فعلقه بغير صيغة الجزم ، فكأنه لم يثبت عنده .

وذكر في ( تاريخه الكبير ) من رواية الربيع بن صبيح ، \155 عن ابن سيرين ، قال : أول من جعل إصبعيه في أذنيه في الأذان عبد الرحمن بن الأصم مؤذن الحجاج \155 .

وهذا الكلام من ابن سيرين يقتضي أنه عنده بدعة .

وروي عن ابن سيرين بلفظ آخر .

قال وكيع في ( كتابه ) : عن يزيد بن إبراهيم والربيع بن صبيح ، \155 عن ابن سيرين ، قال : أول من جعل إصبعا واحدة في أذنه ابن الأصم مؤذن الحجاج . \155

وقال ابن أبي شيبة : ثنا ابن علية ، عن ابن عون ، \155 عن محمد ، قال : كان الأذان أن يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، ثم يجعل إصبعيه ، وأول من ترك إحدى إصبعيه في أذنيه ابن الأصم . \155

قال : وثنا أبو أسامة ، عن هشام ، \155 عن ابن سيرين : أنه كان إذا أذن استقبل القبلة ، فأرسل يديه ، فإذا بلغ ( حي على الصلاة ، حي على الفلاح ) أدخل إصبعيه في أذنيه \155 .

وهذا يقتضي أنه إنما يجعلهما في أذنيه في أثناء الأذان .

وروى وكيع ، عن سفيان ، عن نسير بن ذعلوق ، قال : \155 رأيت ابن عمر يؤذن على بعير .

[ ص: 559 ] قال سفيان : قلت له : رأيته جعل إصبعيه في أذنيه ؟ قال : لا \155 .

وهذا هو المروي عن ابن عمر ، الذي ذكره البخاري تعليقا .

وأكثر العلماء على أن ذلك مستحب .

قال الترمذي في ( جامعه ) : العمل عند أهل العلم على ذلك ، يستحب أن يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الأذان . وقال بعض أهل العلم : وفي الإقامة أيضا ، وهو قول الأوزاعي . انتهى .

وقال إسحاق كقول الأوزاعي .

ومذهب مالك : إن شاء جعل إصبعيه في أذانه وإقامته ، وإن شاء ترك - ذكره في ( التهذيب ) .

وظاهر هذا : يقتضي أنه ليس بسنة .

وقد سهل أحمد في تركه ، وفي جعل الإصبعين في إحدى الأذنين .

\155 وسئل الشعبي : هل يضع إصبعيه على أذنيه إذا أذن ؟ قال : يعم عليهما ، وأحدهما يجزئك \155 .

خرجه أبو نعيم في ( كتاب الصلاة ) .

واختلفت الرواية عن أحمد في صفة ذلك :

فروي عنه ، أنه يجعل إصبعيه في أذنيه ، كقول الجمهور .

وروي عنه ، أنه يضم أصابعه ، ويجعلها على أذنيه في الأذان والإقامة .

واختلف أصحابنا في تفسير ذلك :

فمنهم من قال : يضم أصابعه ، ويقبضهما على راحتيه ، ويجعلهما على أذنيه ، وهو قول الخرقي وغيره .

[ ص: 560 ] ومنهم من قال : يضم الأصابع ، ويبسطها ، ويجعلها على أذنه .

قال القاضي : هو ظاهر كلام أحمد .

قال أبو طالب : قلت لأحمد : يدخل إصبعيه في الأذن ؟ قال : ليس هذا في الحديث .

وهذا يدل على أن رواية عبد الرزاق ، عن سفيان التي خرجها في ( مسنده ) والترمذي في ( جامعه ) غير محفوظة ، مع أن أحمد استدل بحديث أبي جحيفة في هذا في رواية محمد بن الحكم . وقال في رواية أبي طالب - أيضا - : أحب إلي أن يجعل أصابع يديه على أذنيه ، على حديث أبي محذورة ، وضم أصابعه الأربع ، ووضعهما على أذنيه .

قال القاضي أبو يعلى : لم يقع لفظ حديث أبي محذورة .

قال : وروى أبو حفص العكبري بإسناده ، عن [ أبي ] المثنى ، قال : كان ابن عمر إذا بعث مؤذنا يقول له : اضمم أصابعك مع كفيك ، واجعلها مضمومة على أذنيك .

واستحب الشافعية إدخال الإصبعين في الأذنين في الأذان ، دون الإقامة .

المسألة الثالثة :

الأذان على غير وضوء .

حكى البخاري \155 عن عطاء ، أنه قال : الوضوء حق وسنة - يعني في الأذان \155 . \155 وعن النخعي أنه قال : لا بأس أن يؤذن على غير وضوء \155 .

ورجح قوله بقول عائشة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه .

وقد خرجه مسلم من حديث البهي ، [ عن عروة ] ، عن عائشة .

[ ص: 561 ] وممن قال بالكراهة : مجاهد والأوزاعي والشافعي وإسحاق .

وممن ذهب إلى الرخصة : الحسن والنخعي وقتادة وحماد ومالك وسفيان وابن المبارك .

ورخص أحمد في الأذان على غير وضوء ، دون الإقامة .

وكذا قال الحسن وقتادة ومالك .

وقال الأوزاعي : إن أحدث في أذانه أتمه ، وإن أحدث في إقامته - وكان وحده - قطعها .

واستحب الشافعي لمن أحدث في أذانه أن يتطهر ، ويبني على ما مضى منه .

قال إسحاق : لم يختلفوا في الإقامة أنها أشد .

وقال الزهري : قال أبو هريرة : لا ينادي بالصلاة إلا متوضئ .

ورواه معاوية بن يحيى ، عن الزهري ، عن أبي هريرة - مرفوعا .

خرجه الترمذي من الطريقين ، وذكر أن الموقوف أصح .

قال : والزهري لم يسمع من أبي هريرة .

وروى عمير بن عمران الحنفي : ثنا الحارث بن عيينة ، عن عبد الجبار بن وائل ، عن أبيه ، قال : حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن إلا وهو طاهر .

خرجه الدارقطني في ( الأفراد ) ، وزاد : ولا يؤذن إلا وهو قائم .

وقال : عبد الجبار ، عن أبيه مرسل .

قلت : والحارث وعمير ، غير مشهورين .

وما ذكره البخاري \155 عن عطاء ، هو من رواية ابن جريج ، عنه ، قال : حق [ ص: 562 ] وسنة ألا يؤذن المؤذن إلا متوضئا . قال : [ هو ] من الصلاة ، هي فاتحة الصلاة ، فلا يؤذن إلا متوضئا \155 .

وهذا مبني على قوله : إن من نسي الإقامة أعاد الصلاة ، وقد سبق ذلك عنه .

وسبق الكلام في ذكر الله تعالى للمحدث ، وأن منهم من فرق بين الذكر الواجب كالأذان والخطبة ، وبين ما ليس بواجب .

وأما أذان الجنب ، فأشد كراهة من أذان المحدث .

واختلفوا : هل يعتد به ، أم لا ؟

فقال الأكثرون : يعتد به ، منهم : سفيان وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي وابن المبارك والشافعي وأحمد .

وقال إسحاق والخرقي من أصحابنا : لا يعتد به ، ويعيده .

التالي السابق


الخدمات العلمية