صفحة جزء
2888 251 - حدثنا قبيصة قال : حدثنا ابن عيينة ، عن سليمان الأحول ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء فقال : اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس ، فقال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : أهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ، وأوصى عند موته بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، ونسيت الثالثة .


وجه المطابقة قد ذكر الآن .

وقبيصة بفتح القاف وكسر الباء الموحدة ابن عقبة ، قال الجياني : لا أحفظ لقبيصة عن ابن عيينة شيئا في الجامع ، ورواية ابن السكن قتيبة بدل قبيصة ، قلت : وقع هكذا قبيصة ، حدثنا ابن عيينة عند أكثر الرواة عن الفربري ، وكذا في رواية النسفي ، ولم يقع في البخاري لقبيصة رواية عن سفيان بن عيينة إلا هذه الرواية ، وروايته فيه عن سفيان الثوري كثيرة جدا ، وقيل : لعل البخاري سمع هذا الحديث منهما غير أنه لا يحفظ لقبيصة عن ابن عيينة شيء في الجامع ولا ذكره أبو نصر فيمن روى في الجامع عن غير الثوري .

والحديث أخرجه البخاري في المغازي عن قتيبة ، وفي الجزية عن محمد ، وأخرجه مسلم في الوصايا عن سعيد بن منصور وقتيبة وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد ، الكل عن ابن عيينة ، وأخرجه أبو داود في الخراج ، عن سعيد بن منصور ببعضه ، وأخرجه النسائي في العلم ، عن محمد بن منصور ، عن سفيان مثل الأول .

قوله : " يوم الخميس " خبر المبتدأ المحذوف أو بالعكس نحو يوم الخميس يوم الخميس نحو أنا أنا ، والغرض منه تفخيم أمره في الشدة والمكروه ، قوله : " وما يوم الخميس " أي : أي يوم يوم الخميس ، وهذا أيضا لتعظيم أمره في الذي وقع فيه ، قوله : " حتى خضب " أي رطب وبلل ، قوله : " فتنازعوا " وقد مر في كتاب العلم في باب كتابة العلم بعض هذا الحديث عن ابن عباس ، وفيه " ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، قال عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا وكثر اللغط ، قال : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع " الحديث ، وهذا يوضح معنى قوله : " فتنازعوا " .

قوله : " ولا ينبغي عند نبي تنازع " قال الكرماني : لفظ ولا ينبغي إما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما قول ابن عباس ، والسياق يحتملهما ، والموافق لسائر الروايات الأولى ، قلت : لا حاجة إلى هذا الترديد ; لأنه صلى الله عليه وسلم صرح في الحديث الذي سبق في كتاب العلم بقوله : " ولا ينبغي عندي التنازع " والعجب منه ذلك مع أنه قال : ومر شرح الحديث في باب كتابة العلم .

قوله : " أهجر " ويروى هجر بدون الهمزة ، أطلق بلفظ الماضي لما رأوا فيه من علامات الهجرة عن دار الفناء ، وقال ابن بطال : قالوا : هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أي اختلط ، وأهجر إذا أفحش ، وقال ابن التين : يقال : هجر العليل إذا هذى يهجر هجرا بالفتح ، والهجر بالضم الإفحاش ، وقال ابن دريد : يقال : هجر الرجل في المنطق إذا تكلم بما لا معنى له ، وأهجر إذا أفحش ، قلت : هذه العبارات كلها فيها ترك الأدب والذكر بما لا يليق بحق النبي صلى الله عليه وسلم ، ولقد أفحش من أتى بهذه العبارة ، فانظر إلى ما قال النووي : أهجر بهمزة الاستفهام الإنكاري ، أي أنكروا على من قال لا تكتبوا ، أي لا تجعلوه كأمر من هذى في كلامه ، وإن صح بدون الهمزة فهو أنه لما أصابته الحيرة والدهشة لعظم ما شاهد من هذه الحالة الدالة [ ص: 299 ] على وفاته وعظم المصيبة أجرى الهجر مجرى شدة الوجع ، وقال الكرماني : وأقول هو مجاز لأن الهذيان الذي للمريض مستلزم لشدة وجعه فأطلق الملزوم وأريد اللازم ، قلت : لو كان بتحسين العبارة لكان أولى ، قوله : " دعوني " أي اتركوني ولا تنازعوا عندي ، فإن الذي أنا فيه من المراقبة والتأهب للقاء الله تعالى ، والفكر في ذلك ونحوه أفضل مما تدعوني إليه من الكتابة ونحوها .

قوله : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " أخرجوا أمر من الإخراج ، ولم يتفرغ أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لذلك فأجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه ، قيل : كانوا أربعين ألفا ، ولم ينقل عن أحد من الخلفاء أنه أجلاهم من اليمن مع أنها من جزيرة العرب .

وروى أحمد من حديث أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه " أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب " وإنما أخرج أهل نجران من الجزيرة وإن لم تكن من الحجاز ; لأنه صلى الله عليه وسلم صالحهم على أن لا يأكلوا الربا فأكلوه ، رواه أبو داود من طريق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقال أحمد بن المعدل : حدثني يعقوب بن محمد بن عيسى ، عن الزهري قال : قال مالك بن أنس : جزيرة العرب المدينة ومكة واليمامة واليمن ، وفي رواية ابن وهب عنه : مكة والمدينة واليمن ، وعن المغيرة بن عبد الرحمن : مكة والمدينة واليمن وقرياتها ، وعن الأصمعي : هي ما لم يبلغه ملك فارس من أقصى عدن إلى أطراف الشام هذا الطول ، والعرض من جدة إلى ريف العراق ، وفي رواية أبي عبيد عنه : الطول من أقصى عدن إلى ريف العراق طولا ، وعرضها من جزيرة جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ، وقال الشعبي : هي ما بين قادسية الكوفة إلى حضرموت ، وقال أبو عبيدة : هي ما بين حفر أبي موسى بطوارة من أرض العراق إلى أقصى اليمن في الطول ، وأما في العرض فما بين رمل بيرين إلى منقطع السماوة ، وقال أبو عبيد البكري : قال الخليل : سميت جزيرة العرب لأن بحر فارس وبحر الحبش والفرات ودجلة أحاطت بها ، وهي أرض العرب ومعدنها ، وقال أبو إسحاق الحربي : أخبرني عبد الله بن شبيب ، عن زبير ، عن محمد بن فضالة : إنما سميت جزيرة لإحاطة البحر بها والأنهار من أقطارها وأطرافها ; وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم فظهر بناحية قنسرين ثم انحط عن الجزيرة وهي ما بين الفرات ودجلة ، وعن سواد العراق حتى دفع في البحر من ناحية البصرة والأيلة ، وامتد البحر من ذلك الموضع مغربا مطبقا ببلاد العرب منقطعا عليها ، فأتى منها على سفوان وكاظمة ونفذ إلى القطيف وهجر وأسياف عمان والشحر ، وسال منه عنق إلى حضرموت إلى أبين وعدن ودهلك ، واستطال ذلك العنق فطعن في تهايم اليمن بلاد حكم والأشعريين وعك ، ومضى إلى جدة ساحل مكة وإلى الجاد ساحل المدينة وإلى ساحل تيما وأيلة حتى بلغ إلى قلزم مصر وخالط بلادها ، وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلا معارضا للبحر حتى دفع في بحر مصر والشام ، ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين ومر بعسقلان وسواحلها ، وأتى على صور بساحل الأردن وعلى بيروت وذواتها من سواحل دمشق ، ثم نفذ إلى سواحل حمص وسواحل قنسرين حتى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات منحطا على أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق ، فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزلوها على خمسة أقسام : تهامة والحجاز ونجد والعروض واليمن .

قوله : " وأجيزوا الوفد " وأجيزوا من الإجازة ، يقال أجازه بجوائز أي أعطاه عطايا ، قد مر تفسير الجائزة والوفد ، ويقال الجائزة قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل ، وجائزته يوم وليلة ، قوله : " ونسيت الثالثة " قال ابن التين : ورد في رواية أنها القرآن ، وقال المهلب : هي تجهيز جيش أسامة بن زيد ، وقال ابن بطال : كان المسلمون اختلفوا في ذلك على الصديق فأعلمهم أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عهد بذلك عند موته ، وقال عياض : يحتمل أنها قوله : لا تتخذوا قبري وثنا ، فقد ذكر مالك معناه مع إجلاء اليهود .

وهاهنا فرع ذكره في التوضيح ، وهو يمنع كل كافر عندنا وعند مالك من استيطان الحجاز ، ولا يمنعون من ركوب بحره ، ولو دخل بغير إذن الإمام أخرجه وعزره إن علم أنه ممنوع ، فإن استأذن في دخوله أذن الإمام أو نائبه فيه إن كان مصلحة للمسلمين كرسالة وحمل ما يحتاج إليه ، وعن أبي حنيفة جواز سكناهم في الحرم ويمنع دخول حرم مكة ، قال تعالى : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام والمراد به هنا جميع الحرم ، وقال صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان أيس أن يعبد في جزيرة العرب ، فلو دخله ومات لم يدفن فيه ، وإن مات في غير الحرم من الحجاز [ ص: 300 ] وتعذر نقله دفن هناك ، وحرم المدينة لا يلحق بحرم مكة فيما ذكر ; لكن استحسن الروياني أن يخرج منه إذا لم يتعذر الإخراج ويدفن خارجه ، قلت : مذهب أبي حنيفة أنه لا بأس بأن يدخل أهل الذمة المسجد الحرام ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في مسجده وهم كفار ، رواه أبو داود ، والآية محمولة على منعهم أن يدخلوها مستولين عليها ومستعلين على أهل الإسلام من حيث التدبير والقيام بعمارة المسجد ، فإن قبل الفتح كانت الولاية والاستعلاء لهم ولم يبق ذلك لهم بعد الفتح ، أو هي محمولة على كونهم طائفين الكعبة حال كونهم عراة كما كانت عادتهم في الجاهلية .

التالي السابق


الخدمات العلمية