صفحة جزء
[ ص: 117 ] 46 - باب

أهل العلم والفضل أحق بالإمامة

فيه خمسة أحاديث :

الحديث الأول :

646 678 - حدثنا إسحاق بن نصر : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن عبد الملك بن عمير ، قال : حدثني أبو بردة ، عن أبي موسى ، قال : مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه ، فقال : ( مروا أبا بكر فليصل بالناس ) ، قالت عائشة : إنه رجل رقيق ، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس ، قال : ( مري أبا بكر فليصل بالناس ) ، فعادت ، فقال : ( مري أبا بكر فليصل بالناس ؛ فإنكن صواحب يوسف ) ، فأتاه الرسول ، فصلى بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم .


استدل البخاري بهذا الحديث على أن أهل الفضل والعلم أحق بالإمامة من غيرهم ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر من بين الصحابة كلهم بالصلاة بالناس ، وروجع في ذلك مرارا وهو يأبى إلا تقديمه في الصلاة على غيره من الصحابة ، وإنما قدمه لعلمه وفضله ؛ فأما فضله على سائر الصحابة فهو مما اجتمع عليه أهل السنة والجماعة ، وأما علمه فكذلك .

وقد حكى أبو بكر ابن السمعاني وغيره إجماع أهل السنة عليه ، أيضا .

وهذا مما يستدل به من قال : إن الأفقه والأعلم مقدم على الأقرأ ؛ فإن أبي بن كعب كان أقرأ الصحابة ، كما قال عمر : ( أبي أقرؤنا ) .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ، أنه قال : ( أقرأ أمتي لكتاب الله أبي بن كعب ) .

[ ص: 118 ] خرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه ، وصححه الترمذي من حديث أبي قلابة ، عن أنس .

وقد روي عن أبي قلابة مرسلا من غير ذكر ( أنس ) ، وهو أصح عند كثير من الحفاظ .

فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على أبي بن كعب في الصلاة بالناس دل على أن الأعلم والأفقه والأفضل مقدم على الأقرأ .

وقد اختلف العلماء : هل يقدم الأقرأ على الأفقه ، أم الأفقه على الأقرأ ؟

فقالت طائفة : يقدم الأفقه ، وهو قول عطاء والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأبي ثور .

وقال الليث : يؤمهم أفضلهم وخيرهم ، ثم أقرؤهم ، ثم أسنهم .

وقالت طائفة : يقدم الأقرأ على الأفقه ، وحكي عن الأشعث بن قيس وابن سيرين والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، حكاه عنهم ابن المنذر واختاره .

وما حكيناه عن الثوري ، حكاه أصحابه عنه في كتبهم المصنفة على مذهبه .

ونص أحمد على أنه يقدم الأقرأ إذا كان يعرف ما تحتاج إليه الصلاة من الفقه ، وكذلك قال كثير من المحققين من أصحابه ، وحكوا مذهبه على هذا الوجه .

واستدل من قدم الأقرأ بما خرجه مسلم في ( صحيحه ) من حديث أوس بن [ ص: 119 ] ضمعج ، عن أبي مسعود الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ) .

وفي رواية لمسلم : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة ) .

وخرجه الحاكم ، وعنده ( يؤم القوم أكثرهم قرآنا ) ، وذكر الحديث .

وخرج مسلم - أيضا - من حديث أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم ، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم ) .

وخرج البخاري في ( كتابه ) هذا من حديث عمرو بن سلمة الجرمي ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ، وليؤمكم أكثركم قرآنا ) .

وخرج - أيضا - فيه من حديث ابن عمر ، قال : لما قدم المهاجرون الأولون قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة ، وكان أكثرهم قرآنا .

وخرج الإمام أحمد من حديث أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يؤمكم أقرؤكم ) .

وخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( ليؤمكم قراؤكم ) .

[ ص: 120 ] وفي الباب أحاديث أخر .

وقد تأول الشافعي وغيره هذه الأحاديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خاطب أصحابه ، وكان أكثرهم قرآنا أكثرهم فقها ؛ فإن قراءتهم كانت علما وعملا بخلاف من بعدهم .

وأجيب عن هذا بوجهين :

أحدهما : أن هذا خطاب عام للأمة كلهم ، فلا يختص بالصحابة .

والثاني : أنه فرق بين الأقرأ والأعلم بالسنة ، وقدم الأقرأ عليه .

وأجاب الإمام أحمد عن تقديم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على أبي بن كعب وغيره ، بأنه أراد بذلك التنبيه على خلافته ، فلهذا المعنى قدمه في الصلاة على الناس كلهم .

وقد منع بعضهم أن يكون أبي بن كعب أقرأ من أبي بكر ، لأن المراد بالأقرأ في الإمامة الأكثر قرآنا ، وقال : كان أبو بكر يقرأ القرآن كله ، فلا مزية لأبي بن كعب عليه في ذلك ، وامتاز أبو بكر بالعلم والفضل .

وهذه المسألة لأصحابنا فيها وجهان : إذا اجتمع قارئان ، أحدهما أكثر قرآنا ، والآخر أجود قراءة ، فهل يقدم الأكثر قرآنا على الأجود قراءة ، أم بالعكس ؟

وأكثر الأحاديث تدل على اعتبار كثرة القرآن .

وإن اجتمع فقيهان قارئان ، أحدهما أفقه ، والآخر أجود قراءة ، ففي أيهما يقدم وجهان ، أيضا .

وقيل : إن المنصوص عن أحمد ، أنه يقدم الأقرأ .

التالي السابق


الخدمات العلمية