صفحة جزء
255 باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل


أي هذا باب في بيان حكم الذي بدأ بالحلاب إلى آخره استشكل القوم في مطابقة هذه الترجمة لحديث الباب فافترقوا ثلاث فرق : الفرقة الأولى قد نسبوا البخاري إلى الوهم والغلط ، منهم الإسماعيلي فإنه قال في ( مستخرجه ) : يرحم الله أبا عبد الله يعني البخاري - من ذا الذي يسلم من الغلط ، سبق إلى قلبه أن الحلاب طيب ، وأي معنى للطيب عند الاغتسال قبل الغسل ، وإنما الحلاب إناء يحلب فيه ، ويسمى محلبا أيضا ، وهذا الحديث له طريق يتأمل المتأمل بيان ذلك حيث جاء فيه كان يغتسل من حلاب ، رواه هكذا أيضا ابن خزيمة وابن حبان ، وروى أبو عوانة في ( صحيحه ) عن يزيد بن سنان ، عن أبي عاصم بلفظ : كان يغتسل من حلاب فيأخذ غرفة بكفيه فيجعلها على شقه الأيمن ، ثم الأيسر ، كذا الحديث بقوله : " يغتسل " ، وقوله : " غرفة " أيضا مما يدل على أن الحلاب إناء الماء ، وفي رواية لابن حبان والبيهقي : ثم صب على شق رأسه الأيمن . والطيب لا يعبر عنه بالصب ، وروى الإسماعيلي من طريق بندار عن أبي عاصم بلفظ : كان إذا أراد أن يغتسل من الجنابة دعا بشيء دون الحلاب ، فأخذ بكفه فبدأ بالشق الأيمن ، ثم الأيسر ، ثم أخذ بكفيه ماء فأفرغ على رأسه ، فلولا قوله : ماء ، لأمكن حمله على الطيب قبل الغسل ، ورواية أبي عوانة أصرح من هذه ، ومن هؤلاء الفرقة ابن الجوزي حيث قال : غلط جماعة في تفسير الحلاب ، منهم البخاري ، فإنه ظن أن الحلاب شيء من الطيب . الفرقة الثانية منهم الأزهري ، قالوا : هذا تصحيف ، وإنما هو جلاب بضم الجيم وتشديد اللام ، وهو ماء الورد فارسي معرب . الفرقة الثالثة منهم المحب الطبري ، قالوا : لم يرد البخاري بقوله : أو الطيب ما له عرف طيب ، وإنما أراد تطييب البدن وإزالة ما فيه من وسخ ودرن ونجاسة إن كانت ، وإنما أراد بالحلاب الإناء الذي يغتسل منه ، يبدأ به فيوضع فيه ماء الغسل ، قال المحب : وكلمة : " أو " في قوله : " أو الطيب " بمعنى الواو ، كذا ثبت في بعض الروايات ، أقول وبالله التوفيق : لا يظن أحد أن البخاري أراد بالحلاب ضربا من الطيب ; لأن قوله : أو الطيب يرفع ذلك ولم يرد إلا إناء يوضع فيه ماء . قال الخطابي : الحلاب إناء يسع قدر حلبة ناقة ، والدليل على أن الحلاب ظرف قول الشاعر :

صاح هل رأيت وسمعت براع رد في الضرع ما بقي في الحلاب

وقال القاضي عياض : الحلاب والمحلب بكسر الميم وعاء يملؤه قدر حلب الناقة ، ومن الدليل على أن المراد من الحلاب غير الطيب عطف الطيب عليه بكلمة " أو " ، وجعله قسيما له ، وبهذا يندفع ما قاله الإسماعيلي : إن البخاري سبق إلى قلبه أن الحلاب طيب ، وكيف يسبق إلى قلبه ذلك ، وقد عطف الطيب عليه والمعطوف غير المعطوف عليه ، وكذلك دعوى الأزهري التصحيف غير صحيحة ; لأن المعروف من الرواية بالمهملة والتخفيف ، وكذلك أنكر عليه أبو عبيدة الهروي ، وقال القرطبي : الحلاب بكسر المهملة لا يصح غيرها ، وقد وهم من ظنه من الطيب ، وكذا من قاله بضم الجيم على أن قوله بتشديد اللام غير صحيح ; لأن في اللغة الفارسية ماء الورد هو جلاب بضم الجيم وتخفيف اللام أصله كلاب ، فكل بضم الكاف الصماء وسكون اللام اسم للورد عندهم ، وآب بمد الهمزة وسكون الباء الموحدة اسم الماء ، والقاعدة عندهم أن المضاف إليه يتقدم على المضاف ، وكذلك الصفة تقدم على الموصوف ، وإنما الجلاب بتشديد اللام فاسم للمشروب ( فإن قلت ) : إذا ثبت أن الحلاب اسم للإناء يكون المذكور في الترجمة شيئين : أحدهما الإناء ، والآخر الطيب ، وليس في الباب ذكر الطيب فلا يطابق الحديث الذي فيه إلا بعض الترجمة . ( قلت ) : قد عقد الباب لأحد الأمرين حيث جاء بـ " أو " الفاصلة دون الواو الواصلة ، فوفى بذكر أحدهما على أنه كثيرا ما يذكر في الترجمة شيئا ، ولا يذكر في الباب حديثا متعلقا به لأمر يقتضي ذلك ( فإن قلت ) : ما المناسبة بين ظرف الماء والطيب ؟ قلت : من حيث إن كلا [ ص: 205 ] منهما يقع في مبتدإ الغسل ويحتمل أيضا أنه أراد بالحلاب الإناء الذي فيه الطيب ، يعني به تارة يطلب ظرف الطيب ، وتارة يطلب نفس الطيب ، كذا قاله الكرماني ، ولكن يرده ما رواه الإسماعيلي من طريق مكي بن إبراهيم عن حنظلة في هذا الحديث كان يغتسل بقدح بدل قوله : بحلاب ، وزاد فيه : كان يغسل يديه ، ثم يغسل وجهه ، ثم يقول بيده ثلاث غرف .

التالي السابق


الخدمات العلمية