صفحة جزء
227 ( باب غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة )


أي هذا باب في بيان حكم غسل المني عند كونه رطبا ، وبيان حكم فركه عند كونه يابسا ، والفرك هو الدلك حتى يذهب أثره ، والمني بتشديد الياء ماء خاثر أبيض يتولد منه الولد ، وينكسر به الذكر ، ورائحته رائحة الطلع ، قوله : " وغسل ما يصيب " ، أي : وفي بيان غسل ما يصيب الثوب أو الجسد من المرأة عند مخالطته إياها ، وهذه الترجمة مشتملة على ثلاثة أحكام ، ولم يذكر في هذا الباب إلا حكم غسل المني ، وذكر الحكم الثالث في أواخر كتاب الغسل من حديث عثمان رضي الله تعالى عنه ، وقال بعضهم : لم يخرج البخاري حديث الفرك بل اكتفى بالإشارة إليه في الترجمة على عادته ، لأنه ورد من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا ، قلت : هذا اعتذار بارد ; لأن الطريقة أنه إذا ترجم الباب بشيء ينبغي أن يذكره ، وقوله : " بل اكتفى بالإشارة إليه " كلام واه ; لأن المقصود من الترجمة معرفة حديثها ، وإلا فمجرد ذكر الترجمة لا يفيد شيئا ، والحديث الذي في هذا الباب لا يدل على الفرك ، ولا على غسل ما يصيب من المرأة ، واعتذر الكرماني عنه بقوله : واكتفى بإيراد بعض الحديث ، وكثيرا يقول مثل ذلك ، أو كان في قصده أن يضيف إليه ما يتعلق به ، ولم يتفق له أو لم يجد رواته بشرطه ، قلت : كل هذا لا يجدي ، ولكن حبك للشيء يعمي ويصم ، ثم إن بعضهم ذكر في أول هذا الباب كلاما لا يذكره من له بصيرة وروية ، وفيه رد لما ذهب إليه الحنفية ، ومع هذا أخذ كلامه هذا من كلام الخطابي مع تغيير ، وهو أنه قال : وليس بين حديث الغسل وحديث الفرك تعارض ; لأن الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المني ، بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب ، وهذه طريقة الشافعي ، وأحمد ، وأصحاب الحديث ، وكذا الجمع ممكن على القول بنجاسته ، بأن يحمل الغسل على ما كان رطبا ، والفرك على ما كان يابسا ، وهذه طريقة ، والطريقة الأولى أرجح ; لأن فيها العمل بالخبر ، والقياس معا لأنه لو كان نجسا لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه كالدم وغيره ، وهم لا يكتفون فيما لا يعفى عنه من الدم بالفرك ، قلت : من هو الذي ادعى تعارضا بين الحديثين المذكورين حتى يحتاج إلى التوفيق ، ولا نسلم التعارض بينهما أصلا ، بل حديث الغسل يدل على نجاسة المني ، بدلالة غسله ، وكان هذا هو القياس أيضا في يابسه ، ولكن خص بحديث الفرك ، وقوله : بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب كلام واه ، وهو كلام من لا يدري مراتب الأمر الوارد من الشرع ، فأعلى مراتب الأمر الوجوب ، وأدناها الإباحة ، وهنا لا وجه للثاني لأنه عليه الصلاة والسلام لم يتركه على ثوبه أبدا ، وكذلك الصحابة من بعده ، ومواظبته صلى الله عليه وسلم على فعل شيء من غير ترك في الجملة يدل على الوجوب بلا نزاع فيه ، وأيضا الأصل في الكلام الكمال ، فإذا أطلق اللفظ ينصرف إلى الكامل ، اللهم إلا أن ينصرف ذلك بقرينة تقوم فتدل عليه حينئذ ، وهو فحوى كلام أهل الأصول أن الأمر المطلق أي المجرد عن القرائن يدل على الوجوب ، ثم قوله : " والطريقة الأولى أرجح " إلخ ، غير راجح فضلا أن يكون أرجح ، بل هو غير صحيح لأنه قال فيها : العمل بالخبر وليس كذلك ; لأن من يقول بطهارة المني يكون غير عامل بالخبر ; لأن الخبر يدل على نجاسته كما قلنا ، وكذلك قوله فيها العمل بالقياس غير صحيح ; لأن القياس وجوب غسله مطلقا ، ولكن خص بحديث الفرك لما ذكرنا ، فإن قلت : ما لا يجب غسل يابسه لا يجب غسل رطبه كالمخاط ، قلت : لا نسلم أن القياس صحيح ; لأن المخاط لا يتعلق بخروجه حدث ما أصلا ، والمني موجب لأكبر الحدثين وهو الجنابة ، فإن قلت : سقوط الغسل في يابسه يدل [ ص: 145 ] على الطهارة ، قلت : لا نسلم ذلك كما في موضع الاستنجاء ، وقوله : " كالدم وغيره " إلى آخره قياس فاسد ; لأنه لم يأت نص بجواز الفرك في الدم ونحوه ، وإنما جاء في يابس المني على خلاف القياس ، فيقتصر على مورد النص ، فإن قلت : قال الله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا ، سماه ماء ، وهو في الحقيقة ليس بماء ، فدل على أنه أراد به التشبيه في الحكم ، ومن حكم الماء أن يكون طاهرا ، قلت : إن تسميته ماء لا تدل على طهارته ، فإن الله تعالى سمى مني الدواب ماء بقوله : والله خلق كل دابة من ماء فلا يدل ذلك على طهارة ماء الحيوان ، فإن قلت : إنه أصل الأنبياء والأولياء فيجب أن يكون طاهرا ، قلت : هو أصل الأعداء أيضا كنمرود ، وفرعون ، وهامان ، وغيرهم ، على أنا نقول : العلقة أقرب إلى الإنسان من المني ، وهو أيضا أصل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ومع هذا لا يقال : إنها طاهرة ، وقال هذا القائل أيضا ، وترد الطريقة الثانية أيضا بما في رواية ابن خزيمة من طريق أخرى عن عائشة رضي الله تعالى عنها : كان يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ، ثم يصلي فيه ، وتحته من ثوبه يابسا ، ثم يصلي فيه ، فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالتين ، قلت : رد الطريقة الثانية بهذا غير صحيح ، وليس فيه دليل على طهارته ، وقد يجوز أن يكون كان عليه الصلاة والسلام يفعل بذلك ، فيطهر الثوب ، والحال أن المني في نفسه نجس كما قد روي فيما أصاب النعل من الأذى ، وهو ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب " ، ورواه الطحاوي أيضا ، ولفظه : " إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه أو نعله فطهورهما التراب " ، وقال الطحاوي : فكان ذلك التراب يجزئ من غسلهما ، وليس في ذلك دليل على طهارة الأذى في نفسه ، فكذلك ما روي في المني ، فإن قلت : في سنده محمد بن كثير الصنعاني ، وقد تكلموا فيه ، قلت : وثقه ابن حبان ، وروى حديثه في صحيحه ، وأخرجه الحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه ، وقال النووي في الخلاصة ، ورواه أبو داود بإسناد صحيح ، ولا يلتفت إلى قول ابن القطان ، وهذا حديث رواه أبو داود من طريق لا يظن بها الصحة ، ورواه أبو داود أيضا من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها بمعناه ، وروي أيضا نحوه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ، وأخرجه ابن حبان أيضا ، والمراد من الأذى النجاسة ، وقال هذا القائل أيضا : وأما مالك فلم يعرف الفرك ، والعمل عندهم على وجوب الغسل كسائر النجاسات ، قلت : لا يلزم من عدم معرفة الفرك أن يكون المني طاهرا عنده ، فإن عنده المني نجس كما هو عندنا ، وذكر في الجواهر للمالكية : المني نجس وأصله دم ، وهو يمر في ممر البول ، فاختلف في سبب التنجيس : هل هو رده إلى أصله أو مروره في مجرى البول ؟ وقال هذا القائل أيضا : وقال بعضهم : الثوب الذي اكتفت فيه بالفرك ثوب النوم ، والثوب الذي غسلته ثوب الصلاة ، وهو مردود أيضا بما في إحدى روايات مسلم من حديثها أيضا : " لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه ، وهذا التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة ، وأصرح منه رواية ابن خزيمة أنها كانت تحكه من ثوبه وهو يصلي .

قلت : أراد بقوله : " وقال بعضهم " الحافظ أبا جعفر الطحاوي ، فإنه قال في معاني الآثار : حدثنا ابن مرزوق ، قال : حدثنا بشر بن عمر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن همام بن الحارث أنه كان نازلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فاحتلم ، فرأته جارية لعائشة ، وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه أو يغسل ثوبه ، فأخبرت بذلك عائشة ، فقالت عائشة : لقد رأيتني وما أزيد على أن أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخرج الطحاوي هذا من أربعة عشر طريقا ، وأخرجه مسلم أيضا ثم قال : فذهب ذاهبون إلى أن المني طاهر ، وأنه لا يفسد الماء ، وإن وقع فيه ، وأن حكمه في ذلك حكم النخامة ، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار ، وأراد بهؤلاء الذاهبين الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود ، ثم قال : وخالفهم في ذلك آخرون ، فقالوا : بل هو نجس ، وأراد بالآخرين الأوزاعي ، والثوري ، وأبا حنيفة ، وأصحابه ، ومالكا ، والليث بن سعد ، والحسن بن حي ، وهو رواية عن أحمد ، ثم قال الطحاوي : وقالوا : لا حجة لكم في هذه الآثار لأنها إنما جاءت في ذكر ثياب ينام فيها ، ولم يأت في ثياب يصلي فيها ، وقد رأينا أن الثياب النجسة بالغائط والبول والدم لا بأس بالنوم فيها ، ولا تجوز الصلاة فيها ، فقد يجوز أن يكون المني كذلك ، وإنما يكون هذا الحديث حجة علينا لو كنا نقول : لا يصلح النوم في الثوب النجس ، فأما إذا كنا نبيح ذلك ونوافق ما رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ونقول من بعد : لا يصلح الصلاة في ذلك ، فلم نخالف شيئا مما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد جاءت عن عائشة فيما كانت تفعل بثوب رسول الله [ ص: 146 ] صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه إذا أصابه المني ، حدثنا يونس ، قال : حدثنا يحيى بن حسان ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، وبشر بن المفضل ، عن عمرو بن ميمون ، عن سليمان بن يسار ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : " كنت أغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء لفي ثوبه " ، وإسناده صحيح على شرط مسلم ، وأخرجه الجماعة أيضا على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، قال الطحاوي : فهكذا كانت تفعل عائشة بثوب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه ، تغسل المني منه ، وتفركه من ثوبه الذي كان لا يصلي فيه ، ثم إن هذا القائل استدل في رده على الطحاوي فيما ذكرناه بأن قال : وهذا التعقيب بالفاء ينفي إلخ ، وهذا استدلال فاسد ; لأن كون الفاء للتعقيب لا ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة ; لأن أهل العربية قالوا : إن التعقيب في كل شيء بحسبه ، ألا ترى أنه يقال : تزوج فلان فولد له إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل ، وهو مدة متطاولة ، فيجوز على هذا أن يكون معنى قول عائشة : " لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرادت به ثوب النوم ، ثم تغسله ، فيصلي فيه ، ويجوز أن تكون الفاء بمعنى ثم كما في قوله تعالى : ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما فالفاءات فيها بمعنى ثم لتراخي معطوفاتها ، فإذا ثبت جواز التراخي في المعطوف يجوز أن يتخلل بين المعطوف والمعطوف عليه مدة يجوز وقوع الغسل في تلك المدة ، ويؤيد ما ذكرنا ما رواه البزار في مسنده ، والطحاوي في معاني الآثار عن عائشة قالت : كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يصلي فيه ، قوله : وأصرح منه رواية ابن خزيمة إلخ لا يساعده أيضا فيما ادعاه ; لأن قوله : " وهو يصلي " جملة اسمية وقعت حالا منتظرة ; لأن عائشة رضي الله تعالى عنها ما كانت تحك المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم حال كونه في الصلاة ، فإذا كان كذلك يحتمل تخلل الغسل بين الفرك والصلاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية