صفحة جزء
22 1 - حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحياء - أو: الحياة، شك مالك - فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية.


مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وهي أن المذكور فيه هو أن القليل جدا من الإيمان يخرج صاحبه من النار [ ص: 169 ] والتفاوت في شيء فيه القلة والكثرة ظاهر، وهو عين التفاضل، لا يقال: الحديث، إنما يدل على تفاضلهم في ثواب الأعمال، لا في نفس الأعمال; إذ المقصود منه بيان أن بعض المؤمنين يدخلون الجنة أول الأمر، وبعضهم يدخلون آخرا; لأنا نقول يدل على تفاوت الناس في الأعمال أيضا; لأن الإيمان إما التصديق، وهو عمل القلب، وإما التصديق مع العمل، وعلى التقديرين قابل للتفاوت إذ مثقال الحبة إشارة إلى ما هو أقل منه أو تفاوت الثواب مستلزم لتفاوت الأعمال شرعا، ويحتمل أن يراد من الأعمال ثواب الأعمال إما تجوزا بإطلاق السبب، وإرادة المسبب، وإما إضمارا بتقدير لفظ الثواب مضافا إليها.

(بيان رجاله)، وهم خمسة:

الأول: إسماعيل بن عبد الله أبي أويس بن عبد الله بن أبي أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي عم مالك بن أنس أخي الربيع، وأنس وأبي سهيل نافع أولاد مالك بن أبي عامر، وإسماعيل هذا ابن أخت الإمام مالك بن أنس سمع خاله وأباه وأخاه عبد المجيد، وإبراهيم بن سعد، وسليمان بن بلال، وآخرين، روى عنه الدارمي، والبخاري، ومسلم، وغيرهم من الحفاظ. وروى مسلم أيضا عن رجل عنه، وروى له أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، ولم يخرج له النسائي لأنه ضعفه. وقال أبو حاتم: محله الصدق وكان مغفلا، وقال يحيى بن معين: هو ووالده ضعيفان، وعنه يسرقان الحديث، وعنه إسماعيل صدوق ضعيف العقل ليس بذلك، يعني أنه لا يحسن الحديث، ولا يعرف أن يؤديه، ويقرأ في غير كتابه، وعنه مختلط يكذب ليس بشيء، وعنه يساوي فلسين، وعنه لا بأس به، وكذلك قال أحمد: قال أبو القاسم اللكائي: بالغ النسائي في الكلام عليه بما يؤدي إلى تركه، ولعله بان له ما لم يبن لغيره; لأن كلام هؤلاء كلهم يؤول إلى أنه ضعيف، وقال الدارقطني: لا أختاره في الصحيح، وقال ابن عدي: روى عن خاله مالك أحاديث غرائب لا يتابعه أحد عليها، وأثنى عليه ابن معين، وأحمد، والبخاري يحدث عنه بالكثير، وهو خير من أبيه. وقال الحاكم عيب على البخاري ومسلم إخراجهما حديثه، وقد احتجا به معا، وغمزه من يحتاج إلى كفيل في تعديل نفسه أعني النضر بن سلمة، أي: فإنه قال: كذاب. قلت: قد غمزه من لا يحتاج إلى كفيل، ومن قوله حجة مقبولة. وقد أخرجه البخاري عن غيره أيضا، فاللين الذي فيه يجبر إذن، مات في سنة ست، ويقال: في رجب سنة سبع وعشرين ومائتين.

الثاني: مالك بن أنس، وقد تقدم ذكره.

الثالث: عمرو، بفتح العين ابن يحيى بن عمارة، ووقع بخط النووي في شرحه عثمان، وهو تحريف ابن أبي حسن تميم بن عمرو، وقيل: يحيى بن عمر. وحكاه الذهبي في الصحابة ابن قيس بن يحرث بن الحارث بن ثعلبة بن مازن بن النجار الأنصاري المازني المدني، روى عن أبيه، وعن غيره من التابعين، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وغيره من التابعين، وغيرهم، والأنصاري من أقرانه، وروى عن يحيى بن كثير، وهو من أقرانه أيضا، وثقه أبو حاتم، والنسائي، توفي سنة أربعين ومائة، وعمارة صحابي بدري عقبي، ذكره أبو موسى، وأبو عمر، وفيه نظر، نعم أبوه صحابي عقبي بدري. وقال ابن سعد: وشهد الخندق وما بعد هذا. وأم عمرو هذا هي أم النعمان بنت أبي حنة بالنون ابن عمرو بن غزية بن عمرو بن عطية ابن خنساء بن مندول بن عمرو بن غانم بن مازن بن النجار.

الرابع: أبو يحيى بن عثمان بن أبي حسن الأنصاري المازني المدني سمع أبا سعيد، وعبد الله بن زيد، وعنه ابنه، والزهري، وغيرهما، روى له الجماعة.

الخامس: أبو سعيد سعد بن مالك الخدري رضي الله عنه.

(بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري هنا عن إسماعيل، عن مالك، وفي صفة الجنة والنار عن وهيب بن خالد، وأخرجه مسلم في الإيمان عن هارون، عن ابن وهب، عن مالك. وعن أبي بكر، عن عفان، عن وهيب. وعن حجاج ابن الشاعر، عن عمرو بن عون، عن خالد بن عبد الله، ثلاثتهم عن عمرو بن يحيى به.

وقع هذا الحديث للبخاري عاليا برجل عن مسلم. وأخرجه النسائي أيضا، وهذا الحديث قطعة من حديث طويل يأتي إن شاء الله تعالى. وقد وافق إسماعيل على رواية هذا الحديث عبد الله بن وهب، ومعن بن عيسى، عن مالك، وليس هو في الموطأ. قال الدارقطني : هو غريب صحيح. وفي رواية الدارقطني من طريق إسماعيل: " يدخل الله ". وزاد من طريق معن: " يدخل من يشاء برحمته "، وكذا الإسماعيلي على طريق ابن وهب.

(بيان اللغات) قوله: " مثقال حبة " المثقال كالمقدار لفظا ومعنى، مفعال من الثقل، وفي (العباب) مثقال الشيء ميزانه من مثله، وقوله تعالى: مثقال ذرة، أي: زنة ذرة. قال:

وكلا يوافيه الجزاء بمثقال.

أي بوزن، وحكى أبو نصر ألقي عليه [ ص: 170 ] مثاقيله، أي: مؤنته، والثقل ضد الخفة، والمثقال في الفقه من الذهب عبارة عن اثنين وسبعين شعيرة، قاله الكرماني. قلت: ذكر في (الاختيار) أن المثقال عشرون قيراطا، وكذا ذكر في (الهداية)، وفي (العباب) القيراط معروف، ووزنه يختلف باختلاف البلاد، فهو عند أهل مكة حرسها الله تعالى ربع سدس الدينار، وعند أهل العراق نصف عشر الدينار. قلت: ذكر الفقهاء أن القيراط طسوجتان، والطسوجة شعيرتان، والشعيرة ذرتان، والذرة فتيلتان، والفتيلة شعرتان، وأما المراد هاهنا من المثقال فقد قيل: هو وزن مقدر، الله أعلم بقدره، وليس المراد المقدر هذا المعلوم فقد جاء مبينا، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، والحبة بفتح الحاء، وتشديد الباء الموحدة واحدة الحب المأكول من الحنطة ونحوها، وفي (المحكم)، وجمع الحبة: حبات، وحبوب، وحب، وحبان، الأخيرة نادرة.

قوله: " من خردل " ، بفتح الخاء المعجمة، هو نبات معروف يشبه الشيء القليل البليغ في القلة بذلك، يعني: يدخل الجنة من كان في قلبه أقل قدر من الإيمان، وقال في (العباب) الخردل معروف، واحدته خردلة.

قوله: " في نهر الحياء " كذا في هذه الرواية بالمد، وهي رواية الأصيلي، ولا وجه له كما نبه عليه القاضي. وفي رواية كريمة وغيرها بالقصر، وعليه المعنى; لأن المراد كل ما يحصل به الحياة، والحيا بالقصر هو المطر، وبه يحصل حياة النبات، فهو أليق بمعنى الحياة من الحياء الممدود الذي بمعنى الخجل، ونهر الحياة معناه الماء الذي يحيي من انغمس فيه.

قوله: " كما تنبت الحبة " بكسر الحاء، وتشديد الباء الموحدة بذر العشب، وجمعه حبب كقربة، وقرب، ويحتمل أن يكون اللام للعهد، ويراد به حبة بقلة الحمقاء; لأن شأنه أن ينبت سريعا على جانب السيل فيتلفه السيل، ثم ينبت فيتلفه السيل، ولهذا سميت بالحمقاء; لأنه لا تمييز لها في اختيار المنبت. وقال الجوهري: الحبة بالكسر بذور الصحراء مما ليس بقوت. وفي الحديث: ينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، وتسمى الرجلة بكسر الراء والجيم: بقلة الحمقاء; لأنها لا تنبت إلا في المسيل. وقال الكسائي: هو حب الرياحين. ففي بعض الروايات: في حميل السيل، وهو ما يحمله السيل من طين ونحوه. قيل: فإذا اتفق فيه الحبة واستقرت على شط مجرى السيل تنبت في يوم وليلة، وهي أسرع نابتة نباتا، وفي (المحكم) الحبة: بذور البقول والرياحين، واحدها حب، وقيل: إذا كانت الحبوب مختلفة من كل شيء فهي حبة، وقيل: الحبة نبت ينبت في الحشيش صغار، وقيل: ما كان له حب من النبات، فاسم ذلك الحب الحبة، وقال أبو حنيفة الدينوري: الحبة بالكسر جميع بذور النبات، واحدتها حبة بالفتح، وعن الكسائي: أما الحب فليس إلا الحنطة والشعير، واحدتها حبة بالفتح، وإنما افترقا في الجمع، والحبة بذر كل نبات ينبت وحده من غير أن يبذر، وكل ما بذر فبذره حبة بالفتح. وقال الأصمعي: ما كان له حب من النبت فاسمه حبة إذا جمع الحبة. وقال أبو زياد: كل ما يبس من البقل كله ذكوره وأحراره يسمى الحبة إذا سقط على الأرض وتكسر، وما دام قائما بعد يبسه فإنه يسمى القت، وفي (الغريبين) حب الحنطة، يسمى حبة بالتخفيف، والحبة بكسر الحاء، وتشديد الباء اسم جامع لحبوب البقول التي تنتشر إذا هاجت، ثم إذا مطرت في قابل تنبت، وفي (العباب) الحبة بالكسر بذور الصحراء، والجمع الحبب.

قوله: " في جانب السيل " كذا هاهنا، وجاء حميل بدل جانب، وفي رواية وهيب: حماة السيل، والحميل بمعنى المحمول، وهو ما جاء به من طين أو غثاء، والحمأة ما تغير لونه من الطين، وكله بمعنى، فإذا اتفق فيه حبة على شط مجراه فإنها تنبت سريعا.

قوله: " صفراء " تأنيث الأصفر من الاصفرار، وهو من جنس الألوان للرياحين، ولهذا تسر الناظرين، وسيد رياحين الجنة الحناء، وهو أصفر.

قوله: " ملتوية " ، أي: منعطفة منثنية، وذلك أيضا يزيد الريحان حسنا يعني اهتزازه، وتميله، والله تعالى أعلم.

(بيان الإعراب) قوله: " يدخل أهل الجنة " فعل وفاعل، ولفظة أهل مضافة إلى الجنة، والجنة الثانية بالنصب; لأنه مفعول، وأصله في الجنة، وإنما قلنا ذلك; لأن الجنة محدودة، وكان الحق أن يقال: دخلت في الجنة، كما في قولك: دخلت في الدار; لأنها محدودة إلا أنهم حذفوا حرف الجر اتساعا، وأوصلوا الفعل إليه، ونصبوه نصب المفعول به، وذهب الجرمي إلى أنه فعل متعد نصب الدار كنحو بنيت الدار، وقد دفعوا.

قوله: " بأن مصدره " يجيء على فعول، وهو من مصادر الأفعال اللازمة، نحو: قعد قعودا، وجلس جلوسا، ولأن مقابله لازم أعني خرجت. قلت: فيه نظر; لأنه غير مطرد; لأن ذهب لازم، وما يقابله جاء متعد. قال الله تعالى: أو جاءوكم حصرت صدورهم

قوله: " وأهل النار " كلام إضافي عطف على الأهل الأول: والتقدير: ويدخل أهل النار النار، والكلام في النار الثانية مثل الكلام في الجنة الثانية. قوله: " ثم يقول الله عز وجل " .

[ ص: 171 ] كلمة ثم هاهنا واقعة في موقعها، وهو الترتيب مع المهلة.

قوله: " أخرجوا، بفتح الهمزة; لأنه أمر من الإخراج، وهو خطاب للملائكة، وقوله: " من كان في قلبه "... إلى آخره جملة في محل النصب على أنها مفعول لقوله: أخرجوا، و"من" موصولة، وقوله: " كان في قلبه مثقال حبة " صلتها، ومثقال حبة كلام إضافي مرفوع; لأنه اسم كان وخبره، هو قوله: " في قلبه " مقدما، وقيل: يجوز أن يكون أخرجوا بضم الهمزة من الخروج، فعلى هذا يكون من منادى قد حذف منه حرف النداء، والتقدير: أخرجوا يا من كان في قلبه مثقال حبة، وقوله: " من خردل " يتعلق بمحذوف، وهو حاصلة، والتقدير: مثقال حبة حاصلة من خردل، وهي في محل الجر على أنها صفة لمجرور، وقوله: " من إيمان " يتعلق بمحذوف آخر، والتقدير: من خردل حاصل من إيمان، وهو أيضا في محل الجر نحوها، ويجوز أن تتعلق من هذه بقوله: " من كان "، ولا يجوز أن يتعلق بفعل واحد حرفا جر من جنس واحد، فافهم.

قوله: " فيخرجون منها " ، أي: من النار، والفاء فيه للاستئناف تقديره: فهم يخرجون، كما في قوله تعالى: كن فيكون

قوله: " قد اسودوا " جملة قد وقعت حالا، أي: صاروا سودا كالفحم من تأثير النار.

قوله: " فيلقون " على صيغة المجهول جملة معطوفة على الجملة الأولى بالفاء التي تقتضي الترتيب.

قوله: " شك مالك " جملة معترضة بين قوله: " فيلقون في نهر الحياة "، وبين قوله: " فينبتون "، وأراد أن الترديد بين الحياء والحياة إنما هو من مالك بن أنس الإمام، وهو الذي شك فيه. وأخرج مسلم هذا الحديث من رواية مالك فأيهم الشاك، وقد فسر هنا قوله: " فينبتون " عطف على قوله: " فيلقون ".

قوله: " كما تنبت الحبة " الكاف للتشبيه، وما مصدرية، والتقدير كنبات الحبة، ومحل الجملة النصب على أنها صفة لمصدر محذوف، أي: فينبتون نباتا كنبات الحبة.

قوله: " ألم تر " خطاب لكل من يتأتى منه الرؤية.

قوله: " تخرج " جملة في محل الرفع; لأنها خبر إن.

قوله: " صفراء ملتوية " حالان متداخلتان أو مترادفتان.

(بيان المعاني والبيان).

قوله: " يدخل " فعل مضارع، وقد علم أنه صالح للحال والاستقبال، فقيل: حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال، وقيل: بالعكس. وقال ابن الحاجب: الصحيح أنه مشترك بينهما; لأنه يطلق عليهما على السوية، وهو دليل الاشتراك، وفي قوله: " على السوية " نظر لا يخفى، ثم إنه لا يخلص للاستقبال إلا بالسين، ونحوه، وكان القياس هاهنا أن يذكر بأداة مخلصة للاستقبال; لأن دخول الجنة والنار إنما هو في الاستقبال، ولكنه محقق الوقوع، ذكره بصورة الحال.

قوله: " من إيمان " ذكره منكرا; لأن المقام يقتضي التقليل، ولو عرف لم يفد ذلك. فإن قلت: فيكفيه الإيمان ببعض ما يجب الإيمان به; لأنه إيمان ما قلت لا يكفيه; لأنه علم من عرف الشرع أن المراد من الإيمان هو الحقيقة المعهودة عرف أو نكر.

قوله: " مثقال حبة من خردل " من باب التمثيل ليكون عيارا في المعرفة، وليس بعيار في الوزن; لأن الإيمان ليس بجسم يحصره الوزن أو الكيل لكن ما يشكل من المعقول قد يرد إلى عيار المحسوس ليفهم، ويشبه به ليعلم، والتحقيق فيه أنه يجعل عمل العبد وهو عرض في جسم على مقدار العمل عند الله، ثم يوزن ويدل عليه ما جاء مبينا، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة. وقال إمام الحرمين: الصحف المشتملة على الأعمال يزنها الله تعالى على قدر أجور الأعمال، وما يتعلق بها من ثوابها وعقابها، وجاء به الشرع، وليس في العقل ما يحيله، ويقال: للوزن معنيان أحدهما هذا، والآخر تمثيل الأعراض بجواهر، فيجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة. وحكى الزجاج وغيره من المفسرين من أهل السنة أنه إنما يوزن خواتيم الأعمال، فإن كانت خاتمة عمله حسنا جوزي بخير، ومن كانت خاتمة عمله شرا جوزي بشر، ثم اعلم أن المراد بحبة الخردل زيادة على أصل التوحيد، وقد جاء في الصحيح بيان ذلك، ففي رواية فيه: " أخرجوا من قال: لا إله إلا الله، وعمل من الخير ما يزن كذا "، ثم بعد هذا يخرج منها من لم يعمل خيرا قط غير التوحيد. وقال القاضي: هذا هو الصحيح إذ معنى الخير هاهنا أمر زائد على الإيمان; لأن مجرده لا يتجزى، وإنما يتجزى الأمر الزائد عليه، وهي الأعمال الصالحة من ذكر خفي أو شفقة على مسكين، أو خوف من الله تعالى، ونية صادقة في عمل وشبهه، وذكر القاضي عن قوم أن المعنى في قوله: " من إيمان ومن خير ما جاء منه "، أي: من اليقين إلا أنه قال: المراد ثواب الإيمان الذي هو التصديق، وبه يقع التفاضل فإن اتبعه بالعمل عظم ثوابه، وإن كان على خلاف [ ص: 172 ] ذلك نقص ثوابه. فإن قلت: كيف يعلمون ما كان في قلوبهم في الدنيا من الإيمان، ومقداره. قلت: لعله بعلامات كما يعلمون أنهم من أهل التوحيد.

قوله: " كما تنبت الحبة... إلخ " فيه تشبيه متعدد، وهو التشبيه من حيث الإسراع، ومن حيث ضعف النبات، ومن حيث الطراوة، والحسن، والمعنى: من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان يخرج من ذلك الماء نضرا حسنا منبسطا متبخترا كخروج هذه الريحانة من جانب السيل صفراء متميلة، وهذا يؤيد كون اللام في الحبة للجنس; لأن بقلة الحمقاء ليست صفراء إلا أن يقصد به مجرد الحسن والطراوة، وقد ذكرنا وجه كونها للعهد.

(بيان استنباط الفوائد): الأولى: فيه حجة لأهل السنة على المرجئة حيث علم منه دخول طائفة من عصاة المؤمنين النار إذ مذهبهم أنه لا يضر مع الإيمان معصية فلا يدخل العاصي النار.

الثانية: فيه حجة على المعتزلة حيث دل على عدم وجوب تخليد العاصي في النار.

الثالثة: فيه دليل على تفاضل أهل الإيمان في الأعمال.

الرابعة: ما قيل: إن الأعمال من الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم: " خردل من إيمان "، والمراد ما زاد على أصل التوحيد. قلت: لا دلالة فيه على ذلك أصلا على ما لا يخفى.

التالي السابق


الخدمات العلمية