صفحة جزء
2628 ( باب قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين


أي : هذا باب في بيان سبب نزول قول الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا " إلى قوله : " الفاسقين " ، وإنما قلنا كذلك لأن في حديث الباب صرح بقوله : " وفيهم نزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " " على ما يجيء بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى .

وسيقت هذه الآيات الثلاث في رواية الأصيلي وكريمة ، وفي رواية أبي ذر سيق من أول " يا أيها الذين آمنوا " إلى قوله : " آخران من غيركم " ثم قال : إلى قوله : " والله لا يهدي القوم الفاسقين "

قوله : " شهادة بينكم " كلام إضافي مبتدأ ، وخبره قوله : " اثنان " تقديره : شهادة بينكم شهادة اثنين ، وقال الزمخشري : أو على أن قوله : " اثنان " فاعل " شهادة بينكم " على معنى : فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان . وقرأ الشعبي : ( شهادة بينكم ) ، وقرأ الحسن ( شهادة ) بالنصب والتنوين على : ليقم شهادة اثنان . قوله : " ذوا عدل منكم " وصف الاثنين بأن يكونا عدلين . قوله : " إذا حضر " ظرف للشهادة . قوله : " حين الوصية " بدل منه ، قال الزمخشري : وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية ، وأنها من الأمور اللازمة التي ما ينبغي أن [ ص: 74 ] يتهاون بها المسلم ويذهل عنها ، وحضور الموت وظهور أمارات بلوغ الأجل : مشارفته . قوله : " منكم " أي من أقاربكم ، قاله الزمخشري ، وفي تفسير ابن كثير : " منكم " أي : من المسلمين . قاله الجمهور . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : " ذوا عدل " من المسلمين ، رواه ابن أبي حاتم ، قال : وروى عن عبيدة وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك ، وقال ابن جرير : وقال آخرون عنى بذلك " ذوا عدل منكم " من حي الموصي . وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدة غيرهما .

قوله : " أو آخران من غيركم " ، قال الزمخشري : من الأجانب ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، أخبرنا سعيد بن عون ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس في قوله : " أو آخران من غيركم " ، قال : من غير المسلمين ، يعني أهل الكتاب . ثم قال : وروي عن عبيدة وشريح وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين ويحيى بن يعمر وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم النخعي وقتادة وأبي مجلز ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك .

قوله : " إن أنتم ضربتم في الأرض " ، قال الزمخشري : يعني إن وقع الموت في السفر ، ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم ، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية . وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت ، وبما هو أصلح ، وهم له أنصح ، وفي تفسير ابن كثير : قوله : " إن أنتم ضربتم في الأرض " أي : سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت ، وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين أن يكون ذلك في سفر ، وأن يكون في وصية ، كما صرح بذلك القاضي شريح ، وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو معاوية ، ووكيع ، قال : حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن شريح ، قال : لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في سفر ، ولا تجوز في سفر إلا في وصية . وقد روي مثله عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، وهذا من أفراده وخالفه الثلاثة فقالوا : لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين . وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، قال : مضت السنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا في سفر ، إنما هي في المسلمين . وذكر الطحاوي حديث أبي داود أن رجلا من المسلمين توفي بدقوقا ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب نصرانيين ، فقدما الكوفة على أبي موسى فقال أبو موسى : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ، فأمضى شهادتهما ، قال الطحاوي : فهذا يدل على أن الآية محكمة عند أبي موسى وابن عباس ، ولا أعلم لهما مخالفا من الصحابة في ذلك ، وعلى ذلك أكثر التابعين ، وذكر النحاس أن القائلين بأن الآية الكريمة منسوخة وأنه لا تجوز شهادة كافر بحال ، كما لا تجوز شهادة فاسق ، زيد بن أسلم والشافعي ومالك والنعمان غير أنه أجاز شهادة الكفار بعضهم على بعض ، وأما الزهري والحسن فزعما أن الآية كلها في المسلمين ، وذهب غيرهما إلى أن الشهادة هنا بمعنى الحضور . وقال آخرون : الشهادة بمعنى اليمين ، وتكلموا في معنى استحلاف الشاهدين هنا ، فمنهم من قال : لأنهما ادعيا وصية من الموت ، وهذا قول يحيى بن يعمر ، قال النحاس : وهذا لا يعرف في حكم الإسلام ، أن يدعي رجل وصية فيحلف ويأخذها . ومنهم من قال : يحلفان إذا شهدا أن الميت أوصى بما لا يجوز ، أو بماله كله ، وهذا أيضا لا يعرف في الأحكام ، ومنهم من قال : يحلفان إذا اتهما ، ثم ينقل اليمين عنهما إذا اطلع على الخيانة . وزعم ابن زيد أن ذلك كان في أول الإسلام ، كان الناس يتوارثون بالوصية ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض ، وقال الخطابي : ذهبت عائشة رضي الله تعالى عنها إلى أن هذه الآية ثابتة غير منسوخة ، وروي ذلك عن الحسن والنخعي ، وهو قول الأوزاعي ، قال : وكان تميم وعدي وصيين لا شاهدين ، والشهود لا يحلفون ، وإنما عبر بالشهادة عن الأمانة التي تحملاها في قبول الوصية .

قوله : " من بعد الصلاة " اختلف فيها ، فقال النخعي والشعبي وابن جبير وقتادة : من بعد صلاة العصر . قال النحاس : ويروى عن ابن عباس : من بعد صلاة أهل دينهما . قال : فدعا النبي صلى الله عليه وسلم تميما وعديا بعد العصر فاستحلفهما عند المنبر . وقال الزهري : يعني صلاة المسلمين ، والمقصود أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع فيها بحضرتهم . " فيقسمان بالله " أي : فيحلفان بالله . " إن ارتبتم " ، أي : ظهرت لكم ريبة منهما ، أنهما خانا أو غالا فيحلفان حينئذ بالله . " لا نشتري به " أي : بالقسم ثمنا ، أي : لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة . قوله : " ولو كان ذا قربى " أي : ولو كان المشهود عليه قريبا إلينا لا نحابيه ولا نكتم شهادة [ ص: 75 ] الله أضافها إلى الله تشريفا لها وتعظيما لأمرها وقرأ بعضهم ( ولا نكتم بشهادة الله ) مجرورا على القسم ، رواها ابن جرير عن الشعبي . قوله : " إنا إذا لمن الآثمين " أي : إن فعلنا شيئا من ذلك من تحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية . قوله : " فإن عثر " أي : فإن اطلع وظهر واشتهر وتحقق من الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلا شيئا من المال الموصى به إليهما ، أو ظهر عليهما بذلك " فآخران يقومان مقامهما " أي : فشاهدان آخران من الذين استحق عليهم الإثم ، ومعناه : من الذين جني عليهم ، وهم أهل الميت وعشيرته . قوله : " الأوليان " الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما ، وارتفاعهما على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هما الأوليان ، كأنه قيل : ومن هما ؟ فقيل : هما الأوليان . وقيل : هو بدل من الضمير في يقومان ، أو من آخران . قال الزمخشري : ويجوز أن يرتفعا باستحق ، أو من الذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة المال . وقرئ ( الأولين ) على أنه وصف للذين استحق عليهم مجرورا ، ومنصوب على المدح ، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة ، لكونهم أحق بها وقرئ ( الأوليين ) بالتثنية ، وانتصابه على المدح ، وقرأ الحسن ( الأولان ) ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعي . وأبو حنيفة وأصحابه لا يرون بذلك فوجهه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما خانا فحلفا فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما فأنكر الورثة وكانت اليمين على الورثة لإنكارهم الشراء .

قوله : " وما اعتدينا " أي : فيما قلنا فيهما من الخيانة " إنا إذا لمن الظالمين " أي : إن كنا قد كذبنا عليهما فنحن حينئذ من الظالمين . قوله : " ذلك " أي : الذي تقدم من بيان الحكم " أدنى " أي : أقرب أن يأتي الشهداء على نحو تلك الحادثة ، " بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان " ، أي : تكرر أيمان بشهود آخرين بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم " واتقوا الله " أن تحلفوا كاذبين ، أو تخونوا أمانة " واسمعوا " الموعظة . قوله : " والله لا يهدي القوم الفاسقين " وعيد لهم بحرمان الهداية .

التالي السابق


الخدمات العلمية