صفحة جزء
27 1 - حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عامر بن سعد بن أبى وقاص، عن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطا، وسعد جالس، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال: أو مسلما، فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي، فقلت: [ ص: 192 ] ما لك عن فلان: فوالله إني لأراه مؤمنا، فقال: أو مسلما، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا سعد، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار.


مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، وهي أن الإسلام إن لم يكن على الحقيقة لا يقبل، فلذلك قال عليه السلام: أو مسلما; لأن فيه النهي عن القطع بالإيمان; لأنه باطن لا يعلمه إلا الله، والإسلام معلوم بالظاهر، وقال بعضهم: مناسبة الحديث للترجمة من حيث إن المسلم يطلق على من أظهر الإسلام، وإن لم يعلم باطنه. قلت: ليست المناسبة إلا ما ذكرناه فإن موضوع الباب ليس على إطلاق المسلم على من يظهر الإسلام على ما لا يخفى.

(بيان رجاله)، وهم خمسة:

الأول: أبو اليمان الحكم بن نافع الحمصي.

الثاني: شعيب بن أبي حمزة الأموي.

الثالث: محمد بن مسلم الزهري.

الرابع: عامر بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري سمع أباه، وعثمان، وجابر بن سمرة، وجماعة من الصحابة، روى عنه سعيد بن المسيب، وسعد بن إبراهيم، والزهري، وآخرون، وكان ثقة كثير الحديث، مات سنة ثلاث أو أربع ومائة بالمدينة، روى له الجماعة.

الخامس: أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص بالقاف المشددة من الوقص، وهو الكسر، واسمه مالك بن وهيب، ويقال: أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي أحد العشرة المبشرة بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر الخلافة إليهم، وأمه حمنة بنت سفيان أخي حرب، وإخوته بنو أمية ابن عبد شمس يلتقي سعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلاب، وهو الأب الخامس، أسلم قديما، وهو ابن أربع عشرة سنة بعد أربعة، وقيل: بعد ستة، وشهد بدرا وما بعدها من المشاهد، وكان مجاب الدعوة، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وأول من أراق دما في سبيل الله، وكان يقال له: فارس الإسلام، وكان من المهاجرين الأولين هاجر إلى المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليها، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتا حديث وسبعون حديثا اتفقا منها على خمسة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثمانية عشر، روى له الجماعة، وهو الذي فتح مدائن كسرى في زمن عمر رضي الله عنه، وولاه عمر العراق، وهو الذي بنى الكوفة، ولما قتل عثمان رضي الله عنه اعتزل سعد الفتن، ومات بقصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة سنة سبع وخمسين، وقيل: خمس، وهو ابن بضع وسبعين سنة، وحمل إلى المدينة على أرقاب الرجال، وصلى عليه مروان بن الحكم، وهو يومئذ والي المدينة، ودفن بالبقيع، وهو آخر العشرة موتا، وعن محمد بن سعد عن جابر بن عبد الله، قال: أقبل سعد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقال: هذا خالي فليرني امرؤ خاله، وذلك أن أمه عليه السلام آمنة بنت وهب بن عبد مناف، وسعد هو ابن مالك بن وهيب أخي وهب ابني عبد مناف، وفي الصحابة من اسمه سعد فوق المائة، والله أعلم.

(بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث، والإخبار، والعنعنة.

ومنها أن فيه ثلاثة زهريين مدنيين.

ومنها أن فيه ثلاثة تابعين يروي بعضهم عن بعض ابن شهاب، وعامر، وصالح، وصالح أكبر من ابن شهاب; لأنه أدرك ابن عمر رضي الله عنهما.

ومنها أن فيه رواية الأكابر عن الأصاغر.

ومنها أن قوله: عن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم... هكذا هو هنا، ووقع في رواية الإسماعيلي، عن سعد، هو ابن أبي وقاص.

(بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري هاهنا عن أبي اليمان، عن شعيب، وأخرجه في الزكاة، عن محمد بن عزيز، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح، كلاهما عن الزهري به، عن عامر، وأخرجه مسلم في الإيمان، والزكاة، عن ابن عمر. وعن سفيان، عن الزهري، وعن زهير، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح، كلهم عن الزهري، به.

وفي الزكاة عن إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حميد، أنبأنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، وأخرجه أبو داود أيضا من طريق معمر، وقد اعترض على مسلم في بعض طرق هذا الحديث، في قوله: عن سفيان عن الزهري به، ورواه الحميدي، وسعيد بن عبد الرحمن، ومحمد بن الصباح الجرجرائي، كلهم عن سفيان، عن معمر، عن الزهري به، وهذا هو المحفوظ عن سفيان، ذكره الدارقطني في الاستدراكات على مسلم، وأجاب النووي بأنه يحتمل أن سفيان سمعه من الزهري مرة [ ص: 193 ] ومن معمر عن الزهري، فرواه على الوجهين، وقال بعض الشراح: وفيما ذكره نظر ولم يبين وجهه، ووجهه أن معظم الروايات في الجوامع والمسانيد عن ابن عيينة عن معمر عن الزهري بزيادة معمر بينهما، والروايات قد تظافرت عن ابن عيينة بإثبات معمر ولم يوجد بإسقاطه إلا عند مسلم، والموجود في مسند شيخ مسلم محمد بن يحيى بن أبي عمر بلا إسقاط، وكذلك أخرج أبو نعيم في مستخرجه من طريقه، وزعم أبو مسعود في (الأطراف) أن الوهم من ابن أبي عمر ويحتمل ذلك بأن صدر منه الوهم لما حدث به مسلما، ولكن هذا احتمال غير متعين ويحتمل أن يكون الوهم من مسلم ويحتمل أن يكون مثل ما قاله النووي، وباب الاحتمالات مفتوح.

(بيان اللغات) قوله " رهطا " قال ابن التياني: قال أبو زيد: الرهط ما دون العشرة من الرجال، وقال صاحب (العين): الرهط عدد جمع من ثلاثة إلى عشرة، وبعض يقول من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر، وتخفيف الرهط أحسن، تقول: هؤلاء رهطك وراهطك وهم رجال عشيرتك، وعن ثعلبة: الرهط بنو الأب الأدنى، وعن النصر جاءنا أرهوط منهم مثل أركوب، والجمع أرهط وأراهط، وفي (المحكم): لا واحد له من لفظه، وقد يكون الرهط من العشرة، وفي (الجامع) و (الجمهرة): الرهط من القوم وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة، وربما جاوزوا ذلك قليلا، ورهط الرجل بنو أبيه، ويجمع على أرهط ويجمع الجمع على أرهاط، وفي (الصحاح) رهط الرجل قومه وقبيلته، يقال: هم رهط دينه، والرهط ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة، والجمع أرهط وأرهاط وأراهط، وفي (مجمع الغرائب): الرهط جماعة غير كثيري العدد.

قوله " هو أعجبهم إلي " أي أفضلهم وأصلحهم في اعتقادي. قوله " عن فلان " لفظة فلان كناية عن اسم سمي به المحدث عنه الخاص ويقال في غير الناس الفلان والفلانة بالألف واللام. قوله " فعدت لمقالتي " يقال: عاد لكذا إذا رجع إليه، والمقالة والمقال مصدران ميميان بمعنى القول. قوله " أن يكبه الله " بفتح الياء وضم الكاف أي يلقيه منكوسا هذا من النوادر على عكس القاعدة المشهورة، فإن المعروف أن يكون الفعل اللازم بغير الهمزة والمتعدي بالهمزة فإن "أكب" لازم و "كب" متعد ونحوه أحجم وحجم، وقد ذكر البخاري هذا في كتاب الزكاة فقال: يقال: أكب الرجل إذا كان فعله غير واقع على أحد، فإذا وقع الفعل قلت كبه وكببته، وجاء نظير هذا في أحرف يسيرة منها: أنسل ريش الطائر ونسلته، وأنزفت البئر ونزفتها أنا، وأمريت الناقة درت لبنها، ومريتها أنا، وأنشق البعير رفع رأسه وشنقتها أنا، وأقشع الغيم وقشعته الريح، وحكى ابن الأعرابي في المتعدي: كبه وأكبه معا، وفي (العباب): يقال كبه الله لوجهه صرعه على وجهه، يقال: كب الله العدو، وأكب على وجهه سقط، وهذا من النوادر أن يقال أفعلت أنا وفعلت غيري.

(بيان الإعراب) قوله " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى " تقدير الكلام عن سعد قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى، وأعطى جملة في محل الرفع على أنها خبر إن، ورهطا منصوب على أنه مفعول أعطى، وقد علم أن باب أعطيت يجوز فيه الاقتصار على أحد مفعوليه، تقول أعطيت زيدا ولا تذكر ما أعطيته، أو أعطيت درهما ولا تذكر من أعطيته، وقوله أعطى رهطا من قبيل الأول، والتقدير أعطى رهطا شيئا من الدنيا بخلاف أفعال القلوب فإنه لا يجوز الاقتصار فيها على أحد المفعولين لأنها داخلة على المبتدأ والخبر، فكما لا يستغني المبتدأ عن الخبر ولا الخبر عن المبتدأ فكذلك لا يستغني أحد المفعولين عن صاحبه، ولكن يجوز أن يسكت عنهما جميعا ويجعلا نسيا منسيا نحو قوله: من يسمع يخل، كما في قولهم فلان يعطي ويمنع.

قوله " وسعد جالس " جملة اسمية وقعت حالا. قوله " رجلا " مفعول لقوله "ترك" واسمه جعيل بن سراقة الضمري سماه الواقدي في المغازي; قوله " هو أعجبهم إلي " جملة اسمية في محل النصب على أنها صفة لقوله "رجلا"; قوله " ما لك عن فلان " أي: أي شيء حصل لك أعرضت عن فلان أو عداك عن فلان أو من جهة فلان بأن لم تعطه، وكلمة "ما" للاستفهام واللام تتعلق بمحذوف وكذلك كلمة "عن" وهو حصل في اللام وأعرضت ونحوه في "عن"; قوله " فوالله " مجرور بواو القسم; قوله " لأراه " وقع بضم الهمزة ههنا في رواية أبي ذر وغيره وكذلك في الزكاة، وكذا هو في رواية الإسماعيلي وغيره، وقال أبو العباس القرطبي: الرواية بضم الهمزة من أراه بمعنى أظنه، وقال النووي هو بفتح الهمزة أي أعلمه، ولا يجوز ضمها على أن يجعل بمعنى أظنه لأنه قال: ثم غلبني ما أعلم منه، ولأنه راجع النبي صلى الله عليه وسلم مرارا فلو لم يكن جازما [ ص: 194 ] باعتقاده لما كرر المراجعة، وقال بعضهم: لا دلالة فيما ذكر على تعين الفتح لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب، ومنه قوله تعالى: فإن علمتموهن مؤمنات سلمنا، لكن لا يلزم من إطلاق العلم أن لا تكون مقدماته ظنية فيكون نظريا لا يقينيا. قلت: بل الذي ذكره يدل على تعين الفتح لأن قسم سعد وتأكيد كلامه بأن واللام وصوغه في صورة الاسمية ومراجعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتكرار نسبة العلم إليه يدل على أنه كان جازما باعتقاده، وهذا لا يشك فيه، وقوله: لكن لا يلزم من إطلاق العلم... إلخ، لا يساعد هذا القائل لأن سعدا وقت الإخبار كان عالما بالجزم لما ذكرنا من الدلائل عليه، فكيف يكون نظريا لا يقينيا في ذلك الوقت؟ قوله " فقال " أي النبي صلى الله عليه وسلم " أو مسلما " قال القاضي: هو بسكون الواو على أنها "أو" التي للتقسيم والتنويع أو للشك والتشريك، ومن فتحها أخطأ وأحال المعنى، ويقال أمره أن يقولهما معا لأنه أحوط; لأن قوله " أو مسلما " لا يقطع بإيمانه.

وروى ابن أبي شيبة عن زيد بن حبان عن علي بن مسعدة الباهلي ثنا قتادة عن أنس يرفعه: ( الإسلام علانية والإيمان في القلب، ثم يشير بيده إلى صدره: التقوى ههنا التقوى ههنا )، ويرد هذا ما رواه ابن الأعرابي في (معجمه) في هذا الحديث فقال: (لا تقل مؤمن قل مسلم)، والذي رواه ابن أبي شيبة، قال ابن عدي : هو غير محفوظ، وقال الكرماني: معناه أن لفظة الإسلام أولى أن يقولها لأنها معلومة بحكم الظاهر، وأما الإيمان فباطن لا يعلمه إلا الله تعالى، وقال صاحب (التحرير) في (شرح صحيح مسلم) هذا حكم على فلان بأنه غير مؤمن، وقال النووي: ليس فيه إنكار كونه مؤمنا، بل معناه النهي عن القطع بالإيمان لعدم موجب القطع، وقد غلط من توهم كونه حكما بعدم الإيمان، بل في الحديث إشارة إلى إيمانه وهو قوله: " لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه " ، وقال الكرماني: فعلى هذا التقدير لا يكون الحديث دالا على ما عقد له الباب وأيضا لا يكون لرد الرسول عليه السلام على سعد فائدة ولئن سلمنا أن فيه إشارة إليه، فذلك حصل بعد تكرار سعد إخباره بإيمانه وجاز أن ينكر أولا ثم يسلم آخرا لحصول أمر يفيد العلم به، وقال بعضهم: وهو تعقب مردود ولم يبين وجهه، ثم قال: وقد بينا وجه المطابقة بين الحديث والترجمة قبل. قلت: قد بينا نحن أيضا هناك أن الذي ذكره ليس بوجه صحيح فليعد إليه هناك.

قوله " قليلا " نصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي سكوتا قليلا; قوله " ما أعلم " كلمة "ما" موصولة في محل الرفع على أنه فاعل غلبني; قوله " غيره أحب إلي منه " جملة اسمية وقعت حالا وهكذا هو عند أكثر الرواة، وفي رواية الكشميهني (أعجب إلي)، ووقع في رواية الإسماعيلي بعد قوله " أحب إلي منه، وما أعطيه إلا مخافة أن يكبه الله " إلى آخره; قوله " خشية " نصب على أنه مفعول له لأعطي أي لأجل خشية أن يكبه الله بإضافة خشية إلى ما بعده و "أن" مصدرية، والتقدير لأجل خشية كب الله إياه في النار، وقال الكرماني: سواء فيه رواية التنوين مع تنكيره، وتقديره لأجل خشية من أن يكبه الله، ورواية الإضافة مع تعريفه لأنه مضاف إلى "أن" مع الفعل، و "أن" مع الفعل معرفة ويجوز في المفعول لأجله التعريف والتنكير. قلت: لا حاجة فيه إلى تقدير من لعدم الداعي إلى تقديرها بل لفظة خشية مضاف إلى ما بعدها على التقدير الذي ذكرناه، فافهم.

(بيان المعاني والبيان) فيه حذف المفعول الثاني من باب أعطيت في الموضعين، الأول في قوله " أعطى رهطا "، والثاني في قوله " إني لأعطي الرجل " تنبيها على التعميم بأي شيء كان أو جعل المتعدي إلى اثنين كالمتعدي إلى واحد، والمعنى إيجاد هذه الحقيقة يعني إيجاد الإعطاء، والفائدة فيهما قصد المبالغة وفيه من باب الالتفات وهو في قوله " أعجبهم إلي "; لأن السياق كان يقتضي أن يقال أعجبهم إليه لأنه قال: وسعد جالس، ولم يقل: وأنا جالس، وهو التفات من الغيبة إلى التكلم، وأما قوله " وسعد جالس " ففيه وجهان، الأول: أن يكون فيه التفات على قول صاحب (المفتاح) من التكلم الذي هو مقتضى المقام إلى الغيبة، وأما على قول غيره فليس فيه التفات لأنهم شرطوا أن يكون الانتقال من التكلم والخطاب والغيبة محققا، وصاحب (المفتاح) لم يشترط ذلك، بل قال: الانتقال أعم من أن يكون محققا أو مقدرا. والوجه الثاني: أن يكون هذا من باب التجريد وهو أن يجرد من نفسه شخصا ويخبر عنه وذلك أن القياس في قوله " وسعد جالس " أن يقول: وأنا جالس، ولكنه جرد من نفسه ذلك وأخبر عنه بقوله " جالس "، وهو من محسنات الكلام من الضروب المعنوية الراجعة إلى وظيفة البلاغة، وفيه من باب الكناية وهو في قوله " خشية أن يكبه الله "; لأن الكب في النار لازم الكفر فأطلق اللازم وأراد الملزوم وهو كناية [ ص: 195 ] وليس بمجاز، فإن قلت: لم لا يكون مجازا من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم إذ الملازمة في الكناية لا بد أن تكون مساوية؟ قلت: شرط المجاز امتناع معنى المجاز والحقيقة، وههنا لا امتناع في اجتماع الكفر والكب فهو كناية لا غير. فإن قلت: الكب قد يكون للمعصية فلا يستلزم الكفر. قلت: المراد من الكب كب مخصوص لا يكون إلا للكافر وإلا فلا تصح الكناية أيضا، وإنما قلنا: إن المراد كب مخصوص لأن معنى قوله " خشية أن يكبه الله في النار " مخافة من كفره الذي يؤديه إلى كب الله إياه في النار، والضمير في يكبه للرجل في قوله " إني لأعطي الرجل " أي أتألف قلبه بالإعطاء مخافة من كفره إذا لم يعط، والتقدير أنا أعطي من في إيمانه ضعف لأني أخشى عليه لو لم أعطه أن يعرض له اعتقاد يكفر به فيكبه الله تعالى في النار كأنه أشار إلى المؤلفة أو إلى من إذ منع نسب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى البخل، وأما من قوي إيمانه فهو أحب إلي فأكله إلى إيمانه ولا أخشى عليه رجوعا عن دينه ولا سوء اعتقاد ولا ضرر فيما يحصل له من الدنيا، والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوسع العطاء لمن أظهر الإسلام تألفا، فلما أعطى الرهط وهم من المؤلفة وترك جعيلا وهو من المهاجرين مع أن الجميع سألوه خاطبه سعد رضي الله عنه في أمره لأنه كان يرى أن جعيلا أحق منهم لما اختبر منه دونهم، ولهذا راجع فيه أكثر من مرة فنبهه النبي صلى الله عليه وسلم بأمرين: أحدهما نبهه على الحكمة في إعطاء أولئك الرهط ومنع جعيل مع كونه أحب إليه ممن أعطى لأنه لو ترك إعطاء المؤلفة لم يؤمن ارتدادهم فيكبون في النار، والآخر: نبهه صلى الله عليه وسلم على أنه ينبغي التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر.

فإن قلت: كيف لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة مثل سعد رضي الله عنه لجعيل بالإيمان. قلت: قوله " فوالله إني لأراه مؤمنا " لم يخرج الشهادة وإنما خرج مخرج المدح له والتوسل في الطلب لأجله، فلهذا ناقشه في لفظه، وفي الحديث ما يدل على أنه قبل قوله فيه وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " يا سعد إني لأعطي الرجل ".. إلخ، ومما يدل على ذلك ما روي في مسند محمد بن هارون الروياني وغيره بإسناد صحيح إلى أبي سالم الجيشاني (عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: كيف ترى جعيلا؟ قال: قلت: كشكله من الناس يعني المهاجرين، قال: فكيف ترى فلانا؟ قال: قلت: سيدا من سادات الناس، قال: فجعيل خير من ملء الأرض من فلان، قال: قلت: ففلان هكذا وأنت تصنع به ما تصنع، قال: إنه رأس قومه فأنا أتألفهم به )، انتهى، فهذه منزلة جعيل رضي الله عنه عند النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الأمر كذلك علم أن حرمانه وإعطاء غيره كان لمصلحة التأليف.

(بيان استنباط الأحكام) وهو على وجوه: الأول: فيه جواز الشفاعة إلى ولاة الأمر وغيرهم; الثاني: فيه مراجعة المشفوع إليه في الأمر الواحد إذا لم يؤد إلى مفسدة; الثالث: فيه الأمر بالتثبت وترك القطع بما لا يعلم فيه القطع; الرابع: فيه أن الإمام يصرف الأموال في مصالح المسلمين الأهم فالأهم; الخامس: فيه أن المشفوع إليه لا عتب عليه إذا رد الشفاعة إذا كانت خلاف المصلحة; السادس: فيه أنه ينبغي أن يعتذر إلى الشافع ويبين له عذره في ردها; السابع: فيه أن المفضول ينبه الفاضل على ما يراه مصلحة لينظر فيه الفاضل; الثامن: فيه أنه لا يقطع لأحد على التعيين بالجنة إلا من ثبت فيه النص كالعشرة المبشرة بالجنة; التاسع: فيه أن الإقرار باللسان لا ينفع إلا إذا اقترن به الاعتقاد بالقلب وعليه الإجماع; ولهذا كفر المنافقون واستدل به جماعة على جواز قول المسلم: أنا مؤمن، مطلقا من غير تقييده بقوله إن شاء الله تعالى. قال القاضي: فيه حجة لمن يقول بجواز قوله " أنا مؤمن " من غير استثناء ورد على من أباه، وقد اختلف فيها من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا، وكل قول إذا حقق كان له وجه، فمن لم يستثن أخبر عن حكمه في الحال ومن استثنى أشار إلى غيب ما سبق له في اللوح المحفوظ، وإلى التوسعة في القولين ذهب الأوزاعي وغيره وهو قول أهل التحقيق نظرا إلى ما قدمناه ورفعا للخلاف.

العاشر: قالوا فيه دليل على جواز الحلف على الظن وهي يمين اللغو وهو قول مالك والجمهور. قلت: قد اختلف العلماء في يمين اللغو على ستة أقوال، أحدها قول مالك كما ذكروه عنه، وقال الشافعي: هي أن يسبق لسانه إلى اليمين من غير أن يقصد اليمين كقول الإنسان لا والله وبلى والله، واستدل بما روي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: (إن لغو اليمين قول الإنسان لا والله وبلى والله)، وحكى ذلك محمد عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وأما المشهور عند أصحابنا أن لغو اليمين هو الحلف على أمر يظنه كما قال والحال أنه خلافه [ ص: 196 ] كقوله في الماضي: والله ما دخلت الدار وهو يظن أنه لم يدخلها والأمر خلاف ذلك، وفي الحال عمن يقبل والله إنه لزيد وهو يظن أنه زيد فإذا هو عمرو.

الحادي عشر: قال القاضي عياض: هذا الحديث أصح دليل على الفرق بين الإسلام والإيمان وأن الإيمان باطن ومن عمل القلب والإسلام ظاهر ومن عمل الجوارح لكن لا يكون مؤمن إلا مسلما، وقد يكون مسلم غير مؤمن، ولفظ هذا الحديث يدل عليه، وقال الخطابي: هذا الحديث ظاهره يوجب الفرق بين الإسلام والإيمان فيقال له مسلم أي مستسلم، ولا يقال له مؤمن وهو معنى الحديث، قال الله تعالى: قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا أي استسلمنا، وقد يتفقان في استواء الظاهر والباطن فيقال للمسلم مؤمن وللمؤمن مسلم، وقد حققنا الكلام فيه فيما مضى في أول كتاب الإيمان.

التالي السابق


الخدمات العلمية