صفحة جزء
231 96 - حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه، قال: قدم أناس من عكل، أو عرينة، فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها، وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا، قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر، فقطع أيديهم، وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون.


مطابقة الحديث للترجمة في بول الإبل فقط، والمذكور فيها أربعة أشياء. (بيان رجاله) وهم خمسة، كلهم قد ذكروا، فسليمان بن حرب في باب من كره أن يعود في الكفر، وحماد في باب المعاصي من أمر الجاهلية، وأيوب السختياني التابعي في باب حلاوة الإيمان، وأبو قلابة بكسر القاف عبد الله كذلك، وكلهم أعلام أئمة بصريون.

(بيان لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والباقي عنعنة في أربعة مواضع، وفيه رواية التابعي عن التابعي، وفيه أن الرواة بصريون.

(بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري في ثمانية مواضع هنا عن سليمان بن حرب، وفي المحاربين عن قتيبة، وفي الجهاد عن معلى بن أسد، وفي المحاربين عن موسى بن إسماعيل، وعن علي بن عبد الله، ومحمد بن الصلت، وفي التفسير عن علي بن عبد الله، وفي المغازي عن محمد بن عبد الرحيم، وفي الديات عن قتيبة، وأخرجه مسلم في الحدود عن هارون بن عبد الله بن سليمان بن حرب، وعن الحسن بن أحمد، وعن عبد الله بن عبد الرحمن، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن الصباح، وعن محمد بن المثنى، وعن أحمد بن عثمان النوفلي، وأخرجه أبو داود في الطهارة عن سليمان بن حرب، وعن موسى بن إسماعيل، وعن محمد بن الصباح، وعن عمرو بن عثمان، وعن محمد بن قدامة، وأخرجه النسائي في المحاربة عن أحمد بن سليمان، وعن عمرو بن عثمان، وعن إسحاق بن منصور، وعن إسماعيل بن مسعود، وأعاد حديث عمرو بن عثمان في التفسير، وفي رواية مسلم أدخل بين أيوب وأبي قلابة أبا رجاء مولى أبي قلابة، وذكر الدارقطني أن رواية حماد بن زيد إنما هي عن أيوب، عن أبي رجاء، عن أبي قلابة، وقال: سقوط أبي رجاء وثبوته صواب، ويشبه أن يكون أيوب سمع من [ ص: 152 ] أبي قلابة عن أنس قصة العرنيين مجردة، وسمع من أبي رجاء عن أبي قلابة حديثه مع عمر بن عبد العزيز في القسامة، وفي آخرها قصة العرنيين، فحفظ عنه حماد بن زيد القصتين، عن أبي رجاء، عن أبي قلابة، وحفظ الآخرون عن أبي قلابة، عن أنس قصة العرنيين حسب.

(بيان لغاته) قوله: "من عكل " بضم العين المهملة، وسكون الكاف، وفي آخره لام، وعكل خمس قبائل، وذلك أن عوف بن عبد مناف ولد قيسا، فولد قيس وائلا، وعوانة، فولد وائل عوفا، وثعلبة، فولد عوف بن وائل الحارث، وجشما، وسعدا، وعليا، وقيسا، وأمهم بنت ذي اللحية لأنه كان مطائلا لحيته، فحضنتهم أمة سوداء يقال لها: عكل، كذا قاله الكلبي، وغيره، ويقال: عكل امرأة حضنت ولد عوف بن إياس بن قيس بن عوف بن عبد مناة بن أد بن طابخة، وزعم السمعاني أنهم بطن من غنم، ورد ذلك عليه أبو الحسن الجزري بأن عكل امرأة من حمير يقال لها: بنت ذي اللحية، تزوجها عوف بن قيس بن وائل بن عوف بن عبد مناة بن أد، فولدت له سعدا، وجشما، وعليا، ثم هلكت الحميرية، فحضنت عكل ولدها، وهم من جملة الرباب، تحالفوا على بني تميم . قوله: "أو عرينة " بضم العين، وفتح الراء، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح النون، وعرينة بن نذير بن قيس بن عبقر بن أنمار بن الغوث بن طيئ بن أدد، وزعم اليشكري أن عرينة ابن عزيز بن نذير . قوله: " فاجتووا المدينة " أي: أصابهم الجوى بالجيم، وهو داء الجوف إذا تطاول، ويقال: الاجتواء كراهية المقام، يقال: اجتويت البلد، إذا كرهتها، وإن كانت موافقة لك في بدنك، واستوبلتها إذا لم توافقك في بدنك، وإن أحببتها. قوله: "بلقاح " بكسر اللام، وهي الإبل، الواحدة لقوح، وهي الحلوب، مثل: قلوص وقلاص، قال أبو عمرو : إذا نتجت فهي لقوح شهرين، أو ثلاثة، ثم هي لبون بعد ذلك. قوله: " فاستاقوا النعم " استاقوا من الاستياق، وهو السوق، والنعم بفتحتين واحد الأنعام، وهي المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. قوله: " في آثارهم " الآثار جمع إثر بكسر الهمزة، وسكون الثاء المثلثة، يقال: خرجت في إثره إذا خرجت وراءه. قوله: " وسمرت " بضم السين وتخفيف الميم، وتشديدها، ومعنى سمرت أعينهم: كحلت بمسامير محماة، وفي رواية: سملت باللام موضع الراء، يقال: سملت عينه بصيغة المجهول ثلاثيا، إذا فقئت بحديدة محماة، وقيل: هما بمعنى واحد. قوله: " في الحرة " بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء، وهي الأرض ذات الحجارة السود، ويجمع على حر وحرار وحرات وحرين وإحرين، وهو من الجموع النادرة، كثبين وقلين في جمع ثبة وقلة، والمراد من الحرة هذه حرة بظاهر مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، بها حجارة سود كثيرة، وكانت بها الوقعة المشهورة أيام يزيد بن معاوية . قوله: "يستسقون " من الاستسقاء، وهي طلب السقي، وطلب السقيا أيضا، وهو المطر.

(بيان إعرابه) قوله: " فاجتووا المدينة " الفاء فيه للعطف. قوله: " وأن يشربوا " عطف على لقاح، وكلمة "أن" مصدرية، والتقدير: فأمرهم بالشرب من ألبانها. قوله: " قتلوا " جواب لما. قوله: "فبعث " أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومفعوله محذوف، أي: الطلب، كما جاء في رواية الأوزاعي . قوله: " فقطع أيديهم " إسناد الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجاز، والدليل عليه ما جاء في رواية أخرى، فأمر بقطع أيديهم، والأيدي جمع يد، فإما أن يراد بها أقل الجمع الذي هو اثنان عند بعض العلماء؛ لأن لكل منهم يدين، وإما أن يراد التوزيع. قوله: " وألقوا " بصيغة المجهول من الإلقاء. قوله: "يستسقون" جملة وقعت حالا.

(بيان المعاني) قوله: " قدم أناس " أي: على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بلقاح أي فأمرهم أن يلحقوا بها. قوله: " فلما صحوا " فيه حذف، تقديره: فشربوا من ألبانها وأبوالها فلما صحوا. قوله: "فلما ارتفع النهار" فيه حذف أيضا، تقديره: فأدركوا في ذلك اليوم، فأخذوا، فلما ارتفع جيء بهم أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أسارى. قوله: " ولا يسقون " بضم الياء، وفتح القاف.

(بيان اختلاف ألفاظه) قوله: " عن أنس " زاد الأصيلي : ابن مالك . قوله: " قدم أناس " بالهمزة المضمومة عند الأكثرين، وعند الأصيلي، والكشميهني، والسرخسي "ناس" بلا همزة، وفي رواية البخاري في الديات من طريق أبي رجاء عن أبي قلابة : قدم أناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: " من عكل أو عرينة " الشك فيه من حماد، قاله بعضهم، وقال الكرماني : ولفظ "أو" ترديد من أنس رضي الله تعالى عنه، وقال الداودي : هو شك من الراوي، والذي قال: إنه من حماد، لا يدري : أي شيء وجه تعيينه بذلك، وللبخاري في المحاربين عن قتيبة، عن حماد : أن رهطا من عكل، أو قال: من عرينة، وله في الجهاد عن وهيب [ ص: 153 ] عن أيوب : أن رهطا من عكل، ولم يشك، وكذا في المحاربين، عن يحيى بن أبي كثير، وفي الديات، عن أبي رجاء، كلاهما عن أبي قلابة، وله في الزكاة عن شعبة، عن قتادة، عن أنس : أن ناسا من عرينة، ولم يشك أيضا، وكذا لمسلم من رواية أبي عوانة، معاوية بن قرة، عن أنس، وفي المغازي عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة : أن ناسا من عكل وعرينة، بالواو العاطفة، قيل: هو الصواب، والدليل عليه ما وقع في رواية أبي عوانة، والطبراني من حديث قتادة، عن أنس، قال: كانوا أربعة من عرينة، وثلاثة من عكل، قلت: هذا يخالف ما عند البخاري في الجهاد من طريق وهيب، عن أيوب، وفي الديات من طريق حجاج الصواف، عن أبي رجاء، كلاهما عن أبي قلابة، عن أنس : أن رهطا من عكل ثمانية، وجه ذلك أنه صرح بأن الثمانية من عكل، ولم يذكر عرينة، قلت: يمكن التوفيق بأن أحدا من الرواة طوى ذكر عرينة؛ لأنه روى عن أنس تارة من عكل، أو عرينة، وتارة من عرينة بدون ذكر عكل، وتارة من عكل وعرينة، كما بينا، فإن قلت في رواية أبي عوانة، والطبري : كانوا سبعة، وفي رواية البخاري : ثمانية، فهذا مخالف، قلت: لا مخالفة أصلا لاحتمال أن يكون الثامن من غير القبيلتين، وكان من أتباعهم. قوله: " فاجتووا المدينة "، وفي رواية: "استوخموها"، وللبخاري من رواية سعيد، عن قتادة في هذه القصة: فقالوا: يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، وله في الطب من رواية ثابت عن أنس : أن ناسا كان بهم سقم، قالوا: يا رسول الله، آونا، وأطعمنا، فلما صحوا، قالوا: إن المدينة وخمة، وفي رواية أبي عوانة من رواية غيلان عن أنس : كان بهم هزال شديد، وعنده من رواية ابن سعد عنه: مصفر ألوانهم، بعد أن صحت أجسادهم، فهو من حمى المدينة كما عند أحمد من رواية حميد عن أنس . قوله: "فأمرهم بلقاح "، وللبخاري في رواية همام عن قتادة : " فأمرهم أن يلحقوا براعيه "، وله عن قتيبة، عن حماد : فأمر لهم بلقاح، بزيادة اللام، ووجهه: أن تكون اللام زائدة، أو للاختصاص، وليست للتمليك، وعند أبي عوانة من رواية معاوية بن قرة التي أخرج مسلم إسنادها أنهم بدءوا بطلب الخروج إلى اللقاح: فقالوا: يا رسول الله، قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا، فخرجنا إلى الإبل، وللبخاري من رواية وهيب عن أيوب : أنهم قالوا: يا رسول الله، ابغنا رسلا، أي: اطلب لبنا، قال: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود، وفي رواية أبي رجاء : " هذه نعم لنا تخرج فاخرجوا فيها "، وله في المحاربين: عن موسى، عن وهيب بسنده فقال: " إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وله فيه من رواية الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير بسنده: " فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة "، وكذا في الزكاة من طريق شعبة، عن قتادة، فإن قلت: كيف التوفيق بين هذه الأحاديث؟ قلت: طريقه أنه صلى الله عليه وسلم كانت له إبل من نصيبه من المغنم، وكان يشرب لبنها، وكانت ترعى مع إبل الصدقة، فأخبره مرة عن إبله، ومرة عن إبل الصدقة لاجتماعهم في موضع واحد، وقال بعضهم: والجمع بينها أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعث النبي صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى طلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء لشرب ألبان الإبل، فأمرهم أن يخرجوا معه، فخرجوا معه إلى الإبل، ففعلوا ما فعلوا. قوله: " وأن يشربوا "، وفي رواية للبخاري عن أبي رجاء : " فاخرجوا فاشربوا من ألبانها وأبوالها " بصيغة الأمر، وفي رواية شعبة، عن قتادة : فرخص لهم أن يأتوا الصدقة فيشربوا. قوله: " فلما صحوا "، وفي رواية أبي رجاء : " فانطلقوا فشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحوا "، وفي رواية وهيب: "وسمنوا"، وفي رواية الإسماعيلي من رواية ثابت : "ورجعت إليهم ألوانهم". قوله: " فجاء الخبر "، وفي رواية وهيب عن أيوب : "الصريخ" بالخاء المعجمة، وهو على وزن فعيل بمعنى فاعل، أي: صرخ بالإعلام بما وقع منهم، وهذا الصارخ هو أحد الراعيين، كما ثبت في (صحيح أبي عوانة ) من رواية معاوية بن قرة، عن أنس، وقد أخرج مسلم إسناده، ولفظه: فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر وقد جزع، فقال: قد قتلوا صاحبي، وذهبوا بالإبل . قوله: " فذهب في آثارهم "، زاد في رواية الأوزاعي "الطلب"، وفي حديث سلمة بن الأكوع : " خيلا من المسلمين أميرهم كرز بن جابر الفهري "، وكذا ذكره ابن إسحاق، والأكثرون، وكرز بضم الكاف وسكون الراء، وفي آخره زاي معجمة، وللنسائي من رواية الأوزاعي : فبعث في طلبهم قافة، وهو جمع قائف، ولمسلم من رواية معاوية بن قرة، عن أنس : أنهم شباب من الأنصار قريب من عشرين رجلا، وبعث معهم قائفا، يقتفي آثارهم. قوله: " قطع أيديهم " كذا هو للأكثرين، وفي رواية الأصيلي والمستملي ، والسرخسي : "فأمر بقطع أيديهم"، وقال الداودي : يعني قطع يدي كل واحد ورجليه، وهذا يرده رواية الترمذي "من خلاف"، وكذا ذكر الإسماعيلي عن الفريابي، عن الأوزاعي بسنده، وللبخاري من رواية الأوزاعي أيضا.

قوله [ ص: 154 ] : " وسمرت " لم تختلف روايات البخاري كلها بالراء، ووقع لمسلم من رواية عبد العزيز : "وسملت" بالتخفيف واللام، وللبخاري من رواية وهيب، عن أيوب، ومن رواية الأوزاعي، عن يحيى، كلاهما عن أبي قلابة : ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها، ولا يخالف ذلك رواية المستملي؛ لأنه فقأ العين بأي شيء كان. قوله: " يستسقون فلا يسقون " زاد وهيب والأوزاعي : حتى ماتوا، وفي رواية سعيد : "يعضون الحجارة"، وفي رواية أبي رجاء : " ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا "، وفي الطب في رواية ثابت قال أنس: " فرأيت رجلا منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت ولأبي عوانة من هذا الوجه: " يعض الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة "، وزعم الواقدي أنهم صلبوا، ولم يثبت ذلك في الروايات الصحيحة.

(بيان ما فيه من تفسير المبهم وغير ذلك) قوله: " قدم أناس من عكل أو عرينة "، وفي رواية أبي عوانة، والطبري بإسنادهما إلى أنس قال: " كانوا أربعة من عرينة وثمانية من عكل "، وفي (طبقات) ابن سعد : "أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثرهم كرز بن جابر الفهري، ومعه عشرون فارسا، وكان العرنيون ثمانية، وكانت اللقاح ترعى بذي الحدر ناحية بقباء قريبا من نمير على ستة أميال من المدينة، فلما غدوا على اللقاح أدركهم يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه نفر فقاتلهم، فقطعوا يده، ورجله، وغرزوا الشوك في لسانه، وعينيه حتى مات، ففعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، وأنزل عليه: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ، الآية، فلم يسمل بعد ذلك عينا" انتهى.

وكان يسار نوبيا أصابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة محارب، فلما رآه يحسن الصلاة أعتقه، وقال ابن عقبة : كان أمير السرية سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحمل يسار ميتا، فدفن بقباء، وزعم الرشاطي أنهم من غير عرينة التي في قضاعة، وفي (مصنف عبد الرزاق ) كانوا من بني فزارة، وفي كتاب ابن الطلاع أنهم كانوا من بني سليم، وفيه نظر؛ لأن هاتين القبيلتين لا يجتمعان مع العرنيين، وفي (مسند الشاميين) للطبراني عن أنس كانوا سبعة، أربعة من عرينة، وثلاثة من عكل، فقيل: العرنيين؛ لأن أكثرهم كان من عرينة، وذكرنا عن الطبري نحوه، ثم إن قدومه كان فيما ذكره ابن إسحاق من المغازي في جمادى الآخرة سنة ست، وذكره البخاري بعد الحديبية، وكانت في ذي القعدة منها، وذكر الواقدي أنها كانت في شوال منها، وتبعه ابن سعد، وابن حبان، وغيرهما، وذكر الواقدي أن السرية كانت عشرين، ولم يقل من الأنصار، وسمى منهم جماعة من المهاجرين منهم بريدة بن الحصيب وسلمة بن الأكوع الأسلميان، وجندب ورافع ابنا مكيث الجهنيان، وأبو ذر وأبو رهم الغفاريان، وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيان، وقال بعضهم: الواقدي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف؟ قلت: ما للواقدي، وهو إمام وثقه جماعة منهم أحمد، والعجب من هذا القائل أنه يقع فيه، وهو أحد مشايخ إمامه، وقال الطبري بإسناده إلى جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال: قدم قوم من عرينة حفاة، فلما صحوا واشتدوا قتلوا رعاة اللقاح، ثم خرجوا باللقاح، فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أدركناهم بعد ما أشرفوا على بلادهم، فذكره إلى أن قال: فجعلوا يقولون: الماء الماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: النار النار، انتهى.

قلت: هذا مشكل؛ لأن قصة العرنيين كانت في شوال سنة ست كما ذكرنا، وإسلام جرير كان في السنة العاشرة، وهذا قول الأكثرين، إلا أن الطبراني وابن قانع قالا: أسلم قديما، فإن صح ما قالاه، فلا إشكال، وذكر ابن سعد أن عدد اللقاح كان خمس عشرة، وأنهم نحروا منها واحدة يقال لها: الحناء.

(بيان استنباط الأحكام) منها: أن مالكا استدل بهذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، وبه قال أحمد، ومحمد بن الحسن والإصطخري والروياني الشافعيان، وهو قول الشعبي، وعطاء، والنخعي، والزهري، وابن سيرين، والحكم، والثوري، وقال داود وابن علية : بول كل حيوان ونحوه وإن كان لا يؤكل لحمه طاهر غير بول الآدمي، وقال أبو حنيفة، والشافعي، وأبو يوسف، وأبو ثور، وآخرون كثيرون: الأبوال كلها نجسة إلا ما عفي عنه، وأجابوا عنه بأن ما في حديث العرنيين قد كان للضرورة، فليس فيه دليل على أنه يباح في غير حال الضرورة؛ لأن ثمة أشياء أبيحت في الضرورات، ولم تبح في غيرها كما في لبس الحرير، فإنه حرام على الرجال، وقد أبيح لبسه في الحرب، أو للحكة، أو لشدة البرد إذا لم يجد غيره، وله أمثال كثيرة في الشرع، والجواب المقنع في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام عرف بطريق الوحي شفاهم، والاستشفاء بالحرام جائز عند التيقن.

[ ص: 155 ] بحصول الشفاء كتناول الميتة في المخمصة، والخمر عند العطش، وإساغة اللقمة، وإنما لا يباح ما لا يستيقن حصول الشفاء به، وقال ابن حزم : صح يقينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بذلك على سبيل التداوي من السقم الذي كان أصابهم، وأنهم صحت أجسامهم بذلك، والتداوي منزلة ضرورة، وقد قال عز وجل: إلا ما اضطررتم إليه ، فما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المآكل والمشارب، وقال شمس الأئمة : حديث أنس رضي الله تعالى عنه قد رواه قتادة عنه أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل، ولم يذكر الأبوال، وإنما ذكره في رواية حميد الطويل عنه، والحديث حكاية حال، فإذا دار بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة سقط الاحتجاج به، ثم نقول: خصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ولا يوجد مثله في زماننا، وهو كما خص الزبير رضي الله تعالى عنه بلبس الحرير لحكة كانت به أو للقمل، فإنه كان كثير القمل، أو لأنهم كانوا كفارا في علم الله تعالى، ورسوله عليه السلام علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الردة، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر بالنجس، انتهى.

فإن قلت: هل لأبوال الإبل تأثير في الاستشفاء حتى أمرهم صلى الله عليه وسلم بذلك؟ قلت: قد كانت إبله صلى الله عليه وسلم ترعى الشيح والقيصوم، وأبوال الإبل التي ترعى ذلك وألبانها تدخل في علاج نوع من أنواع الاستشفاء، فإذا كان كذلك كان الأمر في هذا أنه عليه الصلاة والسلام عرف من طريق الوحي كون هذه للشفاء، وعرف أيضا مرضهم الذي تزيله هذه الأبوال، فأمرهم لذلك، ولا يوجد هذا في زماننا حتى إذا فرضنا أن أحدا عرف مرض شخص بقوة العلم، وعرف أنه لا يزيله إلا بتناول المحرم يباح له حينئذ أن يتناوله كما يباح شرب الخمر عند العطش الشديد، وتناول الميتة عند المخمصة، وأيضا التمسك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " أولى لأنه ظاهر في تناول جميع الأبوال فيجب اجتنابها لهذا الوعيد، والحديث رواه أبو هريرة ، وصححه ابن خزيمة ، وغيره مرفوعا.

ومن الأحكام نظر الإمام في مصالح قدوم القبائل والغرباء إليه، وأمره لهم بما يناسب حالهم، وإصلاح أبدانهم.

ومنها جواز التطبب وطب كل جسد بما اعتاده، ولهذا أفرد البخاري بابا لهذا الحديث، وترجم عليه: الدواء بأبوال الإبل وألبانها.

ومنها ثبوت أحكام المحاربة في الصحراء، فإنه صلى الله عليه وسلم بعث في طلبهم لما بلغه فعلهم بالرعاء، واختلف العلماء في ثبوت أحكامها في الأمصار، فنفاه أبو حنيفة، وأثبته مالك، والشافعي، ومنها شرعية المماثلة في القصاص، ومنها جواز عقوبة المحاربين، وهو موافق لقوله تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية، وهل كلمة "أو" فيها للتخيير أو للتنويع؟ قولان، ومنها قتل المرتد من غير استتابة، وفي كونها واجبة أو مستحبة خلاف مشهور، وقيل: هؤلاء حاربوا، والمرتد إذا حارب لا يستتاب؛ لأنه يجب قتله فلا معنى للاستتابة.

(الأسئلة والأجوبة) الأول: لو كانت أبوال الإبل محرمة الشرب لما جاز التداوي بها، لما روى أبو داود من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها: " إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها "، وأجيب بأنه محمول على حالة الاختيار، وأما حالة الاضطرار فلا يكون حراما كالميتة للمضطر كما ذكرنا، وقال ابن حزم : هذا حديث باطل؛ لأن في سنده سلمان الشيباني، وهو مجهول، قلت: أخرجه ابن حبان في (صحيحه)، وصححه، قال: حدثنا أحمد بن المثنى، قال: أخبرنا أبو خيثمة، قال: حدثنا جرير، عن الشيباني، عن حسان بن المخارق، قال: قالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: اشتكت ابنة لي، فنبذت لها في كوز، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يغلي، فقال: ما هذا؟ فقلت: اشتكت ابنتي، فنبذنا لها هذا، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام ، وقول ابن حزم : إن في سنده سلمان وهم، وإنما هو سليمان بزيادة الياء آخر الحروف، وهو أحد الثقات، أخرج عنه البخاري ومسلم في (صحيحيهما)، فإن قلت: يرد عليه قوله عليه الصلاة والسلام في الخمر: " إنها ليست بدواء وإنها داء " في جواب من سأل عن التداوي بها، قلت: هذا روي عن سويد بن طارق : " أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه، ثم سأله، فنهاه، فقال: يا نبي الله، إنها دواء، فقال: لا، ولكنها داء "، وأجاب ابن حزم عن ذلك فقال: لا حجة فيه؛ لأن في سنده سماك بن حرب، وهو يقبل التلقين، شهد عليه بذلك شعبة، وغيره، ولو صح لم يكن فيه حجة؛ لأن فيه أن الخمر ليس بدواء، ولا خلاف بيننا في أنها ليس بدواء، فلا يحل تناوله، وقد أجاب بعضهم بأن ذلك خاص بالخمر، ويلتحق بها غيرها من المسكرات، قلت: فيه نظر؛ لأن دعوى [ ص: 156 ] الخصوصية بلا دليل لا تسمع، والجواب القاطع أن هذا محمول على حالة الاختيار كما ذكرنا، فإن قلت: روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: " كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئا "، وروي عن جابر ، والبراء رضي الله تعالى عنهما مرفوعا: " ما أكل لحمه فلا بأس ببوله "، وحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الآتي ذكره في باب: إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته، والحديث الصحيح الذي ورد في غزوة تبوك : " فكان الرجل ينحر بعيره فيعصر فرثه، فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده "، قلت: أما حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فغير مسند، لأنه ليس فيه أنه عليه الصلاة والسلام علم بذلك، وأما حديث جابر، والبراء، فرواه الدارقطني ، وضعفه، وأما حديث ابن مسعود فلأنه كان بمكة قبل ورود الحكم بتحريم النجو، والدم، وقال ابن حزم : هو منسوخ بلا شك، وأما حديث غزوة تبوك فقد قيل: إنه كان للتداوي، وقال ابن خزيمة : لو كان الفرث إذا عصره نجسا لم يجز للمرء أن يجعله على كبده.

السؤال الثاني: ما وجه تعذيبهم بالنار، وهو تسمير أعينهم بمسامير محمية كما ذكرنا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعذيب بالنار؟ الجواب أنه كان قبل نزول الحدود، وآية المحاربة والنهي عن المثلة فهو منسوخ، وقيل: ليس بمنسوخ، وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل قصاصا؛ لأنهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك، وقد رواه مسلم في بعض طرقه، ولم يذكره البخاري، قال المهلب : إنما لم يذكره؛ لأنه ليس من شرطه، ويقال: فلذلك بوب البخاري في كتابه، وقال: باب إذا حرق المشرك هل يحرق؟ ووجهه أنه صلى الله عليه وسلم لما سمل أعينهم، وهو تحريق بالنار، استدل به أنه لما جاز تحريق أعينهم بالنار، ولو كانوا لم يحرقوا أعين الرعاء، أنه أولى بالجواز بتحريق المشرك إذا أحرق المسلم، وقال ابن المنير : وكان البخاري جمع بين حديث: " لا تعذبوا بعذاب الله "، وبين هذا، بحمل الأول على غير سبب، والثاني على مقابلة السيئة بمثلها من الجهة العامة، وإن لم يكن من نوعها الخاص، وإلا فما في هذا الحديث أن العرنيين فعلوا ذلك بالرعاة، وقيل: النهي عن المثلة نهي تنزيه لا نهي تحريم. السؤال الثالث: إن الإجماع قام على أن من وجب عليه القتل فاستسقى الماء أنه لا يمنع منه لئلا يجتمع عليه عذابان، الجواب أنه إنما لم يسقوا هناك معاقبة لجنايتهم، ولأنه صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: عطش الله من عطش آل محمد الليلة، أخرجه النسائي، فأجاب الله دعاءه، وكان ذلك بسبب أنهم منعوا في تلك الليلة إرسال ما جرت به العادة من اللبن الذي كان يراح به النبي صلى الله عليه وسلم من لقاحه في كل ليلة كما ذكره ابن سعد، ولأنهم ارتدوا، فلا حرمة لهم، وقال القاضي عياض: لم يقع نهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن سقيهم، وفيه نظر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، وسكوته كاف في ثبوت الحكم، وقال النووي : المحارب لا حرمة له في سقي الماء، ولا في غيره، ويدل عليه أن من ليس معه ماء إلا لطهارته ليس له أن يسقيه المرتد، ويتيمم، بل يستعمله، ولو مات المرتد عطشا، وقال الخطابي : إنما فعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه أراد بهم الموت بذلك، وفيه نظر لا يخفى، وقيل: إن الحكمة في تعطيشهم لكونهم كفروا بنعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشفاء من الجزع، والوخم، وفيه ضعف.

التالي السابق


الخدمات العلمية