صفحة جزء
2864 228 - حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده ، وقيصر ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده ، ولتقسمن كنوزهما في سبيل الله ، وسمى الحرب خدعة .


مطابقته للترجمة ظاهرة .

ورجاله قد ذكروا غير مرة ، والحديث أخرجه مسلم عن محمد بن رافع .

قوله " كسرى " بفتح الكاف وكسرها لقب ملك الفرس ، وذكره ثعلب بكسر الكاف ، وقال الفراء : الكسر أكثر من الفتح ، وأنكر أبو زيد الأنصاري الفتح ، وقال ابن الأعرابي : الكسر أفصح ، وكان أبو حاتم يختار الكسر ، وقال القزاز : الجمع كسور وأكاسرة وكياسرة والقياس أن يجمع كسرون كما يجمع موسى موسون ، وعن أبي إسحاق الزجاج أنه أنكر على أبي العباس قوله كسرى بكسر الكاف ، قال : وإنما هو كسرى بالفتح ، وقال : ألا تراهم يقولون كسروي ، وقال ابن فارس : لا اعتبار بالنسبة فقد يفتح في النسبة ما هو مكسور في الأصل أو مضموم فيقال في ثعلبي بالفتح ثعلبي بالكسر ، وفي أموي بالضم أموي بالفتح ، ومع هذا فإنه معرب كسر ومعناه واسع الملك ، فكيف عربه المعرب إذا لم يخرج عن بناء كلام العرب فهو جائز ، وفي المجمل قال أبو عمرو : وينسب إلى كسرى بكسر الكاف كسري وكسروي ، وذكر اللحياني أن معناه شاهان شاه وهو اسم لكل من ملك الفرس ، قوله : " وقيصر " مبتدأ ، وقوله : ليهلكن خبره ، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة ، ويروى قيصر بعد النفي بالتنوين لزوال العلمية بالتنكير ، وكذا الكلام في كسرى ، وإنما قال في كسرى هلك بلفظ الماضي وفي قيصر بلفظ المضارع لأن كسرى الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم كان هالكا حينئذ ، وأما قيصر فكان حيا إذ ذاك ، فإن قلت : قد كان بعدهما غيرهما ، قلت : ما قام لهم الناموس على الوجه الذي قبل ذلك .

فإن قلت : روى مسلم من رواية الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد مات كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ، وروى الترمذي من حديث الزهري أيضا عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده . الحديث ، وبين اللفظين [ ص: 275 ] بون عظيم ، فلفظ مسلم يقتضي أن موت كسرى قد وقع فأخبر عنه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو يؤيد رواية البخاري : هلك كسرى ، ولفظ الترمذي يدل على أن هلاكه سيقع لأن إذا للمستقبل ، ولفظ مسلم : قد مات كسرى ، بلفظ الماضي المؤكد بكلمة قد ، ولا يصح أن يقال في قد مات إذا مات ، قلت : الجواب من وجهين : أحدهما أن يقال أن أبا هريرة سمع الحديث مرتين ، فسمع أولا إذا هلك كسرى ثم سمع بعده قد مات في رواية مسلم ، وهلك في رواية البخاري ، ومعناهما واحد ، وكان صلى الله عليه وسلم أخبر أولا قبل موت كسرى بموته ; لأنه علم أنه يموت ثم لما مات قال : قد مات كسرى ، والآخر أن يفرق بين الموت والهلاك ، فموته قد وقع في حياته فأخبر بذلك ، وأما هلاك ملكه فلم يقع إلا بعد موته صلى الله تعالى عليه وسلم وموت أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وإنما هلك ملكه في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه ، وتمامه وتلاشيه في أيام عثمان رضي الله تعالى عنه .

قوله : " ولتقسمن " على صيغة المجهول ، وهكذا جرى ، اقتسم المسلمون كنوزهما في سبيل الله ، وهذه معجزة ظاهرة ، والكنوز جمع كنز وهو المال المدفون والذي يجمع ويدخر ، واعلم أن الهلاك في كسرى عام وفي قيصر خاص ; لأن معنى الحديث لا قيصر بعده في أرض الشام ، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لقيصر لما قرأ كتابه أن يثبت الله ملكه ، فلم يذهب ملك الروم أصلا إلا من الجهة التي خلا منها ، وأما كسرى فإنه مزق كتابه صلى الله عليه وسلم فدعا عليه أن يمزق ملكه كل ممزق ، فانقطع إلى اليوم وإلى يوم القيامة .

قوله : " وسمى " أي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة ، وضبط الأصيلي خدعة بضم الخاء وسكون الدال ، وعن يونس ضم الخاء وفتح الدال ، وعن عياض فتحهما ، وقال القزاز فتح الخاء وسكون الدال لغة النبي صلى الله عليه وسلم ولغته أفصح اللغات ، وقالوا : الخدعة المرة الواحدة من الخداع ، فمعناه أن من خدع فيها مرة واحدة عطب وهلك ولا عودة له ، وقال ابن سيده في العويص : من قال خدعة أراد تخدع أهلها ، وفي الواعي أي تمنيهم بالظفر والغلبة ثم لا تفي لهم ، وقال : ومن قال خدعة أراد هي أن تخدع كما يقال رجل لعنة يلعن كثيرا وإذا خدع أحد الفريقين صاحبه في الحرب فكأنها خدعت هي ، وقال قاسم بن ثابت في كتابه الدلائل : كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى سموا الحرب خدعة ، وحكى مكي ومحمد بن عبد الواحد خدعة بالكسر ، وقال المطرزي : الأفصح بالفتح ; لأنه لغة قريش ، وقال ابن درستويه : ليست بلغة قوم دون قوم وإنما هي كلام الجميع لأنها المرة الواحدة من الخداع فلذلك فتحت ، وقال الأستاذ أبو بكر بن طلحة : أراد ثعلب أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يختار هذه البنية ويستعملها كثيرا لأنها بلفظها الوجيز تعطي معنى البنيتين الأخريين ، ويعطي أيضا معناها استعمل الحيلة في الحرب ما أمكنك فإذا أعيتك الحيل فقاتل ، فكانت هذه اللغة على ما ذكرنا مختصرة اللفظ كثيرة المعنى ، فلذلك كان سيدنا يختارها ، قال اللحياني : خدعت الرجل أخدعه خداعا وخدعا وخديعة وخدعة إذا أظهرت له خلاف ما تخفي ، وأصله كل شيء كتمته فقد خدعته ، ورجل خداع وخدوع وخدع وخدعة إذا كان خبا ، وفي المحكم : الخدع والخديعة المصدر والخدع والخداع الاسم ، ورجل خيدع كثير الخداع ، وقال ابن العربي : الخديعة في الحرب تكون بالتورية وتكون بالكمين وتكون بخلف الوعد وذلك من المستثنى الجائز المخصوص من المحرم .

والكذب حرام بالإجماع جائز في مواطن بالإجماع أصلها الحرب ، أذن الله فيه وفي أمثاله رفقا بالعباد لضعفهم ، وليس للعقل في تحريمه ولا في تحليله أثر ، إنما هو إلى الشرع ، ولو كان تحريم الكذب كما يقول المبتدعون عقلا ويكون التحريم صفة نفسية كما يزعمون ما انقلب حلالا أبدا ، والمسألة ليست معقولة فتستحق جوابا ، وخفي هذا على علمائنا ، وقال الطبري : إنما يجوز في المعاريض دون حقيقة الكذب فإنه لا يحل ، وقال النووي : الظاهر إباحة حقيقة الكذب ، لكن الاقتصار على التعريض أفضل ، وقال بعض أهل السير : قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك يوم الأحزاب لنعيم بن مسعود ، وعن المهلب : الخداع في الحرب جائز كيفما يمكن إلا بالأيمان والعهود والتصريح بالأيمان فلا يحل شيء من ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية