صفحة جزء
وقوله : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم


هذه الآية الكريمة في سورة النور ، وقبل قوله : والذين يبتغون وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون وبعده : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إلى قوله : غفور رحيم ولما ذكر الله تعالى تزويج الحرائر والإماء والأحرار والعبيد ذكر حال من يعجز عن ذلك ثم قال : والذين يبتغون أي يطلبون من البغية وهو الطلب ، قال الزمخشري : " والذين يبتغون " مرفوع على الابتداء أو منصوب بفعل مضمر يفسره " فكاتبوهم " كقولك : زيدا فاضربه ، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط ، قوله : " الكتاب " منصوب ، وإنه مفعول " يبتغون " الكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة ، وهي مفاعلة بين اثنين ، وهما السيد وعبده ، فيقال : كاتب يكاتب مكاتبة وكتابا كما يقال : قاتل يقاتل مقاتلة وقتالا ، ومعنى " يبتغون الكتاب " أي المكاتبة ، قوله : " فكاتبوهم " خبر المبتدأ " والذين يبتغون " ، ثم إن هذا الأمر عند الجمهور على الندب ، وقال داود على الوجوب إذا سأله العبد أن يكاتبه ، وروي ذلك عن عكرمة أيضا ، وقال عطاء : يجب عليه إن علم أن له مالا ، وفي تفسير النسفي : وقيل : هو أمر إيجاب فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم منه خيرا إذا سأله ذلك بقيمته وأكثر وهو قول داود ، ومحمد بن جرير من الفقهاء ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، واحتج من نصر هذا القول بما روى قتادة أن سيرين سأل أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن يكاتبه فلكأ عليه فشكاه إلى عمر رضي الله تعالى عنه ، فعلاه بالدرة ، وأمره بالكتابة على ما يجيء ، واحتجوا أيضا بأن هذه الآية نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له : صبيح ، سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ، ووهب له منها عشرين دينارا ، فأداها وقتل يوم حنين في الحرب انتهى ، ( قلت ) : سيرين بكسر السين المهملة مولى أنس بن مالك وهو من سبي عين التمر الذين أسرهم خالد بن الوليد رضي الله عنه ، قوله : " فلكأ عليه " أي توقف وتباطأ ، وكذلك تلكأ قوله : " فعلاه بالدرة " وهي بكسر الدال وتشديد الراء وهي الآلة التي يضرب بها ، وقصة سيرين رواها ابن سعد فقال : أخبرنا محمد بن حميد العبدي ، عن معمر ، عن قتادة قال : سأل سيرين أبو محمد أنس بن مالك الكتابة فأبى أنس فرفع عمر بن الخطاب عليه الدرة ، وقال : كاتبه فكاتبه ، وقال : أخبرنا معمر بن عيسى ، حدثنا محمد بن عمرو سمعت محمد بن سيرين كاتب أنس أبي على أربعين ألف درهم ، وحويطب بن عبد العزى القرشي العامري أبو محمد ، وقيل : أبو الأصبع من المؤلفة قلوبهم ، شهد حنينا ثم حمد إسلامه ، وعمر مائة وعشرين سنة ، وله رواية ، وصبيح غلامه بفتح الصاد المهملة وكسر الباء الموحدة ، وقصته رواها سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق ، عن خالد عبد الله بن صبيح ، عن أبيه قال : كنت مملوكا لحويطب فسألته فنزلت والذين يبتغون الآية ، [ ص: 118 ] وحجة الجمهور في هذا أن الإجماع منعقد على أن السيد لا يجبر على بيع عبده ، وإن ضوعف له في الثمن ، وإذا كان كذلك فالأحرى والأولى أن لا يخرج عن ملكه بغير عوض لا يقال : إنها طريق العتق ، والشارع متشوف إليه ، فحالف البيع لأنا نقول : التشوف إنما هو في محل مخصوص ، وأيضا الكسب له فكأنه قال : أعتقني مجانا ، وأما الآثار التي دلت على الوجوب فسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى .

قوله : " إن علمتم فيهم خيرا اختلفوا في المراد بالخير فقال الثوري : هو القوة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتبوا عليه ، وعن الليث مثله ، وكره ابن عمر كتابة من لا حرفة له ، وكذا روي عن سلمان ، وقال الحسن البصري : الصدق والأمانة والوفاء ، وقال بعضهم : الصلاح وإقامة الصلاة ، وقال مجاهد : المال ، وكذا نقل عن عطاء ، وأبي رزين ، وكذلك روي عن ابن عباس ، وفي المصنف : وكتب عمر إلى عمير بن سعد انه من قبلك من المسلمين أن يكاتبوا أرقاءهم على مسألة الناس ، وقال ابن حزم قالت طائفة : المال ، فنظرنا في ذلك فوجدنا موضوع كلام العرب الذي نزل به القرآن أنه لو أراد عز وجل المال لقال : إن علمتم لهم خيرا ، أو عندهم ، أو معهم خيرا ، لأن بهذه الحروف يضاف المال إلى من هو له في لغة العرب ، ولا يقال أصلا في فلان مال فعلمنا أنه تعالى لم يرد به المال ، فصح أنه الدين ، وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه سئل أأكاتب وليس لي مال ؟ فقال : نعم ، فصح عنده أن الخير عنده لم يكن المال ، وقال الطحاوي : من قال : إنه المال ، لا يصح عندنا ، لأن العبد نفسه مال لمولاه ، فكيف يكون له مال ؟ والمعنى عندنا : إن علمتم فيهم الدين والصدق وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما عليهم من الكتابة والصدق في المعاملة فكاتبوهم ، قوله : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم أي أعطوهم من المال الذي أعطاكم الله تعالى اختلف في المخاطبين من هم ؟ فقيل : الأغنياء الذين يجب عليهم الزكاة ، أمروا أن يعطوا المكاتبين ، وقيل : السادة أمروا بإعانتهم ، وهو أن يحط عنهم من مال الكتابة شيئا ، واختلف في الإيتاء هل هو واجب ؟ فذهب الشافعي إلى أنه واجب ، وقال أبو حنيفة ومالك : ليس بواجب ، والأمر فيه على الندب والحض أن يضع الرجل عن عبده من مال كتابته شيئا مسمى به يستعين على الخلاص ، واختلفوا فيه أيضا هل هو مقدار معين ؟ فقال الشافعي : هو غير مقدر ، ولكنه واجب كما ذكرنا ، وهو المنقول عن سعيد بن جبير ، وقال أحمد : هو ربع المال ، وهو المروي أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، وعن ابن مسعود : الثلث ، وقال الزمخشري : " وآتوهم " أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين ، وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال كقوله : " وفي الرقاب " عند أبي حنيفة وأصحابه ، وقيل : معنى " وآتوهم " أسلفوهم ، وقيل : أنفقوا عليهم بعد أن يؤدوا أو يعتقوا ، وهذا كله مستحب ، وقال ابن بطال : قول الجمهور أولى لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأمر موالي بريرة بإعطائها شيئا ، وقد كوتبت وبيعت بعد الكتابة ، ولو كان الإيتاء واجبا لكان مقدرا كسائر الواجبات ، حتى إذا امتنع السيد من جعله ادعاه عند الحاكم ، فأما دعوى المجهول فلا يحكم بها ، ولو كان الإيتاء واجبا وهو غير مقدر لكان الواجب للمولى على المكاتب هو الباقي بعد الحط ، فأدى ذلك إلى جهل مبلغ الكتابة ، وذلك لا يجوز .

التالي السابق


الخدمات العلمية