صفحة جزء
2659 29 - حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، قال : حدثني مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين غداة على رعل وذكوان ، وعصية عصت الله ورسوله ، قال أنس : أنزل في الذين قتلوا ببئر معونة قرآن قرأناه ثم نسخ بعد ( بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه )


مطابقته للترجمة من حيث إنها هي قوله تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا إلى آخره ، نزلت في حق أصحاب بئر معونة كما ذكره ابن جرير أيضا ، وقد مر عن قريب ، وذكره البخاري هنا مختصرا ، وسيأتي في المغازي عن يحيى بن بكير بأتم منه ، وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى .

قوله : " معونة " بفتح الميم وضم العين المهملة وسكون الواو وبالنون ، [ ص: 112 ] وهي موضع من جهة نجد بين أرض بني عامر وحرة بني سليم ، وكانت غزوتها سنة أربع . قوله : " على رعل " بدل من " الذين قتلوا " ، بإعادة العامل . قوله : " ثم نسخ " معناه : سقط ذكره لتقادم عهده إلا أن يذكر بطريق الرواية ، وليس معناه النسخ الذين بدل مكانه خلافه لأن الخبر لا يدخله نسخ ، والقرآن ربما نسخ لفظه وبقي حكمه مثل : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ) ، ومعنى النسخ هنا أنه أسقط لفظه من التلاوة ، قال السهيلي : هذا المذكور ، أعني : ما نزل نسخ ، ليس عليه رونق الإعجاز . قوله : " رضينا عنه " ، وقد تقدم بلفظ " أرضانا " والحال لا يخلو من أحدهما ، وأجيب بأن القرآن المنسوخ يجوز نقله بالمعنى ، وقال المهلب : في الحديث دلالة على أن من قتل غدرا فهو شهيد ، لأن أصحاب بئر معونة قتلوا غدرا .

واختلف الناس في كيفية حياة الشهيد ، فقال ابن بطال : إن الأرواح ترزق ، وكذا جاء الخبر في صحيح ابن حبان " إنما نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة " ، قال : أهل اللغة يعني تأكل منها . قال ابن قرقول : بضم اللام ، أي : تتناوله ، وقيل : تشمه . وهذا الحديث عام ، وقد خصه القرآن العزيز باشتراط الشهادة . وقال الداودي : أرواح الشهداء في حواصل طير . وقال ابن التين : هذا لا يصح في العقل ولا في الاعتبار ، لأنها إن كانت هي أرواح الطير فكيف تكون في الحواصل دون سائر الجسد ، وإن كان لها أرواح غيرها فكيف يكون لها روحان في جسد ، وكيف تصل لهم الأرزاق التي ذكر الله عز وجل ، انتهى . وفيه نظر ، لأن مسلما أخرج في صحيحه عن محمد بن عبد الله بن نمير ، أخبرنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : ولا تحسبن الذين قتلوا الآية ، فقال : إنا قد سألنا عن ذلك فقال : أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل . الحديث . وروى الحاكم على شرط مسلم من حديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أصيب إخوانكم بأحد . " الحديث ، ذكرناه عن قريب ، وروى ابن أبي عاصم من حديث ابن مسعود " أن الثمانية عشر من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جعل الله أرواحهم في الجنة في طير خضر " وفي لفظ " أرواح الشهداء عند الله كطير خضر في قناديل تحت العرش " ، ومن حديث عطية عن أبي سعيد " قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أرواح الشهداء في طير خضر ترعى في رياض الجنة ، ثم تكون مأواها قناديل معلقة بالعرش " ، ومن حديث موسى بن عبيدة الربذي " عن عبيد الله بن يزيد ، عن أم قلابة أظنها أم مبشر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أرواح المؤمنين طير خضر في حجر من الجنة ، يأكلون من الجنة ويشربون من الجنة " وبسند صحيح إلى كعب بن مالك يرفعه " أرواح الشهداء في طير خضر " ، وعند مالك في الموطأ " نسمة المؤمن طائر " . وتأول بعض العلماء لفظ " في " في قوله : " في جوف طير " بمعنى على ، فيكون المعنى : أرواحهم على جوف طير خضر ، كما في قوله : ولأصلبنكم في جذوع النخل أي : على جذوع النخل . وقال الطيبي : قوله : أرواحهم في جوف طير خضر ، أي : يخلق لأرواحهم بعدما فارقت أبدانهم هياكل على تلك الهيئة تتعلق بها ، وتكون خلفا عن أبدانهم ، فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذات الحسية . وقال القاضي عياض : واختلفوا فيه ، فقيل ليست للأقيسة والعقول في هذا حكم ، فإذا أراد الله أن يجعل الروح إذا خرجت من المؤمن أو الشهيد في قناديل أو جوف طير أو حيث شاء ، كان ذلك ووقع ، ولم يبعد ، لا سيما على القول بأن الأرواح أجساد فغير مستحيل أن يصور جزء من الإنسان طائرا أو يجعل في جوف طائر في قناديل تحت العرش ، وقد اختلفوا في الروح ، فقال كثير من أرباب علم المعاني وعلم الباطن والمتكلمين : لا نعرف حقيقته ولا يصح وصفه ، وهو ما جهل العباد بعلمه ، واستدلوا بقوله تعالى : قل الروح من أمر ربي وقال كثيرون من شيوخنا : هو الحياة ، وقال آخرون : هو أجسام لطيفة مشاكلة للجسم ، يحيى بحياته ، أجرى الله العادة بموت الجسم عند فراقه ، ولهذا وصف بالخروج والقبض وبلوغ الحلقوم ، قال الشيخ : هذا هو المختار ، وقد تعلق بهذا الحديث وأمثاله بعض القائلين بالتناسخ وانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة ، وتعذيبها في الصور القبيحة المسخرة ، وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب ، وهذا باطل مردود لإبطاله ما جاءت الشرائع من إثبات الحشر والنشر والجنة والنار .

التالي السابق


الخدمات العلمية