صفحة جزء
26 وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون عن قول: لا إله إلا الله.


الكلام فيه على وجوه:

الأول: إن العدة بكسر العين، وتشديد الدال هي الجماعة. قلت: أو كثرت، وفي (العباب) تقول أنفدت عدة كتب، أي: جماعة كتب، ويقال: فلان إنما يأتي أهله العدة، أي: يأتي أهله في الشهر، والشهرين، وعدة المرأة أيام إقرائها، وأما [ ص: 185 ] العد بدون الهاء فهو الماء الذي لا ينقطع كماء العين، وماء البئر، والعد أيضا الكثرة.

قوله: " عدة " مرفوع بقال، ويجوز فيه: قال، وقالت: لأن التأنيث في عدة غير حقيقي، وكلمة " من " في قوله: " من أهل العلم " للبيان.

قوله: " في قوله " يتعلق بقال، والخطاب في " فوربك " للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والواو فيه للقسم، وقوله: " لنسألنهم " جواب القسم مؤكدا باللام.

قوله: " عن قول " يتعلق بقوله: " لنسألنهم "، أي: لنسألنهم عن كلمة الشهادة التي هي عنوان الإيمان، وعن سائر أعمالهم التي صدرت منهم.

الثاني: أن الجماعة الذين ذهبوا إلى ما ذكره نحو أنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، ومجاهد بن جبر رضي الله عنهم. وأخرج الترمذي مرفوعا عن أنس : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون قال: " عن لا إله إلا الله "، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف لا يحتج به، والذي روى عن ابن عمر في (التفسير) للطبري، وفي كتاب (الدعاء) للطبراني، والذي روى عن مجاهد في تفسير عبد الرزاق وغيره. وقال النووي : في الآية وجه آخر، وهو المختار، والمعنى لنسألنهم عن أعمالهم كلها التي يتعلق بها التكليف، وقول من خص بلفظ التوحيد دعوى تخصيص بلا دليل فلا تقبل، ثم روى حديث الترمذي وضعفه. وقال بعضهم: لتخصيصهم وجه من جهة التعميم في قوله: " أجمعين " فيدخل فيه المسلم والكافر، فإن الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف بخلاف باقي الأعمال، ففيها الخلاف، فمن قال: إنهم مخاطبون، يقول: إنهم مسؤولون عن الأعمال كلها، ومن قال: إنهم غير مخاطبين يقول: إنما يسألون عن التوحيد فقط، فالسؤال عن التوحيد متفق عليه، فحمل الآية عليه أولى بخلاف الحمل على جميع الأعمال لما فيها من الاختلاف. قلت: هذا القائل قصد بكلامه الرد على النووي، ولكنه تاه في كلامه، فإن النووي لم يقل بنفي التخصيص لعدم التعميم في الكلام، وإنما قال: دعوى التخصيص بلا دليل خارجي لا تقبل، والأمر كذلك فإن الكلام عام في السؤال عن التوحيد وغيره، ثم دعوى التخصيص بالتوحيد يحتاج إلى دليل من خارج، فإن استدلوا بالحديث المذكور فقد أجاب عنه بأنه ضعيف. وهذا القائل فهم أيضا أن النزاع في أن التخصيص والتعميم هنا إنما هو من جهة التعميم في قوله: " أجمعين "، وليس كذلك، وإنما هو في قوله: " عما كانوا يعملون " فإن العمل هنا أعم من أن يكون توحيدا أو غيره، وتخصيصه بالتوحيد تحكم قوله: فيدخل فيه المسلم، والكافر غير مسلم; لأن الضمير في لنسألنهم يرجع إلى المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين، وهم ناس مخصوصون، ولفظة أجمعين وقعت توكيدا للضمير المذكور في النسبة مع الشمول في أفراده المخصوصين، ثم تفريع هذا القائل بقوله: فإن الكافر... إلخ ليس له دخل في صورة النزاع على ما لا يخفى.

الثالث: ما قيل: إن هذه الآية أثبتت السؤال على سبيل التوكيد القسمي، وقال في آية أخرى: " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان. " فنفت السؤال، وأجيب بأن في القيامة مواقف مختلفة، وأزمنة متطاولة، ففي موقف أو زمان يسألون، وفي آخر لا يسألون سؤال استخبار بل سؤال توبيخ، وقال الزمخشري في هذه الآية لنسألهم سؤال تقريع، ويقال.

قوله: " لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان " نظير قوله: " ولا تزر وازرة وزر أخرى. "

وقال لمثل هذا فليعمل العاملون أي قال الله تعالى: لمثل هذا والإشارة بهذا إلى قوله: " إن هذا لهو الفوز العظيم وذكر هذه الآية لا يكون مطابقا للترجمة إلا إذا كان معنى قوله: " فليعمل العاملون " فليؤمن المؤمنون، ولكن هذا دعوى تخصيص بلا دليل فلا تقبل، وإلى هذه الآية من قوله تعالى: فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قصة المؤمن وقرينه، وذلك أنه كان يتصدق بماله لوجه الله عز وجل، فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه، فقال: وأين مالك؟ قال: تصدقت به ليعوضني الله خيرا منه، فقال: أئنك لمن المصدقين بيوم الدين أو من المتصدقين لطلب الثواب، والله لا أعطيك شيئا، وقوله تعالى " أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون حكاية عن قول القرين، ومعنى لمدينون: لمجزيون من الدين، وهو الجزاء. وقوله: قال هل أنتم مطلعون يعني: قال ذلك القائل: هل أنتم مطلعون إلى النار، ويقال: القائل هو الله تعالى، ويقال: بعض الملائكة يقول لأهل الجنة: هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار. وقوله: فاطلع أي: فإن اطلع.

قوله: " في سواء الجحيم " ، أي: في وسطها.

قوله: " تالله إن كدت إن مخففة من الثقيلة، وهي تدخل على كاد كما تدخل على كان، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والإرداء الإهلاك، وأراد بالنعمة العصمة، والتوفيق، والبراءة من قرين السوء، وإنعام الله بالثواب، وكونه من أهل الجنة.

قوله: " من المحضرين أي: من الذين أحضروا العذاب، وقوله: إن هذا لهو الفوز العظيم، أي: إن هذا الأمر الذي نحن فيه، ويقال: هذا من قول الله تعالى [ ص: 186 ] تقريرا لقولهم وتصديقا له، وقوله: لمثل هذا فليعمل العاملون. مرتبط بقوله: إن هذا، أي: لأجل مثل هذا الفوز العظيم، وهو دخول الجنة، والنجاة من النار فليعمل العاملون في الدنيا، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون قائل ذلك المؤمن الذي رأى قرينه، ويحتمل أن يكون كلامه انقضى عند قوله: الفوز العظيم والذي بعد ابتداء من قول الله عز وجل لا حكاية عن قول المؤمن، ولعل هذا هو السر في إبهام المصنف القائل. قلت: المفسرون ذكروا في قائل هذا ثلاثة أقوال:

الأول: أن القائل هو ذلك المؤمن. والثاني: أنه هو الله عز وجل. والثالث: أنه هو بعض الملائكة، ولا يحتاج أن يقال في ذلك بالاحتمال الذي ذكره هذا الشارح; لأن كلامه يوهم بأن هذا تصرف من عنده فلا يصح ذلك، ثم قوله: " ولعل هذا هو السر في إبهام المصنف، أراد به البخاري كلام غير صحيح أيضا من وجهين أحدهما أن البخاري لم يقصد ما ذكره هذا الشارح قط; لأن مراد من ذكر هذه الآية بيان إطلاق العمل على الإيمان ليس إلا، والآخر ذكر فعل، وإبهام فاعله من غير مرجع له، ومن غير قرينة على تعيينه غير صحيح.

التالي السابق


الخدمات العلمية