صفحة جزء
619 [ ص: 22 ] 30 - باب

فضل صلاة الجماعة

وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر .

وجاء أنس إلى مسجد قد صلي فيه ، فأذن وأقام ، وصلى جماعة .


هاهنا مسألتان :

إحداهما :

أن من فاتته الجماعة في مسجد لم يجد فيه جماعة فإنه يذهب إلى مسجد آخر لتحصيل الجماعة ، كما فعله الأسود .

وقال حماد بن زيد : كان ليث بن أبي سليم إذا فاتته الصلاة في مسجد حيه اكترى حمارا ، فطاف عليه المساجد حتى يدرك جماعة .

ونص الإمام أحمد على أن من فاتته الجماعة في مسجد حيه أنه يذهب إلى مسجد آخر ليدرك الجماعة ، قال : وإن فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام في مسجد حيه صلى معهم ، ولم يذهب إلى مسجد آخر لإدراك تكبيرة الإحرام مع إمامه .

وحكي عن هشيم ، أنه كان يذهب إلى مسجد آخر لإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام .

ومذهب مالك : أن من وجد مسجدا قد جمع أهله ، فإن طمع بإدراك جماعة في مسجد غيره خرج إليها ، وإن كانوا جماعة فلا بأس أن يخرجوا فيجمعوا كراهة إعادة الجماعة عندهم في المسجد ، كما سيأتي .

واستثنوا من ذلك المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد بيت المقدس ، فقالوا : يصلوا فيها أفذاذا ، هو أعظم لأجورهم من الجماعة خارج المسجد ، [ ص: 23 ] ذكره في ( تهذيب المدونة ) .

المسألة الثانية :

أن من دخل مسجدا قد صلي فيه جماعة ، فإنه يصلي فيه جماعة مرة ثانية ، صح ذلك عن أنس بن مالك ، كما علقه عنه البخاري ، واحتج به الإمام أحمد .

وهو من رواية الجعد أبي عثمان ، أنه رأى أنس بن مالك دخل مسجدا قد صلي فيه ، فأذن وأقام وصلى بأصحابه .

وقد رواه غير واحد من الثقات ، عن الجعد ، وخرجه عبد الرزاق والأثرم وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم في ( تصانيفهم ) من طرق متعددة عن الجعد .

وقد روي عن أنس من وجه آخر ؛ وأنه روى في ذلك حديثا مرفوعا .

خرجه ابن عدي من طريق عباد بن منصور ، قال : رأيت أنس بن مالك دخل مسجدا بعد العصر ، وقد صلى القوم ، ومعه نفر من أصحابه ، فأمهم ، فلما انفتل قيل له : أليس يكره هذا ؟ فقال : دخل رجل المسجد ، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ، فقام قائما ينظر ، فقال : ( ما لك ؟ ) قال : أريد أن أصلي ، فقال : ( أما رجل يصلي مع هذا ؟ ) فدخل رجل ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلوا جميعا .

وعباد بن منصور ، تكلموا فيه .

وقد اختلف الناس في هذه المسألة في موضعين :

أحدهما : أن من دخل مسجدا قد صلي فيه فصلى وحده أو جماعة ، هل يؤذن ويقيم ، أم يكفيه أذان الجماعة الأولى وإقامتهم ؟ فيه قولان مشهوران للعلماء ، قد سبق ذكرهما في مواضع من الكتاب .

ومذهب أبي حنيفة وأصحابه وسفيان وإسحاق ؛ أنه يجزئهم الأذان والإقامة [ ص: 24 ] الأولى ، وهو نص أحمد ، وقد جعله صاحب ( المغني ) المذهب ، وهو كما قال ؛ لكن أحمد لا يكره إعادة الأذان والإقامة .

وروي عن طائفة من السلف كراهة إعادتهما ، منهم : عبد الرحمن بن أبي ليلى وغيره ، وحكي - أيضا - عن أبي يوسف ومحمد .

وعن الشعبي ، قال : إذا صلى في المسجد جماعة فإن إقامتهم تجزئ عمن صلى صلاة إلى الصلاة الأخرى .

وقال الزهري : يقيم ، ولم يذكر الأذان .

وعن قتادة ، قال : إن لم يسمع الإقامة أقام ، ثم صلى .

والموضع الثاني : إعادة الجماعة في مسجد قد صلى فيه إمامه الراتب .

واختلف العلماء في ذلك :

فمنهم : من كرهه ، وقال : يصلون فيه وحدانا ، روي ذلك عن سالم وأبي قلابة ، وحكاه بعض العلماء عن سعيد بن المسيب والحسن والنخعي والضحاك والقاسم بن محمد والزهري وغيرهم ، وهو قول الليث والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك ، وحكاه الترمذي في ( كتابه ) عن ابن المبارك والشافعي ، وقد رواه الربيع عن الشافعي ، وأنه لم يفعله السلف ، بل قد عابه بعضهم .

وكان هذا القول هو المعمول به في زمن بني أمية ؛ حذرا من أن يظن بمن صلى جماعة بعد جماعة المسجد الأولى أنه مخالف للسلطان مفتئت عليه ، لا يرى الصلاة معه ، ولا مع من أقامه في إمامة المساجد .

وقد استدل بعضهم لهذا بما روى معاوية بن يحيى ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة ، فوجد الناس قد صلوا ، فمال إلى منزله ، فجمع أهله ، فصلى بهم .

[ ص: 25 ] خرجه الطبراني .

ومعاوية بن يحيى لا يحتج به .

وذهب أكثر العلماء إلى جواز إعادة الجماعة في المساجد في الجملة كما فعله أنس بن مالك ، منهم : عطاء وقتادة ومكحول ، وهو قول إسحاق وأبي يوسف ومحمد وداود .

واختلف فيه عن الحسن والنخعي ، فروي عنهما كالقولين .

والمشهور : أنه يكره ذلك في مسجدي مكة والمدينة خاصة ، ويجوز فيما سواهما .

ومن متأخري أصحابه من ألحق بمسجدي مكة والمدينة المسجد الأقصى في الكراهة .

وعن أحمد رواية أخرى : لا يكره بحال .

ومن أصحابنا من كرهه في المساجد العظام التي يتولى السلطان عادة ترتيب أئمتها كالجوامع ونحوها ؛ لئلا يتطرق بذلك إلى الافتئات عليه ، ولم يكرهه في المساجد التي يرتب أئمتها جيرانها .

وحكي عن الشافعي أنه يكره إعادة الجماعة في مساجد الدروب ونحوها دون مساجد الأسواق التي يكثر فيها تكرار الجماعات ؛ لكثرة استطراق الناس إليها ؛ دفعا للحاجة .

ومتى لم يكن للمسجد إمام راتب لم يكره إعادة الجماعة فيه عند أحد من العلماء ، ما خلا الليث بن سعد ، فإنه كره الإعادة فيه أيضا .

واستدل من لم يكره الإعادة بحديث أبي سعيد الخدري ، قال : جاء رجل [ ص: 26 ] وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( أيكم يتجر على هذا ؟ ) فقام رجل ، فصلى معه .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي - وهذا لفظه ، وقال : هذا حديث حسن - ، وابن خزيمة وابن حبان في ( صحيحهما ) ، والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .

وقد قواه الإمام أحمد وأخذ به ، وهو مشكل على أصله ؛ فإنه يكره إعادة الجماعة في مسجد المدينة .

وقد اعتذر الإمام أحمد عنه من وجهين :

أحدهما : أن رغبة الصحابة في الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت متوفرة ، وإنما كان يتخلف من له عذر ، وأما بعده فليس كذلك ، فكره تفريق الجماعات في المسجدين الفاضلين توقيرا للجماعة فيهما .

والثاني : أن هذا يغتفر في الجماعة القليلة دون الكثيرة ، ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من واحد بالصلاة معه .

وكذلك قال أحمد في الجماعة تفوتهم الجمعة : إنهم إن كانوا ثلاثة صلوا جماعة ، فإن كثروا فتوقف في صلاتهم جماعة ، وقال : لا أعرفه .

ومأخذه في ذلك : أن في إظهار صلاة الظهر يوم الجمعة في المساجد افتئاتا على الأئمة ، ويتستر به أهل البدع إلى ترك الجمعة ، وصلاة الظهر في المساجد كسائر الأيام .

وقد كره طائفة من السلف لمن فاتته الجمعة أن يصلوا جماعة ، منهم : الحسن وأبو قلابة ، وهو قول أبي حنيفة .

[ ص: 27 ] ورويت الرخصة فيه عن ابن مسعود وإياس بن معاوية ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق .

وعن أحمد رواية : أنه يكره صلاة الظهر جماعة إذا كثروا ، ولا يكره إذا قلوا ، وقد ذكرناها آنفا .

ومن أصحابنا من كره الجماعة في مكان الجمعة خاصة .

واختلف فيه عن الثوري ومالك .

وروي عن حذيفة وزيد بن ثابت أن من فاتته الجمعة لا يصلي الظهر في المسجد بالكلية حياء من الناس .

قال حذيفة : لا خير فيمن لا حياء فيه .

وقال زيد : من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله .

وقد روي في حديث أنس الموقوف الذي علقه البخاري زيادة : أنه أمر بعض أصحابه فأذن وصلى ركعتين ، ثم أمره فأقام ، ثم تقدم أنس فصلى بهم .

خرجه عبد الرزاق ، عن جعفر بن سليمان ، عن الجعد ، عن أنس .

وخرجه الجوزجاني من رواية ابن علية ، عن الجعد ، قال : كنا في مسجد بني رفاعة ، فجاء أنس بن مالك ومعه نفر ، وقد صلينا صلاة الصبح ، فقال : أصليتم ؟ قال : نعم ، فأذن رجل من القوم ، ثم صلوا ركعتين ، ثم أقام ، ثم تقدم أنس فصلى بهم .

وهذا يدل على أن من دخل مسجدا قد صلي فيه والوقت باق، فإنه يجوز له أن يتطوع قبل صلاة المكتوبة ، ويصلي السنن الرواتب قبل الفرائض ، وهو قول الأكثرين ، منهم : ... وأبو حنيفة ومالك والشافعي .

وقالت طائفة : يبدأ بالمكتوبة ، منهم : ابن عمر ، رواه مالك وأيوب وابن جريج ، عن نافع ، عنه .

[ ص: 28 ] وكذا روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى والشعبي والنخعي وعطاء ، وهو قول الثوري والحسن بن حي والليث بن سعد .

وعن الحسن ، قال : ابدأ بالمكتوبة إلا ركعتي الفجر .

وكذا قول الثوري .

واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك :

فنقل عنه ابن منصور وصالح وحنبل : يبدأ بالمكتوبة ، واستدل في رواية ابن منصور وصالح بما روي عن ابن عمر .

ونقل عنه أبو القاسم البغوي في الرجل يخرج إلى المسجد فيجدهم قد صلوا ، ووجد رجلا يتطوع : أيتطوع حتى يجيء الرجل ؟ قال : إن شاء تطوع .

ومن كره ذلك جعل الدخول إلى المسجد لإرادة الصلاة المكتوبة كإقامة الصلاة ، فلا يبدأ قبلها بشيء وإنما يشرع التطوع لمن ينتظر الإمام ؛ لأنه إذا لم يخرج إلى الناس لم يمنعوا من التطوع .

ولو كانت الصلاة في غير مسجد فله أن يتطوع قبل المكتوبة ، قاله عطاء وغيره .

وقياس هذا : أن الإمام إذا حضر المسجد ، فإنه يكره له أن يتطوع قبل المكتوبة أيضا .

وقد ذكرنا فيما تقدم في ( باب : متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام ) الحديث الذي خرجه أبو داود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حين تقام الصلاة في المسجد إذا رآهم قليلا جلس ثم صلى ، وإذا رآهم جماعة صلى .

وخرجه البيهقي ، ولفظه : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج بعد النداء إلى المسجد ، فإذا رأى أهل المسجد قليلا جلس حتى يرى منهم جماعة ثم يصلي .

[ ص: 29 ] وقد تقدم في ( باب : القيام للصلاة ) الحديث المرسل ، أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وبلال في الإقامة فجلس .

التالي السابق


الخدمات العلمية