صفحة جزء
28 (وقال عمار: ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والإنفاق من الإقتار).


الكلام فيه على وجوه: الأول: في ترجمة عمار وهو أبو اليقظان بالمعجمة عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن الوذيم بن ثعلبة بن عوف بن حارثة بن عامر الأكبر بن يام بن عنس بالنون، وهو زيد بن مالك بن أدد بن يشجب بن غريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، هكذا نسبه ابن سعد رحمه الله; أمه سمية - بصيغة التصغير من السمو - بنت خياط، أسلمت وكذا ياسر مع عمار قديما، وقتل أبو جهل سمية وكانت أول شهيدة في الإسلام، وكانت مع ياسر وعمار رضي الله تعالى عنهم يعذبون بمكة في الله تعالى فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فيقول: (صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، وكانوا من المستضعفين.

قال الواقدي: وهم قوم لا عشائر لهم بمكة ولا منعة ولا قوة، كانت قريش تعذبهم في الرمضاء فكان عمار رضي الله عنه يعذب حتى لا يدري ما يقول وصهيب كذلك وفكيهة كذلك وبلال وعامر بن فهيرة وفيهم نزل قوله تعالى: ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ومن قرأ " فتنوا " بالفتح وهو ابن عامر، فالمعنى فتنوا أنفسهم، وعن عمرو بن ميمون قال: (أحرق المشركون عمار بن ياسر بالنار، فكان عليه السلام يمر به ويمر بيده على رأسه فيقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت على إبراهيم، تقتلك الفئة الباغية)، وعن ابن ابنه قال: (أخذ المشركون عمارا فلم يتركوه حتى نال من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، والله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: فكيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان، قال: فإن عادوا فعد، وفيه نزل: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان شهد بدرا والمشاهد كلها وهاجر إلى أرض الحبشة ثم إلى المدينة، وكان إسلامه بعد بضعة وثلاثين رجلا هو وصهيب.

روى عن علي رضي الله عنه، وعن غيره من الصحابة، روي له اثنان وستون حديثا اتفقا منها على حديثين وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بحديث، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين حذيفة وكان رجلا آدم طويلا أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين لا يغير شيبه، قتل بصفين في صفر سنة سبع وثلاثين مع علي رضي الله عنه عن ثلاث وقيل عن أربع وتسعين سنة، ودفن هناك بصفين وقتل وهو مجتمع العقل، وقال الكرماني وياسر رهن في القمار هو ووالده وولده فقمروهم فصاروا بذلك عبيدا للقامر فأعزهم الله بالإسلام، وعمار أول من بنى مسجدا لله في الله، بنى مسجد قباء، ولما قتل دفنه علي رضي الله عنه بثيابه حسب ما أوصاه به ثمة ولم يغسله، وقال صاحب (الاستيعاب) وروى أهل الكوفة أنه صلى عليه وهو مذهبهم في الشهداء أنهم لا يغسلونهم ولكن يصلى عليهم، وقال مسدد: لم يكن في المهاجرين أحد أبواه مسلمان غير عمار بن ياسر. قلت: وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أيضا أسلم أبواه، وفي (شرح قطب الدين) وكان أبوه ياسر خالف أبا حذيفة بن المغيرة ولما قدم ياسر من اليمن إلى مكة زوجه أبو حذيفة أمة له يقال لها سمية فولدت له عمارا فأعتقها أبو حذيفة، وعمار روى له الجماعة.

الثاني: قول عمار الذي علقه البخاري رواه القاسم اللكائي بسند صحيح عن علي بن أحمد بن حفص حدثنا أبو العباس أحمد بن علي المرهبي، حدثنا أبو محمد بن الحسن بن علي بن جعفر الصيرفي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا قطر عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عنه، ورواه رستة أيضا عن سفيان حدثنا [ ص: 198 ] أبو إسحاق فذكره، ورواه أحمد بن حنبل في كتاب الإيمان من طريق سفيان الثوري، ورواه يعقوب بن شيبة في مسنده من طريق شعبة وزهير بن معاوية وغيرهما، كلهم عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن زفر عن عمار رضي الله عنه ولفظ شعبة: (ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان)، وهكذا روي في جامع معمر عن أبي إسحاق، وكذا حدث به عبد الرزاق في (مصنفه) عن معمر، وحدث به عبد الرزاق بآخره فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا أخرجه البزار في مسنده وابن أبي حاتم في (العلل) كلاهما عن الحسن بن عبد الله الكوفي، وكذا رواه البغوي في (شرح السنة) من طريق أحمد بن كعب الواسطي، وكذا أخرجه ابن الأعرابي في معجمه عن محمد بن الصباح الصغاني، ثلاثتهم عن عبد الرزاق مرفوعا، وقال البزار : غريب، وقال أبو زرعة : هو خطأ، فقد روي مرفوعا من وجه آخر عن عمار أخرجه الطبراني في (الكبير)، ولكن في إسناده ضعف، والله أعلم.

الثالث: في إعرابه ومعناه.

فقوله " ثلاث " مرفوع بالابتداء وهو في الحقيقة صفة لموصوف محذوف تقديره خصال ثلاث فقامت الصفة مقام الموصوف المرفوع بالابتداء، ويجوز أن يقال يجوز وقوع النكرة مبتدأ إذا كان الكلام بها في معنى المدح نحو طاعة خير من معصية، وقد عدوه من جملة المواضع التي يقع فيها المبتدأ نكرة، وقوله " من " مبتدأ ثان وهي موصوفة متضمنة لمعنى الشرط وجمعهن صلتها، وقوله " فقد جمع الإيمان " خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول والفاء في " فقد " لتضمن المبتدأ معنى الشرط والإيمان منصوب بجمع ومعناه فقد حاز كمال الإيمان تدل عليه رواية شعبة: (فقد استكمل الإيمان); قوله " الإنصاف " خبر مبتدأ محذوف والتقدير إحدى ثلاث الإنصاف يقال أنصفه من نفسه وانتصفت أنا منه، وقال الصغاني: الإنصاف العدل والنصف والنصفة الاسم منه يقال جاء منصفا أي مسرعا; قوله " وبذل السلام " أي الثاني من الثلاث بذل السلام بالذال المعجمة، وفي (العباب) بذلت الشيء أبذله وأبذله وهذه عن ابن عباد أي أعطيته وجدت به ثم قال في آخر الباب والتركيب يدل على ترك صيانة الشيء; قوله " للعالم " بفتح اللام وأراد به كل الناس من عرفت ومن لم تعرف.

فإن قلت: العالم اسم لما سوى الله تعالى فيدخل فيه الكفار ولا يجوز بذل السلام لهم. قلت: ذاك خرج بدليل آخر وهو قوله عليه السلام: (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى) إلخ كما تقدم. قوله " والإنفاق " أي الثالث الإنفاق من الإقتار بكسر الهمزة وهو الافتقار، يقال أقتر الرجل إذا افتقر. فإن قلت على هذا التفسير يكون المعنى الإنفاق من العدم وهو لا يصح. قلت: كلمة "من" ههنا يجوز أن تكون بمعنى في كما في قوله تعالى: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة أي فيه، والمعنى: والإنفاق في حالة الفقر، وهو من غاية الكرم ويجوز أن يكون بمعنى عند كما في قوله تعالى: لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أي عند الله، والمعنى: والإنفاق عند الفقر ويجوز أن يكون بمعنى الغاية كما في قولك أخذته من زيد، فيكون الافتقار غاية لإنفاقه، وفي الحقيقة هي للابتداء لأن المنفق في الإقتار يبتدئ منه إلى الغاية، وقال أبو الزناد بن سراج جمع عمار في هذه الألفاظ الخير كله; لأنك إذا أنصفت من نفسك فقد بلغت الغاية بينك وبين خالقك وبينك وبين الناس ولم تضيع شيئا أي مما لله وللناس عليك، وأما بذل السلام للعالم فهو كقوله عليه السلام: (وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) وهذا حض على مكارم الأخلاق واستئلاف النفوس، وأما الإنفاق من الإقتار فهو الغاية في الكرم، فقد مدح الله عز وجل من هذه صفته بقوله: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وهذا عام في نفقة الرجل على عياله وأضيافه وكل نفقة في طاعة الله تعالى.

وفيه أن نفقة المعسر على عياله أعظم أجرا من نفقة الموسر. قلت: هذه الكلمات جامعة لخصال الإيمان كلها لأنها إما مالية أو بدنية، فالإنفاق إشارة إلى المالية المتضمنة للوثوق بالله تعالى والزيادة في الدنيا وقصر الأمل ونحو ذلك، والبدنية إما مع الله تعالى أي التعظيم لأمر الله تعالى، وهو الإنصاف أو مع الناس، وهو الشفقة على خلق الله تعالى، وهو بذل السلام الذي يتضمن مكارم الأخلاق والتواضع وعدم الاحتقار، ويحصل به التآلف والتحابب ونحو ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية