صفحة جزء
2927 قصة فدك.

3 - حدثنا إسحاق بن محمد الفروي، قال: حدثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان وكان محمد بن جبير ذكر لي ذكرا من حديثه ذلك، فانطلقت حتى أدخل على مالك بن أوس، فسألته عن ذلك الحديث، فقال مالك: بينا أنا جالس في أهلي حين متع النهار إذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني فقال: أجب أمير المؤمنين، فانطلقت معه حتى أدخل على عمر، فإذا هو جالس على رمال سرير ليس بينه وبينه فراش متكئ على وسادة من أدم، فسلمت عليه، ثم جلست فقال: يا مال إنه قدم علينا من قومك أهل أبيات، وقد أمرت فيهم برضخ، فاقبضه فاقسمه بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين لو أمرت به غيري، قال: اقبضه أيها المرء، فبينا أنا جالس عنده أتاه حاجبه يرفا، فقال: هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص يستأذنون، قال: نعم، فأذن لهم، فدخلوا فسلموا وجلسوا، ثم جلس يرفا يسيرا، ثم قال: هل لك في علي وعباس، قال: نعم، فأذن لهما فدخلا، فسلما فجلسا، فقال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني [ ص: 22 ] وبين هذا وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من بني النضير، فقال الرهط عثمان وأصحابه: يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر، قال عمر: تيدكم، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه؟ قال الرهط: قد قال ذلك، فأقبل عمر على علي وعباس، فقال: أنشدكما الله أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا: قد قال ذلك، قال عمر: فإني أحدثكم عن هذا الأمر إن الله قد خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره، ثم قرأ: وما أفاء الله على رسوله منهم إلى قوله: قدير فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، قد أعطاكموها، وبثها فيكم، حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حياته، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم قال لعلي وعباس: أنشدكما بالله، هل تعلمان ذلك؟ قال عمر: ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها أبو بكر، فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم إنه فيها لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر، فكنت أنا ولي أبي بكر، فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل فيها أبو بكر، والله يعلم إني فيها لصادق بار راشد تابع للحق، ثم جئتماني تكلماني وكلمتكما واحدة وأمركما واحد، جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا -يريد عليا- يريد نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت: إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما عمل فيها أبو بكر وبما عملت فيها منذ وليتها، فقلتما: ادفعها إلينا، فبذلك دفعتها إليكما، فأنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك؟ قال الرهط: نعم، ثم أقبل على علي وعباس، فقال: أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا: نعم، قال: فتلتمسان مني قضاء غير ذلك؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي؛ فإني أكفيكماها.


[ ص: 23 ] مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: " إن الله قد خص رسوله " إلى قوله: " فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم "، لا من جملة ما سألت فاطمة رضي الله تعالى عنها ما بقي من خمس خيبر، وكان علي وعباس يختصمان في الفيء الذي خص الله تعالى نبيه بذلك، كما سيجيء بيان ذلك أن في الفيء خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون غيره، وحقه في الفيء من أموال بني النضير كانت له خاصة حين أجلاهم، وكذا نصف أرض فدك صالح أهلها بعد فتح خيبر على نصف أرضها، فكانت خالصة له، وكذا ثلث أرض وادي القرى أخذه في الصلح حين صالح اليهود، وكذا حصنان من حصون خيبر الوطيح والسلالم أخذهما صلحا، ومنها سهمه من خمس خيبر، وما افتتح منها عنوة، فكان هذا ملكا له خاصة لا حق لأحد فيها.

ذكر رجاله، وهم خمسة: الأول: إسحاق بن محمد الفروي، بفتح الفاء، وسكون الراء وبالواو، وقال الغساني: وفي بعض النسخ محمد بن إسحاق، وهو خطأ. الثاني: مالك بن أنس. الثالث: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الرابع مالك بن أوس بفتح الهمزة وسكون الواو وبالسين المهملة ابن الحدثان بالمهملتين المفتوحتين، وبالثاء المثلثة ابن عوف بن ربيعة النصري، من بني نصر بن معاوية، يكنى أبا سعيد، زعم أحمد بن صالح المصري - وكان من جملة أهل هذا الشأن أن له صحبة، وقال سلمة بن وردان: رأيت جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . . فذكرهم، وذكر فيهم مالك بن أوس بن الحدثان النصري، وقال أبو عمر: لا أحفظ له صحبة أكثر مما ذكرت، ولا أعلم له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما روايته عن عمر رضي الله تعالى عنه فأكثر من أن تذكر، وروى عن العشرة المهاجرين، وعن العباس بن عبد المطلب، روى عنه محمد بن جبير بن مطعم، والزهري، ومحمد بن المنكدر، وآخرون، مات بالمدينة سنة اثنتين وتسعين، وهو ابن أربع وتسعين سنة. الخامس محمد بن جبير بضم الجيم وفتح الباء الموحدة ابن مطعم بن عدي بن نوفل بن عدي بن عبد مناف القرشي المديني، مات بالمدينة زمن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.

ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في النفقات، عن سعيد بن عفير، وفي الاعتصام عن عبد الله بن يوسف، وفي الفرائض عن يحيى بن بكير، وأخرجه مسلم في المغازي، عن عبد الله بن أسماء، وعن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد، وأخرجه أبو داود في الخراج عن الحسن بن علي الخلال، ومحمد بن يحيى بن فارس، وعن محمد بن عبيد، وأخرجه الترمذي في السير عن الحسن بن علي الخلال به، وأخرجه النسائي في الفرائض عن عمرو بن علي، وفي قسم الفيء عن علي بن حجر، وفي التفسير عن محمد بن عبد الأعلى.

ذكر معناه:، قوله: " حتى أدخل " يجوز فيه ضم اللام وفتحها، فوجه الضم هو أن تكون " حتى " عاطفة، والمعنى: انطلقت فدخلت . ووجه الفتح هو أن تكون " حتى " بمعنى " كي "، ومثله قوله تعالى " وزلزلوا حتى يقول الرسول ، قوله: " بينا " قد مر غير مرة أن أصله " بين "، فأشبعت فتحة النون بالألف، وربما تزاد فيه الميم، فيقال: بينما، وهما ظرفا زمان، ويضافان إلى جملة اسمية وفعلية، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، وجوابه هو، قوله: " إذا رسول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه "، والأفصح أن لا يكون في جوابهما إذ وإذا. قوله: " حين متع النهار " بالميم والتاء المثناة من فوق والعين المهملة المفتوحات، ومعناه حين ارتفع وطال ارتفاعه، وقال صاحب العين: متع النهار متوعا، وذلك قبل الزوال. وقيل: معناه طال وعلا، وأمتع الشيء: طالت مدته، ومنه في الدعاء: أمتعني الله بك، وقيل معناه: نفعني الله بك، وقال الداودي: متع صار قرب نصف النهار، وفي رواية أبي داود: " أرسل علي عمر رضي الله عنه حين تعالى النهار "، وفي رواية مسلم: " أرسل إلي عمر بن الخطاب فجئته حين تعالى النهار ". قوله: " على رمال سرير " الرمال بكسر الراء وضمها: ما ينسج من سعف النخل ليضطجع عليه، ويقال: رمل سريره وأرمله إذا رمل شريطا، أو غيره، فجعله ظهرا. وقيل: رمال السرير ما مد على وجهه من خيوط وشريط ونحوهما، وفي رواية أبي داود: " فجئته فوجدته في بيته جالسا على سريره مفضيا إلى رماله "، وفي رواية مسلم: " فوجدته في بيته جالسا على سريره مفضيا إلى رماله متكئا على وسادة من أدم ". قوله: " مفضيا إلى رماله " يعني ليس بينه وبين رماله شيء، وإنما قال هذا لأن [ ص: 24 ] العادة أن يكون فوق الرمال فراش، أو نحوه، ومعنى قوله: " ليس بينه وبينه " أي ليس بين عمر وبين الرمال فراش. قوله: " يا مال " أي يا مالك، فرخمه بحذف الكاف، ويجوز ضم اللام وكسرها على الوجهين في الترخيم. قوله: " إنه قدم علينا من قومك "، وفي رواية مسلم أنه قد دف أهل أبيات من قومك، وكذا في رواية أبي داود: " دف " من الدف، وهو المشي بسرعة. قوله: " برضخ " بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة، وفي آخره خاء معجمة، وهي العطية القليلة غير المقدرة. قوله: " لو أمرت به غيري " أي لو أمرت بدفع الرضخ إليهم غيري، وفي رواية أبي داود: " وقد أمرت فيهم بشيء فاقسم فيهم، قلت: لو أمرت غيري بذلك فقال: خذه "، وفي رواية مسلم: " لو أمرت بهذا غيري قال: خذه يا مال ". قوله: " اقبضه أيها المرء " هو عزم عليه في قبضه. قوله: " يرفا " هو مولى عمر وحاجبه بفتح الياء آخر الحروف وسكون الراء وفتح الفاء مهموزا وغير مهموز، وهو الأشهر، وفي رواية البيهقي: " اليرفا " بالألف واللام. قوله: " هل لك في عثمان " أي هل لك إذن في عثمان، وقال الكرماني: " هل لك رغبة في دخولهم ". قوله: " يستأذنون " جملة حالية. قوله: " اقض بيني وبين هذا " يعني علي بن أبي طالب، وفي رواية مسلم: " اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن " - يعني الكاذب إن لم ينصف - فحذف الجواب، وزعم المازري أن هذه اللفظة ننزه القائل والمقول فيه عنها، وننسبها إلى أن بعض الرواة وهم فيها، وقد أزالها بعض الناس من كتابه تورعا، وإن لم يكن الحمل فيها على الرواة، فأجود ما يحمل عليه أن العباس قالها إدلالا عليه؛ لأنه بمنزلة والده، ولعله أراد ردع علي عما يعتقد أنه مخطئ فيه، وأن هذه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعله عن قصد، وإن كان علي لا يراها موجبة لذلك في اعتقاده، وهذا كما يقول المالكي: شارب النبيذ ناقص الدين، والحنفي يعتقد أنه ليس بناقص، وكل واحد محق في اعتقاده، ولا بد من هذا التأويل؛ لأن هذه القضية جرت بحضرة عمر والصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم ينكر أحد منهم هذا الكلام مع تشددهم في إنكار المنكر، وما ذلك إلا أنهم فهموا بقرينة الحال أنه تكلم بما لا يعتقده. انتهى. قلت: كل هذا لا يفيد شيئا، بل يجب إزالة هذه اللفظة عن الكتاب، وحاشى من عباس أن يتلفظ بها، ولا سيما بحضرة عمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة، ولم يكن عمر ممن يسكت عن مثل هذا لصلابته في أمور الدين، وعدم مبالاته من أحد، وفي ما قاله نسبة عمر إلى ترك المنكر، وعجزه عن إقامة الحق، فاللائق لحال الكل إزالة هذه من الوسط، فلا يحتاج إلى تأويل غير طائل؛ فافهم. قوله: " وهما يختصمان " أي العباس وعلي يختصمان أي يتجادلان ويتنازعان، والواو فيه للحال. قوله: " فيما أفاء الله على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم من مال بني النضير "، وهو مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، وهو المال الذي بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، وفي رواية عن الزهري: " قرى عرينة فدك "، وقال ابن عباس في قوله: وما أفاء الله على رسوله منهم الآية، هو من أموال الكفار، وأهل القرى وهم قريظة والنضير وهما بالمدينة، وفدك وخيبر وقرى عرينة وينبع . . كذا في تفسير النسفي. قوله: " فقال الرهط "، وهم المذكورون فيما مضى، وهم عثمان وأصحابه، فقوله: " عثمان " خبر مبتدأ محذوف، أي: هم عثمان وأصحابه المذكورون، ويجوز أن يكون بيانا، أو بدلا. قوله: " وأرح " أمر من الإراحة بالراء المهملة، وفي رواية مسلم: " فاقض بينهم وأرحهم " فقال مالك بن أوس: يخيل إلي أنهم كانوا قدموهم لذلك، وفي رواية أبي داود: " فقال العباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا يعني عليا، فقال بعضهم: أجل يا أمير المؤمنين، فاقض بينهما وأرحهما. قوله: " فقال عمر: تيدكم " بفتح التاء المثناة من فوق وكسرها وسكون الياء آخر الحروف وفتح الدال المهملة وضمها، وهو اسم فعل كرويد، أي اصبروا وأمهلوا وعلى رسلكم، وقيل: إنه مصدر تأد يتئد، وقال ابن الأثير: هو من التؤدة، كأنه قال: الزموا تؤدتكم، يقال: تأد تأدا كأنه أراد أن يقول: تأدكم فأبدل من الهمزة ياء يعني آخر الحروف، هكذا ذكره أبو موسى، وفي رواية مسلم: " اتئدوا " أي تأنوا واصبروا. قوله: " أنشدكم بالله " بضم الشين، أي أسألكم بالله، يقال: نشدتك الله وبالله. قوله: " لا نورث ما تركنا صدقة " قد مضى تفسيره وأن الرواية بالنون - قال القرطبي: يعني جماعة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما في رواية أخرى: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " . روى أبو عمر في التمهيد من حديث ابن شهاب عن مالك بن أوس عن عمر رضي الله تعالى عنه: " إنا معشر الأنبياء ما تركناه صدقة ". وهذا حجة على الحسن البصري في ذهابه إلى أن هذا خاص بنبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، فاستدل بقوله تعالى في قصة زكرياء عليه السلام [ ص: 25 ] يرثني ويرث من آل يعقوب وبقوله تعالى: وورث سليمان داود وحمل جمهور العلماء الآيتين على ميراث العلم والنبوة والحكمة ومنطق الطير في حق سليمان عليه السلام. قوله: " قد قال ذلك " أي قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " لا نورث ما تركناه صدقة "، وكذلك معنى قوله: " قد قال ذلك في الموضعين الآخرين ". قوله: " ولم يعطه أحدا غيره " أي لم يعط الفيء أحدا غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لأنه خصص الفيء كله له كما هو مذهب الجمهور، أو جله كما هو مذهب الشافعية. وقيل: أي حيث حلل الغنيمة له ولم تحل لسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال القاضي: تخصيصه بالفيء إما كله، أو بعضه، وهل في الفيء خمس أم لا؟ قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا قبل الشافعي قال بالخمس. قوله: " ثم قرأ: وما أفاء الله على رسوله منهم إلى قوله قدير وتمام الآية: فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير أي وما رد الله على رسوله ورجع إليه، ومنه فيء الظل، والفيء كالعود والرجوع يستعمل بمعنى المصير، وإن لم يتقدم ذلك. قوله: فما أوجفتم من الإيجاف من الوجيف، وهو السير السريع، والمعنى إنما جعل الله لرسوله من أموال بني النضير شيئا لم تحصلوه بالقتال والغلبة، ولكن سلط الله رسوله عليهم وعلى أموالهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء، وهو معنى قوله " فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا حق لأحد فيها، فكان يأخذ منها نفقته ونفقة أهله، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وفي رواية مسلم: قال عمر رضي الله تعالى عنه: إن الله خص رسوله بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره؛ قال: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا، قال: فقسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثر عليكم ولا أخذها دونكم حتى بقي هذا المال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقته سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال. انتهى، وهذا تفسير لرواية البخاري في نفس الأمر؛ فقوله: " والله ما احتازها " أي ما جمعها دونكم، وهو بالحاء المهملة والزاي. قوله: " ولا استأثر بها " أي ولا استبد بها، وتخصص بها عليكم. قوله: " وبثها فيكم " أي فرقها عليكم. قوله: " نفقة سنتهم " فإن قلت: كيف يجمع هذا مع ما ثبت أن درعه حين وفاته كانت مرهونة على الشعير استدانة لأهله؟ قلت: كان يعزل مقدار نفقتهم منه، ثم ينفق ذلك أيضا في وجوه الخير إلى حين انقضاء السنة عليهم. قوله: " مجعل مال الله " بفتح الميم، وهو موضع الجعل بأن يجعله في السلاح والكراع ومصالح المسلمين. قوله: " فلما بدا " أي ظهر وصح لي. قوله: " من ابن أخيك "، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أخاه عبد الله والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله. قوله: " يريد نصيب امرأته من أبيها " أي يريد علي بن أبي طالب نصيب زوجته فاطمة الذي آل إليها من أبيها، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الكرماني: إن كان الدفع إليهما صوابا فلم لم يدفعه في أول الحال؟ وإلا فلم دفعه في الآخر؟ وأجاب بأنه منع أولا على الوجه الذي كانا يطلبانه من التملك، وثانيا أعطاهما على وجه التصرف فيها كما تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال الخطابي: هذه القصة مشكلة جدا، وذلك أنهما إذا كانا قد أخذا هذه الصدقة من عمر على الشريطة التي شرطها عليهم، وقد اعترفا بأنه قال صلى الله عليه وسلم: " ما تركنا صدقة "، وقد شهد المهاجرون بذلك، فما الذي بدا لهما بعد حتى تخاصما، والمعنى في ذلك أنه كان يشق عليهما الشركة، فطلبا أن يقسم بينهما ليستبد كل واحد منهما بالتدبير والتصرف فيما يصير إليه، فمنعهما عمر القسم؛ لئلا يجري عليهما اسم الملك؛ لأن القسمة إنما تقع في الأموال، ويتطاول الزمان فتظن به الملكية، وقال أبو داود: ولما صارت الخلافة إلى علي رضي الله تعالى عنه لم يغيرها عن كونها صدقة. قوله: " قضاء غير ذلك " أي غير الذي قضى به، وفي رواية أبي داود: " والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة ". قوله: " فادفعاها إلي "، وفي رواية أبي داود: " فإن عجزتما عنها فرداها إلي ".

ذكر ما يستفاد منه: فيه أن عليا والعباس اختصما في ما أفاء الله على رسوله من مال بني النضير ولم يتنازعا في الخمس، وإنما تنازعا فيما كان خاصا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الفيء، فتركه صدقة بعد وفاته، وفيه أنه يجب أن يولى أمر كل قبيلة سيدها؛ لأنه أعرف باستحقاق كل رجل منهم لعلمه بهم، وفيه الترخيم له ولا عار على المنادى بذلك ولا نقيصة، وفيه استعفاؤه [ ص: 26 ] مما يوليه الإمام بألين الكلام؛ لقول مالك لعمر رضي الله تعالى عنه حين أمره بقسمة المال بين قومه: لو أمرت به غيري، وفيه الحجابة للإمام، وأن لا يصل إليه شريف ولا غيره إلا بإذنه، وفيه الجلوس بين يدي السلطان بغير إذنه، وفيه الشفاعة عند الإمام في إنفاذ الحكم إذا تفاقمت الأمور وخشي الفساد بين المتخاصمين؛ لقول عثمان رضي الله تعالى عنه: " اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر " . وقد ذكر البخاري في المغازي أن عليا والعباس استبا يومئذ. وفيه تعزير الإمام من يشهد له على قضائه وحكمه. وفيه أنه لا بأس أن يمدح الرجل نفسه ويطريها إذا قال الحق. وفيه جواز ادخار الرجل لنفسه وأهله قوت سنة، وهو خلاف قول جهلة الصوفية المنكرين للادخار الزاعمين أن من ادخر لغد فقد أساء الظن بربه ولم يتوكل عليه حق توكله، وفيه إباحة اتخاذ العقار التي يبتغي بها الفضل والمعاش، وفيه أن الصديق رضي الله تعالى عنه قضى على العباس وفاطمة رضي الله تعالى عنهما بحديث: " لا نورث "، ولم يحاكمهما في ذلك إلى أحد غيره، فكذلك الواجب أن يكون للحكام والأئمة الحكم بعلومهم لأنفسهم كان ذلك أو لغيرهم بعد أن يكون ما حكموا فيه بعلومهم مما يعلم صحة أمره رعيتهم - قاله الطبري. وفيه قبول خبر الواحد؛ فإن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يستشهد بأحد كما استشهد عمر، بل أخبر بذلك عنه صلى الله عليه وسلم فقبل ذلك منه، وفيه أنه لا ينكر أن يخفى على الفقيه والعالم بعض الأمور مما علمه غيره كما خفي على فاطمة التخصيص في ذلك، وكذلك يقال: إنه خفي على علي رضي الله تعالى عنه ذلك، وكذلك على العباس، حتى طلبا الميراث، وقد يقال: لم يخف ذلك عليهما، وإنما كانا ذهلا ونسيا حتى ذكرهما أبو بكر، فرجعا إليه، بدليل أن عمر نشدهما بالله هل تعلمان ذلك فقالا: نعم، وفيه أن في طلب فاطمة ميراثها من أبيها وطلب العباس دليلا على أن الأصل في الأحكام العموم وعدم التخصيص حتى يرد ما يدل على التخصيص، وعلى أن المتكلم داخل في عموم كلامه، حيث قال صلى الله عليه وسلم :" من ترك مالا فلأهله ". وهذا قول أكثر أهل الأصول خلافا للحنابلة وابن خويز منداد، وعند كثير من القائلين بالعموم: إن هذا الخطاب وسائر العمومات لا يدخل فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشرع ورد بالتفرقة بينه وبين أمته، ولو ثبت العموم لوجب تخصيصها، وهذا الخبر وما في معناه يوجب تخصيص الآية: وإن كانت واحدة فلها النصف وخبر الآحاد يخصص؛ فكيف ما كان هذا سبيله، وهو القطع بصحته. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية