صفحة جزء
وخرج في هذا الباب ثلاثة أحاديث :

الحديث الأول :

628 659 - حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ، ما لم يحدث : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، ولا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه ، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة ) .


دل هذا الحديث على فضل أمرين :

أحدهما : الجلوس في المصلى ، وهو موضع الصلاة التي صلاها ، والمراد به في المجلس دون البيت ، وآخر الحديث يدل عليه .

قال ابن عبد البر : ولو صلت المرأة في مسجد بيتها وجلست فيه تنتظر الصلاة فهي داخلة في هذا المعنى إذا كان يحبسها عن قيامها لأشغالها انتظار الصلاة .

( وإن الملائكة تصلي عليه ما لم يحدث ) وقد فسر صلاة الملائكة عليه بالدعاء له بالمغفرة والرحمة ، والصلاة قد فسرت بالدعاء ، وفسرت بالثناء والتنويه بالذكر ، ودعاء الملائكة بينهم لعبد هو تنويه منهم بذكره وثناء عليه بحسن عمله .

وقد قيل : صلاتهم عليه مقبولة ما لم يحدث .

وقد اختلف في تفسير الحدث : هل هو الحدث الناقض للوضوء ، أو [ ص: 55 ] الحدث باللسان من الكلام الفاحش ونحوه ، ومثله الحدث بالأفعال التي لا تجوز ؟ وقد أشرنا إلى هذا الاختلاف في ( كتاب الطهارة ) .

وذهب مالك وغيره إلى أنه الحدث الناقض للوضوء ، ورجحه ابن عبد البر ؛ لأن المحدث وإن جلس في المسجد فهو غير منتظر للصلاة ؛ لأنه غير قادر عليها .

والثاني : أن منتظر الصلاة لا يزال في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه .

وقد فسر ذلك بأنه ( لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة ) ، وهذا يشمل من دخل المسجد للصلاة فيه جماعة قبل إقامة الصلاة فجلس ينتظر الصلاة ، ومن صلى مع الإمام ثم جلس ينتظر الصلاة الثانية .

وهذا من نوع الرباط في سبيل الله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ؛ فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ) .

خرجه مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة .

وقد ورد تقييد ذلك أيضا بما لم يحدث .

خرجه البخاري في ( أبواب نواقض الوضوء ) من رواية ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة ، ما لم يحدث ) فقال رجل أعجمي : ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال : الصوت ، يعني : الضرطة .

وقد سبق الكلام عليه في موضعه ، وذكرنا اختلاف الناس في تفسير الحدث والمراد به .

[ ص: 56 ] وقد فسره أبو سعيد الخدري كما فسره أبو هريرة أيضا .

خرجه الإمام أحمد .

ومعنى كونه في الصلاة -والله أعلم- : أن له أجر المصلي وثوابه بحبس نفسه في المسجد للصلاة .

وليس في هذا الحديث ولا في غيره من أحاديث الباب الاشتراط للجالس في مصلاه أن يكون مشتغلا بالذكر ، ولكنه أفضل وأكمل ، ولهذا ورد في فضل من جلس في مصلاه بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب ، أحاديث متعددة .

وهل المراد بمصلاه نفس الموضع الذي صلى فيه أو المسجد الذي صلى فيه كله مصلى له ؟ هذا فيه تردد .

وفي ( صحيح مسلم ) عن جابر بن سمرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسناء .

وفي رواية له : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس ، فإذا طلعت الشمس قام .

ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن جلوسه في الموضع الذي صلى فيه ؛ لأنه كان ينفتل إلى أصحابه عقب الصلاة ويقبل عليهم بوجهه .

وخرجه الطبراني ، وعنده : كان إذا صلى الصبح جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس .

ولفظة : ( الذكر ) غريبة .

[ ص: 57 ] وفي تمام حديث جابر بن سمرة الذي خرجه مسلم : وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية ، فيضحكون ويتبسم .

وهذا يدل على أنه لم ينكر على من تحدث وضحك في ذلك الوقت ، فهذا الحديث يدل على أن المراد بمصلاه الذي يجلس فيه المسجد كله .

وإلى هذا ذهب طائفة من العلماء ، منهم : ابن بطة من أصحابنا ، وغيره .

وقد روي عن أبي هريرة ما يخالف هذا .

روى مالك في ( الموطأ ) عن نعيم المجمر ، أنه سمع أبا هريرة يقول : إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه ، تقول : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه في مصلاه حتى يصلي .

فهذا يدل على أنه إذا تحول من موضع صلاته من المسجد إلى غيره من المسجد انقطع حكم جلوسه في مصلاه ، فإن جلس ينتظر الصلاة كان حكمه حكم من ينتظرها ، وصلت عليه الملائكة - أيضا - فإن لم يجلس منتظرا للصلاة فلا شيء له ؛ لأنه لم يجلس في مصلاه ولا هو منتظر للصلاة .

قال ابن عبد البر : إلا أنه لا يقال : إنه تصلي عليه الملائكة .

يعني : على المتحول من مكانه ، وهو ينتظر الصلاة كما تصلي على الذي في مصلاه ينتظر الصلاة .

يشير إلى أن الحديث المرفوع إنما فيه صلاة الملائكة على من يجلس في مصلاه لا على المنتظر للصلاة .

ولكن قد روي في حديث مرفوع ، فروى عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من صلى الفجر ثم جلس في مصلاه صلت عليه الملائكة ، وصلاتهم عليه : اللهم [ ص: 58 ] اغفر له ، اللهم ارحمه ، ومن ينتظر الصلاة صلت عليه الملائكة ، وصلاتهم عليه : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ) .

خرجه الإمام أحمد .

وقال علي بن المديني : هو حديث كوفي ، وإسناده حسن .

وذكر ابن عبد البر - أيضا - أنه يحتمل أن يكون بقاؤه في مصلاه شرطا في انتظار الصلاة - أيضا - كما كان شرطا في الجلوس في مصلاه .

وهذا الذي قاله بعيد ، وإنما يمكن أن يقال فيمن صلى صلاة ثم جلس ينتظر صلاة أخرى ، فأما من دخل المسجد ليصلي صلاة واحدة وجلس ينتظرها قبل أن تقام فأي مصلى له حتى يشترط أن لا يفارقه ؟

قال : وقيامه من مجلسه ، المراد به : قيامه لعرض الدنيا ، فأما إذا قام إلى ما يعينه على ما كان يصنعه في مجلسه من الذكر .

يعني : أنه غير مراد ، ولا قاطع للصلاة عليه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية