صفحة جزء
655 [ ص: 140 ] 51 - باب

إنما جعل الإمام ليؤتم به

وصلى النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه بالناس وهو جالس .

وقال ابن مسعود : إذا رفع قبل الإمام يعود فيمكث بقدر ما رفع ، ثم يتبع الإمام

وقال الحسن - فيمن يركع مع الإمام ركعتين ولا يقدر على السجود - : يسجد للركعة الأخيرة سجدتين ، ثم يقضي الركعة الأولى بسجودها ، وفيمن نسي سجدة حتى قام : يسجد .


المقصود بهذا الباب : أن الإمام يتبع في جميع أفعاله ، وإن فات من متابعته شيء ، فإنه يقضيه المأموم ثم يتبعه ، وإنما يتم هذا بأن يصلوا وراءه جلوسا إذا صلى جالسا .

وهذا المعنى هو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم لأجله : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ) ، والبخاري يدعي نسخه ، كما ذكره في آخر الباب ، فعلى قوله يفوت كمال المتابعة والائتمام به .

وما علقه من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في مرضه قد خرجه في الباب بإسناده .

وأما ما حكاه عن ابن مسعود ، فمضمونه : أن من رفع رأسه قبل الإمام فإنه يعود إلى الركوع والسجود الذي رفع منه ، فيمكث بقدر ما رفع قبله ليتم متابعته ، ويكون ركوعه وسجوده بقدر ركوع الإمام وسجوده .

وهكذا قال عمر بن الخطاب ، قال : إذا رفع أحدكم رأسه من ركعته أو سجدته قبل الإمام فليعد حتى يرى أنه قد أدرك ما فاته .

[ ص: 141 ] خرجه حرب الكرماني والإسماعيلي في ( مسند عمر ) من طريق ابن إسحاق ، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج ، عن بسر بن سعيد ، عن الحارث بن مخلد ، عن أبيه مخلد ، قال : سمعت عمر ، فذكره .

وخرجه الحافظ أبو موسى المديني ، من طريق حماد بن مسعدة ، عن ابن أبي ذئب ، عن يعقوب بن الأشج ، به ، إلا أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

ورفعه فيه نكارة .

وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر من المتابعة للإمام ، كما خرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ، وليؤمكم أحدكم ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا قال : غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا : آمين ، يجبكم الله ، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا ، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم ) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فتلك بتلك ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد ، يسمع الله لكم ؛ فإن الله تعالى قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : سمع الله لمن حمده ، فإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا ؛ فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع ) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فتلك بتلك ) وذكر بقية الحديث .

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( فتلك بتلك ) : أن ما سبقكم من ركوعه قبلكم وسجوده قبلكم تدركونه بتأخركم بالرفع بعده من الركوع والسجود ، فتساوونه في قدر ركوعه وسجوده بذلك .

وروى أبو داود وابن ماجه من حديث ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( لا تبادروني بالركوع ولا بالسجود ، فمهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني إذا [ ص: 142 ] رفعت ، ومهما أسبقكم به إذا سجدت تدركوني به إذا رفعت ؛ إني قد بدنت ) .

وخرج الإمام أحمد من حديث ابن مسعدة صاحب الجيوش ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إني قد بدنت ، فمن فاته ركوعي أدركه في بطء قيامي ) .

فلهذا المعنى قال ابن مسعود : فمن رفع قبل الإمام يعود فيمكث بقدر ما رفع ثم يتبع الإمام .

وفيه معنى آخر ، وهو : أنه إذا فعل ذلك فقد تخلص من محذور رفعه قبل الإمام ، وهو منهي عنه .

وقد روي مثل قول ابن مسعود عن عمر وابنه ، وعن كثير من التابعين ومن بعدهم من العلماء ، وهو قول الفقهاء المشهورين كأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي وأحمد .

وأوجب أصحابنا على السابق أن يرفع ليتبع الإمام ، ما دام الإمام لم يرفع بعد .

فإن رفع الإمام ، فقالوا : يستحب له أن يعوض عن ذلك بالتطويل في السجدة الثانية ، وحملوا عليه ما روي عن ابن عمر ، قال : من رفع رأسه في السجدة الأولى قبل الإمام فليطول في الثانية .

وعن ابن مسعود ، قال : ليصنع في الثانية بعد الإمام بقدر ما كان رفع في الأولى .

خرجهما سعيد بن منصور في ( سننه ) .

ولم يفرق أكثرهم بين أن يرفع قبله عمدا أو سهوا ، وهذا على أصل الحنفية ظاهر ؛ لأنهم يرون أن لا تبطل الصلاة بزيادة ركوع أو سجود عمدا ، وأما [ ص: 143 ] أصحاب الشافعي وأحمد فعندهم تبطل الصلاة بذلك عمدا .

وقال بعض متأخريهم : إنه إن رفع قبل الإمام عمدا لم يعد إلى متابعته فيما رفع عنه من ركوع أو سجود ؛ لأنه يكون قد تعمد زيادة ركن عمدا فتبطل صلاته بذلك .

والصحيح : ما أطلقه الأئمة وأكثر أصحابهم ؛ فإن عوده إلى المتابعة قطع لما فعله من القيام والقعود الذي سبق به الإمام ، وعود إلى متابعة الإمام ، وليس عوده إتماما للركوع ولا للسجود الذي سبق به ، بل هو إبطال له ، فلا يصير بذلك متعمدا لزيادة ركن تام .

وبكل حال ؛ فإذا تعمد المأموم سبق إمامه ففي بطلان صلاته بذلك وجهان لأصحابنا .

وقيل : إن البطلان ظاهر كلام أحمد ، وروي عن ابن عمر ، وأكثر العلماء على أنها لا تبطل ، ويعتد له بها إذا اجتمع مع إمامه فيما بعد .

ولو كان سبق الإمام سهوا حتى أدركه إمامه اعتد له بذلك عند أصحابنا وغيرهم ، خلافا لزفر .

وقد بسطت القول على ذلك في ( كتاب : القواعد في الفقه ) . والله أعلم .

وأما ما حكاه البخاري عن الحسن ، فإنه يتضمن مسألتين :

إحداهما :

إذا صلى مع الإمام ركعتين ، وقدر على الركوع فيهما معه دون السجود فإنه عجز عنه ، فإنه إذا قعد الإمام للتشهد سجد سجدتين ، فكملت له الركعة الثانية ، وأعاد الركعة الأولى التي عجز عن سجدتيها .

وهذا يدل على أن المأموم إذا تخلف عن متابعة الإمام في سجدتين من ركعة ، فقد فات المأموم تلك الركعة ؛ فلهذا لم يعتد بالركعة الأولى ، وإنما [ ص: 144 ] يعتد بالثانية ؛ لأنه قدر على قضاء السجدتين ، وإدراك الإمام قبل سلامه ، فهو كما لو أدركهما معه .

وفي هذا نظر ؛ فإنه كان ينبغي أن يأتي بالسجدتين في قيام الإمام إلى الثانية ، ثم يلحقه كما يأتي بهما في حال تشهده في الثانية ، ولا فرق بينهما .

وقد يحمل على أنه لم يتمكن من السجدتين إلا في التشهد ، ولم يتمكن في حال قيام الإمام في الثانية .

وعن أحمد فيما إذا تخلف عن الإمام حتى فاته معه سجدتان - روايتان :

إحداهما : أنه تلغى ركعته ، كما قال الحسن ، ولكن لا فرق عنده بين الركعة الأولى والثانية .

والرواية الثانية : إن خاف فوات الركعة الثانية بتشاغله بقضاء السجدتين فكذلك ، وإن لم يخف قضى السجدتين إذا قام الإمام في الثانية ثم لحقه فيها .

واختلف الأصحاب في ذلك :

فمنهم من قال : هاتان الروايتان جاريتان في جميع صور التخلف عن متابعة الإمام بركنين ، سواء كان لسهو أو نوم أو زحام .

ومنهم من قال : إنما نص أحمد في الساهي والنائم على أن ركعته تلغى ، ونص في المزحوم على أنه يقضي ثم يلحق الإمام ، فيقر النصان على ما نص عليه من غير نقل ولا تخريج ، ويفرق بين المزحوم وغيره بأن غير المزحوم مفرط ومقصر فتلغى ركعته ، بخلاف المزحوم فإنه معذور فيأتي بما فاته ويلحق إمامه .

وروى حرب بإسناده ، عن الأوزاعي ، في رجل صلى مع الإمام ركعة ، فلما كان في الثانية ركع الإمام وسجد سجدتيه ، ثم قام في الثالثة والرجل قائم ؟ قال : إن أدركه في سجدتيه ركع وسجد معهم ، وإن كان قد نهض في الثالثة اتبعه فيما [ ص: 145 ] بقي من صلاته ، ثم يقضي تلك الركعة التي نام عنها أو غفل .

وعن الزهري ، في الرجل يصلي مع الإمام ، فينام حتى يفرغ الإمام من الركعة والسجدتين ؟ قال : يصلي ما تركه بعد أن يسلم ، ويسجد سجدتي السهو .

وبإسناده ، عن هشام ، عن الحسن ، في رجل كان مع القوم ، فنام أو سها ، فركعوا أو سجدوا ؟ قال : يتبعهم بالركوع والسجود ، وليس عليه غيره .

وهذا يدل على أن كلام الحسن الذي حكاه البخاري إنما أراد به أنه عجز عن قضاء السجدتين قبل تشهد الإمام . والله أعلم .

ويدل عليه - أيضا - : ما خرجه عبد الرزاق في ( كتابه ) ، عن معمر ، عن رجل ، عن الحسن ، في رجل دخل مع قوم في صلاتهم ، فنعس حتى ركع الإمام وسجد ؟ قال : يتبع الإمام .

وعن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : قلت له : لو كبرت مع الإمام لاستفتاح الصلاة ، ثم ركع فسهوت ، فلم أركع حتى رفع ؟ قال : قد أدركتها فاعتد بها .

قلت لعطاء : فنعست ، فلم أزل قائما حتى رفع الناس وسجدوا ، فجبذني إنسان ، فجلست كما أنا ؟ قال : فأوف تلك الركعة - يعني : تقضيها - .

وقال عبد الرزاق عن الثوري ، في رجل كبر مع الإمام في أول الصلاة ، ثم نعس حتى صلى الإمام ركعة أو ركعتين ؟ قال : إذا استيقظ ركع وسجد ما سبقه ، ثم يتبع الإمام بما بقي ، فهو يركع ويسجد بغير قراءة .

وهذا قول غريب .

وقد تقدم عن الأوزاعي أنه يتبعه ، ويأتي بما فاته ما لم ينهض الإمام إلى [ ص: 146 ] الركعة التي بعدها .

وقال مالك : إن أدركهم في أول سجودهم سجد معهم واعتد بها ، وإن علم أنه لا يقدر على الركوع وأن يدركهم في السجود حتى يقوموا في الثانية تبعهم فيما بقي ، وقضى الركعة بعد السلام ، وسجد للسهو .

ومذهب الشافعي : أنه يسجد ويتبعه ما لم يركع الإمام الركعة الثانية ؛ فإن ركع لغت ركعته ، ثم قضاها بعد سلام الإمام .

ومذهب الإمام أحمد : إذا فاته مع الإمام أكثر من ركنين لغت ركعته ، ويقضيها بعد سلام الإمام كالمسبوق .

وعن الإمام أحمد رواية : أنه إذا نام حتى فاته ركعتان بطلت صلاته .

وهذا محمول على أنه كان نوما طويلا ، فانتقضت طهارته ، فيعيد الوضوء والصلاة .

وحكي عنه رواية أخرى : إذا نام حتى رفع الإمام من الركوع تبطل صلاته .

وهي محمولة - أيضا - على أنه نام مدة قيام الأول وركوعه ورفعه ، فهو نوم طويل ناقض للطهارة . والله أعلم .

المسألة الثانية :

أن من نسي سجدة حتى قام الإمام سجد ، ثم تابعه .

وهذا قول جمهور العلماء .

ومن أصحابنا من قال : لا نعلم فيه خلافا ؛ لأنه تخلف يسير لعذر ، وتعم به البلوى كثيرا في حق من صلى خلف من لا يطيل المكث في ركوعه وسجوده .

وهذا مطرد في كل من فاته مع الإمام ركن واحد لعذر من زحام أو نوم أو نسيان .

[ ص: 147 ] ولا فرق بين ركن وركن في ذلك عند كثير من العلماء من أصحابنا وغيرهم .

ومن أصحابنا من فرق بين الركوع وغيره ، فقال : إن فاته الركوع وحده حتى رفع الإمام فحكمه حكم التخلف عن الإمام بركنين ، كما سبق ، فإما أن تفوته الركعة ويقضيها ، أو أن يركع ثم يتابع إمامه ، على ما سبق .

وحكي رواية عن أحمد ، أنه تبطل صلاته ، وقد سبق ذكرها وتأويلها .

وفرق هؤلاء بين الركوع وغيره بأن الركوع عماد الركعة ، وبه تلحق وتفوت بفوته ، فألحق بالركنين في التخلف به عن الإمام ، وهذه طريقة ابن أبي موسى وغيره .

ومن سوى بين الركوع وغيره فرق بين هذا وبين المسبوق ، بأن المسبوق قد فاته مع الإمام معظم الركعة ، وهو القيام والقراءة والركوع ، وليس هذا كذلك .

وقد سبق عن عطاء ما يدل على أنه يركع بعد إمامه ويعتد له بتلك الركعة . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية