صفحة جزء
2351 1 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : أخبرنا مالك ، عن وهب بن كيسان ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل ، فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، وهم ثلاثمائة ، وأنا فيهم ، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش ، فجمع ذلك كله فكان مزودي تمر ، فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني ، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة ، فقلت : وما تغني تمرة ؟ فقال : لقد وجدنا فقدها حين فنيت ، قال : ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظرب فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ثم أمر براحلة فرحلت ثم مرت تحتهما فلم تصبهما .


مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله : فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك ذلك كله ، ولما كان يفرق عليهم كل يوم قليلا قليلا صار في معنى النهد ، واعترض بأنه ليس فيه ذكر المجازفة ; لأنهم لم يريدوا المبايعة ، ولا البدل ، وأجيب بأن حقوقهم تساوت فيه بعد جمعه ، فتناولوه مجازفة كما جرت العادة .

والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن مالك ، وفي الجهاد عن صدقة بن الفضل . وأخرجه مسلم في الصيد ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن محمد بن عبدة ، به . وعن محمد بن حاتم ، عن ابن مهدي ، عن مالك ، به . وعن أبي كريب ، عن أبي أسامة . وأخرجه الترمذي في الزهد عن هناد بن السري . وأخرجه النسائي في الصيد ، وفي السير عن محمد بن آدم ، وعن الحارث بن مسكين ، وأخرجه ابن ماجه في الزهد عن أبي بكر بن أبي شيبة .

( ذكر معناه ) . قوله : " بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثا " كان هذا البعث في رجب سنة ثمان للهجرة ، والبعث بفتح الباء الموحدة ، وسكون العين المهملة ، وفي آخره ثاء مثلثة ، وهو بمعنى المبعوث من باب تسمية المفعول بالمصدر . قوله : " قبل الساحل " ، بكسر القاف ، وفتح الباء الموحدة ، أي : جهة الساحل ، والساحل شاطئ البحر . قوله : " فأمر " بتشديد الميم من التأمير ، أي : جعل أبا عبيدة أميرا عليهم ، واسم أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح ، بفتح الجيم ، وتشديد الراء ، وبالحاء المهملة الفهري القرشي أمين الأمة أحد العشرة المبشرة ، شهد المشاهد كلها ، وثبت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد ، ونزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلق المغفر بفيه ، فوقعت ثنيتاه ، مات سنة ثماني عشرة في طاعون عمواس ، وقبره بغور نيسان عند قرية تسمى عمتا ، وصلى عليه معاذ بن جبل ، [ ص: 42 ] وكان سنه يوم مات ثمانيا وخمسين سنة . قوله : " وهم " ، أي : البعث الذي هو الجيش ثلاثمائة أنفس . قوله : " فني الزاد " . قال الكرماني : إذا فني فكيف أمر بجمع الأزواد ، فأجاب بأنه إما أن يريد به فناء زاده خاصة ، أو يريد بالفناء القلة . ( قلت ) : يجوز أن يقال : معنى فني أشرف على الفناء . قوله : " فكان مزودي تمر " ، المزود ، بكسر الميم ما يجعل فيه الزاد كالجراب . وفي رواية مسلم : بعثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وزودنا جرابا من تمر ، لم يجد لنا غيره ، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة . قوله : " لقد وجدنا فقدها حين فنيت " ، أي : وجدنا فقدها مؤثرا شاقا علينا ، ولقد حزنا لفقدها . قوله : " ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت " ، كلمة " إذا " للمفاجأة ، والحوت يقع على الواحد والجمع ، وقال صاحب ( المنتهى ) : والجمع حيتان ، وهي العظام منها . وقال ابن سيده : الحوت السمك ، اسم جنس . وقيل : هو ما عظم منه ، والجمع أحوات ، وفي كتاب الفراء جمعه أحوتة وأحوات في القليل ، فإذا كثرت فهي الحيتان . قوله : " مثل الظرب " ، بفتح الظاء المعجمة ، وكسر الراء مفرد الظراب ، وهي الروابي الصغار . وقال ابن الأثير : الظراب الجبال الصغار ، واحدها ظرب بوزن كتف ، وقد يجمع في القلة على أظراب . قوله : " ثماني عشرة ليلة " ، كذا هو في نسخة الأصيلي ، وروي ثمانية عشر ليلة . وقال ابن التين : الصواب هو الأول ، وروي : فأكلنا منه شهرا ، وروي : نصف شهر . وقال عياض : يعني أكلوا منه نصف شهر طريا ، وبقية ذلك قديدا . وقال النووي : من قال : شهرا هو الأصل ، ومعه زيادة علم ، ومن روى دونه لم ينف الزيادة ، ولو نفاها قدم المثبت ، والمشهور عند الأصوليين أن مفهوم العدد لا حكم له فلا يلزم منه نفي الزيادة . وفي رواية مسلم : فأقمنا عليها شهرا ، ولقد رأيتنا نغترق من وقب عينه قلال الدهن ، ونقتطع منه الفدر كالثور ، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه ، وتزودنا من لحمه وشائق ، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، فقال : هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ، قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله . قوله : " بضلعين " ، ضبط بكسر الضاد ، وفتح اللام ، وقال في ( أدب الكاتب ) : ضلع ، وضلع . وقال الهروي : هما لغتان ، والضلع مؤنثة ، والوقب بفتح الواو ، وسكون القاف ، وبالباء الموحدة هو النقرة التي يكون فيها العين . قوله : " الفدر " ، بكسر الفاء ، وفتح الدال المهملة ، وفي آخره راء جمع فدرة ، وهي القطعة من اللحم ، والوشائق بالشين المعجمة جمع وشيقة ، وهي اللحم القديد ، وقيل : الوشيقة أن يؤخذ اللحم فيغلى قليلا ، ولا ينضج فيحمل في الأسفار ، وفي لفظ للبخاري : " نرصد عيرا لقريش " ، فأقمنا بالساحل نصف شهر فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط ، فسمي ذلك الجيش بجيش الخبط ، فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر ، فأكلنا منها نصف شهر ، وادهنا من ودكه حتى ثابت إلينا أجسامنا . وفي مسلم : قال أبو عبيدة : يعني بالعنبر ميتة ، ثم قال : لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي سبيل الله عز وجل ، وقد اضطررتم فكلوا .

( ذكر ما يستفاد منه ) : قال القرطبي : جمع أبي عبيدة الأزواد ، وقسمتها بالسوية ، إما أن يكون حكما حكم به لما شاهد من الضرورة ، وخوفه من تلف من لم يبق معه زاد فظهر له أنه وجب على من معه أن يواسي من ليس له زاد ، أو يكون عن رضا منهم ، وقد فعل مثل ذلك غير مرة سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولذلك قال بعض العلماء : هو سنة . وقال ابن بطال : استدل بعض العلماء بهذا الحديث بأنه لا يقطع سارق في مجاعة ; لأن المواساة واجبة للمحتاجين . وخصه أبو عمر بسرقة المأكل . وفيه أن للإمام أن يواسي بين الناس في الأقوات في الحضر بثمن وغيره ، كما فعل ذلك في السفر ، وفيه قوة إيمان هؤلاء البعث إذ لو ضعف والعياذ بالله لما خرجوا ، وهم ثلاثمائة ، وليس معهم سوى جراب تمر ، أو مزودي تمر ، كما في الحديث المذكور . قال عياض : ويحتمل أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم زودهم الجراب زائدا عما كان معهم من الزاد من أموالهم ، ويحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير هذا الجراب ، وكان معهم غيره من الزاد ، وقيل : يحتمل أن الجراب الذي زودهم الشارع كان على سبيل البركة ، فلذا كانوا يأخذونه تمرة تمرة . وفيه فضل أبي عبيدة ، ولهذا سماه الشارع أمين هذه الأمة . وفيه النظر في القوم ، والتدبير فيه ، وفضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ما كان فيهم من البؤس ، وقد استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . وفيه رضاهم بالقضاء ، وطاعتهم للأمير . وفيه جواز الشركة في الطعام وخلط الأزواد في السفر إذا كان ذلك أرفق بهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية