صفحة جزء
2690 60 - حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال : حدثنا خالد بن الحارث قال : حدثنا ابن عون عن موسى بن أنس قال : وذكر يوم اليمامة ، قال : أتى أنس ثابت بن قيس ، وقد حسر عن فخذيه [ ص: 139 ] وهو يتحنط ، فقال : يا عم ما يحبسك أن لا تجيء ؟ قال : الآن يا ابن أخي وجعل يتحنط يعني من الحنوط ، ثم جاء فجلس فذكر في الحديث انكشافا من الناس ، فقال : هكذا عن وجوهنا حتى نضارب القوم ، ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بئس ما عودتم أقرانكم .


مطابقته للترجمة في قوله "وهو يتحنط ، وجعل يتحنط " يعني من الحنوط .

ذكر رجاله : وهم ستة ، الأول : عبد الله بن عبد الوهاب أبو محمد الحجبي البصري ، الثاني : خالد بن الحارث الهجيمي ، بضم الهاء وفتح الجيم ، مر في استقبال القبلة ، الثالث : ابن عون ، بفتح العين ، وهو عبد الله بن عون ، مر في العلم ، الرابع : موسى بن أنس بن مالك ، الخامس : أنس بن مالك السادس : ثابت بن قيس بن شماس ، بفتح الشين المعجمة وتشديد الميم ، وفي آخره سين مهملة الخزرجي خطيب الأنصار ، قتل يوم اليمامة شهيدا في خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - .

ذكر لطائف إسناده : فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع ، وفيه العنعنة في موضع واحد ، وفيه القول في أربعة مواضع ، وفيه أن شيخه من أفراده ، وفيه أن رجاله كلهم بصريون ما خلا ثابتا ، وفيه رواية التابعي عن التابعي ، وهما ابن عون وموسى ، وابن عون رأى أنس بن مالك ولم يثبت له سماع منه ، وفيه اثنان من الصحابة وهما أنس وثابت ، وفيه أتى أنس ثابت بن قيس ، وفي رواية البرقاني من وجه آخر ، فقال : عن موسى بن أنس عن أبيه قال : أتيت ثابت بن قيس ، وفي رواية ابن سعد في ( الطبقات ) حدثنا الأنصاري ، حدثنا ابن عون ، أخبرنا موسى بن أنس عن أنس بن مالك قال : لما كان يوم اليمامة جئت إلى ثابت بن قيس بن شماس فذكره ، وهذا الحديث من أفراده .

ذكر معناه : قوله : " وذكر يوم اليمامة " الواو فيه للحال ، وفي رواية الحموي بلا واو واليمامة بفتح الياء آخر الحروف وتخفيف الميم وهي مدينة من اليمن على مرحلتين من الطائف سميت باسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام ، وقال الجوهري : اليمامة بلاد ، وكان اسمها الجو فسميت باسم هذه المرأة لكثرة ما أضيف إليها ، أو ذكر الجاحظ أن اليمامة كانت من بنات لقمان بن عاد ، وأن اسمها عنز وكانت زرقاء ، وقال المسعودي : هي يمامة بنت رباح بن مرة ، ويوم اليمامة هو اليوم الذي كانت فيه الوقعة بين المسلمين وبين بني حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب ، وكانت في ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة من الهجرة في خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - ، وقيل : كانت في أواخر سنة إحدى عشرة ، والجمع بين القولين أن ابتداءها كان في السنة الحادية عشرة وانتهاءها في السنة الثانية عشرة ، وقتل فيها جماعة من المسلمين ، وهم أربعمائة وخمسون من حملة القرآن ، ومن الصحابة ، منهم ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت راية الأنصار مع ثابت هذا ، وكان رأس العسكر خالد بن الوليد - رضي الله تعالى عنه - ، وكان بنو حنيفة نحوا من أربعين ألفا ، والمسلمون نحوا من . . وقتل من بني حنيفة نحو من إحدى وعشرين ألفا وفيهم مسيلمة الكذاب ، قتله وحشي بن حرب ، قاتل حمزة - رضي الله تعالى عنه - رماه بحربة فأصابته وخرجت من الجانب الآخر ، وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة ، فضربه بالسيف فسقط .

قوله : " أتى أنس ثابت بن قيس " وارتفاع أنس بالفاعلية ، وانتصاب ثابت بالمفعولية ، قوله : " وقد حسر " الواو فيه للحال ، وكذلك في قوله : " وهو يتحنط " وحسر بمهملتين مفتوحتين معناه كشف ، قوله : " يا عم " إنما دعاه بذلك ; لأنه كان أسن منه ، ولأنه من قبيلة الخزرج ، قوله : " ما يحبسك " أي : ما يؤخرك ، قوله : " أن لا تجيء " بالنصب ، قال الكرماني : لا زائدة وبالرفع وتخفيف اللام ، وفي رواية الأنصاري ، فقلت : يا عم ، ألا ترى ما يلقى الناس ، وعند الإسماعيلي : ألا تجيء ، وكذا في رواية خليفة في ( تاريخه ) ، وقال في جوابه : بلى يا ابن أخي الآن ، قوله : " وجعل يتحنط " أي : جعل يستعمل الحنوط ، قوله : " يعني من الحنوط " إنما فسر بهذا حتى لا يتصحف بما يشتق من الخياطة أو من شيء آخر ، وقال بعضهم : وكأن قائلها أراد دفع من يتوهم أنها [ ص: 140 ] من الحنطة .

قلت : هذا الوهم بعيد ، ولا معنى يفيد أن يتحنط من الحنطة ، وهذه اللفظة لم تقع في رواية الأنصاري ولكنها موجودة في الأصل .

وروى الطبراني عن علي بن عبد العزيز وأبي مسلم الكبشي قالا : حدثنا حجاج بن منهال ( ح ) وحدثنا محمد بن العباس المؤدب ، حدثنا عفان ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس أن ثابت بن قيس بن شماس جاء يوم اليمامة وقد تحنط ونشر أكفانه ، وقال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، وأعتذر مما صنع هؤلاء ، فقتل ، وكانت له درع ، فسرقت ، فرآه رجل فيما يرى النائم ، فقال : إن درعي في قدر تحت كانون في مكان كذا وكذا ، وأوصاه بوصايا ، فطلبوا الدرع ، فوجدوها وأنفذوا الوصايا .

وعند الترمذي قال أنس : لما انكشف الناس يوم اليمامة قلت لثابت فذكر الحديث ، وفيه : وكان عليه درع نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها ، وفيه : لما رأى في المنام ودل على الدرع قال : لا تقل هذا منام ، فإذا جئت أبا بكر فأعلمه أن علي من الدين كذا وكذا ، وفلان من رقيقي عتيق وفلان فأنفذ أبو بكر وصيته ، ولا يعلم أحد أجيزت وصيته بعد موته سواه ، وفي كتاب ( الردة ) للواقدي بإسناده عن بلال أنه رأى سالما مولى أبي حذيفة ، وهو قافل إلى المدينة من غزوة اليمامة : إن درعي مع الرفقة الذين معهم الفرس الأبلق تحت قدرهم ، فإذا أصبحت فخذها وأدها إلى أهلي ، وإن علي شيئا من الدين فمرهم أن يقضوه عني ، فأخبرت أبا بكر بذلك ، فقال : نصدق قولك ونقضي عنه دينه الذي ذكرته ، وفيه أن عبدي سعدا وسالما حران .

وقال الكرماني : قال أنس : لما انكشف الناس يومئذ ألا ترى يا عم ، فقال : ما هكذا نقاتل مع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - بئسما عودتم أقرانكم ، ثم قاتل حتى قتل ، وكان عليه درع نفيسة ، فمر به رجل من المسلمين ، فأخذها ، فرآه بعض الصحابة في المنام ، فقال : إني أوصيك بوصية فلا تضيعها ، إني لما قتلت أخذ رجل درعي ومنزله في أقصى الناس ، وعند خبائه فرس ، وقد كفا على الدرع برمة وفوق البرمة رحل ، فأت خالدا ، وكان أمير العسكر ، وقل له يأخذ درعي منه ، فإذا قدمت المدينة فقل لخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني أبا بكر - رضي الله تعالى عنه - إن علي من الدين كذا وكذا وفلان من رقيق عتيق ، فأتى الرجل خالدا رضي الله تعالى عنه ، فأخبره فبعث إلى الدرع فأتى بها ، وحدث أبا بكر فأجاز وصيته ، ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت ، وهو من الغرائب .

قوله : " فذكر في الحديث انكشافا " أي : فذكر أنس في حديثه نوعا من الانهزام ، أي : أشار إلى الفرج بين وجوه المسلمين والكافرين بحيث لا يبقى بيننا وبينهم أحد وقدرنا على أن نضاربهم بلا حائل بيننا وبينهم ، فقال ثابت : ما كنا نفعل كذا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; بل كان الصف الأول لا ينحرف عن موضعه وكان الصف الثاني مساعدا لهم ، وفي رواية ابن أبي زائدة : فجاء حتى جلس في الصف والناس منكشفون ، أي : منهزمون ، قوله : " بئس ما عودتم أقرانكم " هكذا في رواية الأكثرين ، ووقع في رواية المستملي "عودكم أقرانكم" . قلت : فعلى الأول : أقرانكم بالنصب ; لأنه مفعول عودتم ، وعلى الثاني : بالرفع ; لأنه فاعل عودكم ، والأقران النظراء ، وهو جمع قرن ، بكسر القاف ، وهو الذي يعادل الآخر في الشدة ، والقرن بفتح القاف من يعادل في السن وأراد ثابت - رضي الله تعالى عنه - بهذا الكلام توبيخ المنهزمين ، أي : عودتم نظراءكم في القوة من عدوكم الفرار منهم حتى طمعوا فيكم ، وفي رواية الأنصاري وابن أبي زائدة ومعاذ بن معاذ : فتقدم فقاتل حتى قتل - رضي الله تعالى عنه - .

ذكر ما يستفاد منه : فيه دلالة على الأخذ بالشدة في استهلاك النفس وغيرها في ذات الله عز وجل ، وترك الأخذ بالرخصة لمن قدر عليها ، وفيه أن التطيب للموت سنة من أجل مباشرة الملائكة للميت ، وفيه التداعي للقتال ; لأن أنسا قال لعمه : ما يحبسك أن لا تجيء ، وفيه قوة ثابت بن قيس وصحة يقينه ونيته ، وفيه التوبيخ لمن نفر من الحرب ، وفيه الإشارة إلى ما كانت عليه الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشجاعة والثبات في الحرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية