صفحة جزء
[ ص: 585 ] 22 - باب

متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة

611 637 - حدثنا مسلم بن إبراهيم : حدثنا هشام ، قال : كتب إلي يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني ) .


هذا رواه هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير مكاتبة ، وقد رواه عن يحيى غير واحد : شيبان ، وحجاج الصواف ، وأيوب ، وأبان العطار ، ومعمر ، وغيرهم .

وخرجه البخاري من رواية شيبان ، وخرجه مسلم من رواية حجاج ومعمر .

وفي رواية له من رواية شيبان ومعمر : ( حتى تروني قد خرجت ) .

وقال أبو داود : لم يذكر : ( قد خرجت ) إلا معمر .

وذكر البيهقي : أنها قد رويت عن حجاج - أيضا .

وخرجها ابن حبان في ( صحيحه ) من رواية معمر ، ولفظه : ( حتى تروني قد خرجت إليكم ) .

وهذه اللفظة : يستدل بها على مراده - صلى الله عليه وسلم - برؤيته : أن يخرج من بيته ، فيراه من كان عند باب المسجد ، ليس المراد : يراه كل من كان في المسجد .

وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تصوموا حتى تروا الهلال ) ، ومعلوم أنه لو رآه [ ص: 586 ] واحد أو اثنان لاكتفي برؤيتهما ، وصام الناس كلهم .

ويدل على هذا : ما خرجه مسلم من حديث الزهري ، قال : أخبرني أبو سلمة ، سمع أبا هريرة يقول : أقيمت الصلاة ، فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا قام في مصلاه قبل أن يكبر ذكر فانصرف - وذكر تمام الحديث .

ويحمل ذلك على قيامهم قبل أن يطلع على أهل المسجد من المسجد ، لما علموا خروجه من بيته وتحققوه .

وخرج - أيضا - بهذا الإسناد ، عن أبي هريرة ، قال : إن كانت الصلاة تقام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يقوم النبي - صلى الله عليه وسلم - مقامه .

فهذه الرواية تصرح بأن الصفوف كانت تعدل قبل أن يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مصلاه ، ولكن كان قد خرج من بيته ، ورآه من كان بقرب بيته .

وقد ذكر الدارقطني وغير واحد من الحفاظ أن هذا الحديث اختصره الوليد بن مسلم من الحديث الذي قبله ، فأتي به بهذا اللفظ .

فإن قيل : فقد خرج مسلم من حديث جابر بن سمرة ، قال : كان بلال يؤذن إذا دحضت ، فلا يقيم حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه .

فلو اكتفي برؤية واحد للنبي - صلى الله عليه وسلم - لاكتفي برؤية بلال له ، واكتفي بإقامة بلال في قيام الناس ، فإنه كان لا يقيم حتى يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج .

قيل : هذا إنما ورد في صلاة الظهر بالمدينة خاصة ، وأما في غيرها من الصلوات ، فقد كان بلال يجيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته ، فيؤذنه بالصلاة ، [ ص: 587 ] فكان يفعل ذلك في صلاة الفجر ، كما في حديث عائشة وابن عباس ، وكان أحيانا يفعله في السفر في غير الفجر ، كما روى أبو جحيفة ، أنه رأى بلالا آذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاة الظهر .

فالظاهر : أن بلالا كان إذا آذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة رجع ، فأقام قبل خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيته ، واكتفى بتأهبه للخروج [ بإيذانه ] له ، فوقع النهي في قيام الناس إلى الصلاة قبل خروجه في مثل هذه الحالة . والله أعلم .

وقد اختلف العلماء في الوقت الذي يقوم فيه الناس للصلاة .

فقال طائفة : يقومون إذا فرغ المؤذن من الإقامة ، سواء خرج الإمام أو لم يخرج .

وحكى ذلك بعض الشافعية عن أبي حنيفة والشافعي .

ورجح بعض متأخري الشافعية أنهم لا يقومون حتى يروه ؛ لحديث أبي قتادة .

وحكى ابن المنذر ، عن أبي حنيفة ، أنه إذا لم يكن الإمام معهم كره أن يقوموا في الصف والإمام غائب عنهم .

وممن روي عنه ، أنهم لا يقومون حتى يروا الإمام : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب .

خرجه وكيع ، عنهما .

واختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة :

فروى عن جماعة من أصحابه ، أنهم لا يقومون حتى يروه ؛ لحديث أبي قتادة ، ولو علموا به ، مثل أن يكون الإمام هو المؤذن ، وقد أقام الصلاة في المنارة وهو نازل .

[ ص: 588 ] وروى عنه الأثرم وغيره : أنهم يقومون قبل أن يروه إذا أقيمت الصلاة ؛ لحديث أبي هريرة الذي خرجه مسلم .

وروى عنه المروذي وغيره : أنه وسع العمل بالحديثين جميعا ، فإن شاءوا قاموا قبل أن يروه ، وإن شاءوا لم يقوموا حتى يروه .

ورجح بعض أصحابنا الرواية الأولى ؛ لحديث أبي قتادة ، وادعى أنه ناسخ لحديث أبي هريرة ؛ فإنه يدل على أن فعلهم لذلك كان سابقا ، ثم نهي عنه .

وكذا ذكر البيهقي ، لكن قال : إنما نهي عنه تخفيفا عليهم ، ورفقا بهم ، وهذا لا يمنع العمل به كالصائم في السفر ونحوه .

وروي عن أبي خالد الوالبي ، قال : خرج إلينا علي بن أبي طالب ونحن قيام ، فقال : ما لي أراكم سامدين - يعني : قياما .

وسئل النخعي : أينتظرون الإمام قياما أو قعودا ؟ قال : قعودا .

وقال ابن بريدة في انتظارهم قياما : هو السمود .

وكذا روي عن النخعي ، أنه كرهه ، وقال : هو السمود .

وحكي مثله عن أبي حنيفة وإسحاق .

قال بعض أصحابنا : وروي عن أبي حنيفة وأصحابه ، والشافعي ، وداود ، أنه إن كان الإمام خارجا من المسجد فلا تقوموا حتى تروه ، وإن كان في المسجد فهو كالمشاهد ؛ حملا للرؤية في الحديث على العمل ، وكذا قال ابن بطة من أصحابنا .

وإن كان الإمام في المسجد ، فهو مرئي للمصلين أو بعضهم ، لكن هل [ ص: 589 ] يكتفى برؤيته قاعدا ، أو لا بد من رؤيته قائما متهيئا للصلاة ؟ هذا محل نظر .

والمنصوص عن أحمد ، أنه إذا كان في المسجد فإن المأمومين يقومون إذا قال المؤذن : ( قد قامت الصلاة ) ، وإن لم يقم الإمام .

والقيام للصلاة عند الإقامة متفق على استحبابه للإمام ، إذا كان حاضرا في المسجد ، وللمأمومين معه .

واختلفوا في موضع القيام من الإقامة على أقوال :

أحدها : أنهم يقومون في ابتداء الإقامة ، روي عن كثير من التابعين ، منهم : عمر بن عبد العزيز ، وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق ، وهو غريب عن أحمد .

والثاني : إذا قال : ( قد قامت الصلاة ) ، روي عن أنس بن مالك ، والحسن بن علي ، وعطاء ، والحسن ، وابن سيرين ، والنخعي ، وهو قول ابن المبارك ، وزفر ، وأحمد ، وإسحاق .

والثالث : إذا قال : ( حي على الفلاح ) ، وحكي عن أبي حنيفة ، ومحمد .

والرابع : إذا فرغت الإقامة ، وحكي عن مالك ، والشافعي .

وحكى ابن المنذر عن مالك ، أنه لم يوقت في ذلك شيئا .

وقال الماوردي - من الشافعية - : إن كان شيخا بطيء النهضة قام عند قوله : ( قد قامت الصلاة ) ، وإن كان سريع النهضة قام بعد الفراغ ؛ ليستووا قياما في وقت واحد .

فإن تأخر قيام الإمام عن فراغ الإقامة لعذر كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يناجي بعض أصحابه طويلا ، فهل يتأخر قيام المأمومين إلى حين قيامه ؟ الأظهر : نعم .

ويدل عليه ما خرجه البخاري - وسيأتي قريبا إن شاء الله - عن أنس ، [ ص: 590 ] قال : أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يناجي رجلا في جانب المسجد ، فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم .

ونومهم يدل على أنهم كانوا جلوسا ؛ إذ لو كانوا قياما ينتظرون الصلاة كان أبعد لنومهم .

وروى حجاج بن فروخ ، عن العوام بن حوشب ، عن ابن أبي أوفى ، قال : كان بلال إذا قال : قد قامت الصلاة ، نهض النبي - صلى الله عليه وسلم - .

حجاج واسطي ، قال أحمد ويحيى : لا نعرفه . وقال يحيى - أيضا - : ليس بشيء . وقال أبو حاتم : مجهول ، وضعفه النسائي ، وقال الدارقطني : متروك .

وذكر هذا الحديث لأحمد فأنكره ، وقال : العوام لم يلق ابن أبي أوفى . هذا في القيام المبتدأ للصلاة ممن كان جالسا ، فأما من دخل المسجد إماما كان أو مأموما ، والمؤذن يقيم الصلاة ، فهل يجلس ليبتدئ القيام إما بعد الفراغ أو عند قوله : ( قد قامت الصلاة ) ، أم يستمر قائما ؟ فيه قولان :

أحدهما : أنه يجلس ليقوم إلى الصلاة في موضع القيام المشروع ، وكذلك كان الإمام أحمد يفعل - : نقله عنه ابن منصور ، وقاله طائفة من الشافعية ، منهم : أبو عاصم العبادي .

وفيه حديث مرسل ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء وبلال في الإقامة ، فقعد .

خرجه الخلال .

والقول الثاني : إنه يستمر قائما ولا يجلس - : قاله طائفة من الشافعية ، منهم : البغوي وغيره ؛ لئلا يدخل في النهي عن القيام للصلاة قبل رؤية الإمام ؛ لأن النهي إنما يتناول القيام المبتدأ ، وهذا لم يبتدئ القيام ، بل استمر عليه .

[ ص: 591 ] ويتخرج لأحمد مثل هذا ؛ لأنه فرق بين القيام المبتدأ والمستمر في القيام للجنازة ، فحمل النهي عن القيام المبتدأ لمن كان جالسا ، فأما من تبعها فإنه يستمر قائما ، ولا يجلس حتى توضع بالأرض ، ولم ير هذا القيام المستمر داخلا في القيام للجنازة المنهي عنه ، وجمع بذلك بين الحديثين .

وقد يفرق بينهما : بأن في الجنازة حديثين مختلفين ، فجمع بينهما بالتفريق بين القيام المبتدأ والمستمر ، وأما في النهي عن القيام قبل رؤية الإمام فليس فيه حديث يعارضه ، بل مرسل ابن أبي ليلى يوافقه ، فلذلك سوى فيه بين القيام المبتدأ والمستمر . والله أعلم .

وأما إن خرج الإمام إلى المسجد ، ورآه المأمومون قبل إقامة الصلاة ، فلا خلاف أنهم لا يقومون للصلاة برؤيته .

وخرج البيهقي من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن ابن جريج : أخبرني موسى بن عقبة ، عن سالم أبي النضر ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج بعد النداء إلى المسجد ، فإذا رأى أهل المجلس قليلا جلس حتى يرى منهم جماعة ، ثم يصلي ، وكان إذا خرج فرأى جماعة أقام الصلاة .

وقال : وحدثني موسى بن عقبة - أيضا - عن نافع بن جبير ، عن مسعود بن الحكم الزرقي ، عن علي بن أبي طالب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا الحديث .

وخرجه أبو داود من رواية أبي عاصم ، عن ابن جريج بالإسنادين - أيضا - لكن لفظه : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تقام الصلاة في المسجد إذا رآهم قليلا جلس ، ثم صلى ، وإذا رآهم جماعة صلى .

وخرجه الإسماعيلي في ( مسند علي ) من طريق أبي عاصم ، عن ابن جريج [ ص: 592 ] بالإسنادين - أيضا - ، ولفظ حديثه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد فرأى جماعة أقام الصلاة ، وإن رآهم قليلا جلس .

وخرجه من طريق عبد المجيد - أيضا - بنحو رواية البيهقي ، وفي آخره : يعني : أمر المؤذن ، فأقام .

وأشار إلى أنه إنما يعرف بهذا الإسناد عن علي القيام للجنازة ثم الجلوس قال : ولعل هذا أن يكون [ خبرا ] آخر . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية