صفحة جزء
2 [ ص: 36 ] 2 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول، قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا.


لما كان الباب معقودا لبيان الوحي وكيفيته شرع بذكر الأحاديث الواردة فيه غير أنه قدم حديث الأعمال بالنيات تنبيها على أنه قصد من تصنيف هذا الجامع التقرب إلى الله تعالى فإن الأعمال بالنيات، وأيضا فإنه مشتمل على الهجرة وكانت مقدمة النبوة في حقه عليه الصلاة والسلام هجرته إلى الله تعالى وإلى الخلوة بمناجاته في غار حراء فهجرته إليه كانت ابتداء فضله عليه باصطفائه، ونزول الوحي عليه مع التأييد الإلهي والتوفيق الرباني.

(بيان رجاله) وهم ستة: الأول: عبد الله بن يوسف المصري التنيسي وهو من أجل من روى الموطأ عن مالك رحمه الله تعالى سمع الأعلام مالكا، والليث بن سعد، ونحوهما وعنه الأعلام يحيى بن معين، والذهلي وغيرهما وأكثر عنه البخاري في صحيحه، وقال: كان أثبت الشاميين وروى أبو داود، والنسائي، والترمذي، عن رجل عنه، ولم يخرج له مسلم مات بمصر سنة ثماني عشرة ومائتين، وقال البخاري: لقيته بمصر سنة سبع عشرة ومائتين، ومنه سمع البخاري الموطأ عن مالك وليس في الكتب الستة عبد الله بن يوسف سواه، ونسبته إلى تنيس بكسر التاء المثناة من فوق، والنون المكسورة المشددة وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره سين مهملة بلدة بمصر ساحل البحر، واليوم خراب سميت بتنيس بن حام بن نوح عليه السلام، وأصله من دمشق ثم نزل بتنيس، وفي يوسف ستة أوجه ضم السين، وفتحها، وكسرها مع الهمزة وتركها وهو اسم عبراني، وقيل: عربي قال الزمخشري: وليس بصحيح لأنه لو كان عربيا لانصرف لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف، فإن قلت: فما تقول فيمن قرأ يوسف بكسر السين أو يوسف بفتحها هل يجوز على قراءته أن يقال هو عربي لأنه على وزن المضارع المبني للفاعل أو المفعول من آسف، وإنما منع الصرف للتعريف ووزن الفعل قلت: لا; لأن القراءة المشهورة قامت بالشهادة على أن الكلمة أعجمية فلا تكون تارة عربية وتارة أعجمية، ونحو يوسف يونس رويت فيه هذه اللغات الثلاث، ولا يقال هو عربي لأنه في لغتين منها بوزن المضارع من آنس وأونس ثم الذين ذهبوا إلى أنه عربي قالوا: اشتقاقه من الأسف وهو الحزن والأسيف وهو العبد، وقد اجتمعا في يوسف النبي عليه السلام فلذلك سمي يوسف، وهذا فيه نظر لأن يعقوب عليه السلام لما سماه يوسف لم يلاحظ فيه هذا المعنى بل الصحيح على ما قلنا إنه عبراني، ومعناه جميل الوجه في لغتهم.

الثاني من الرجال: الإمام مالك رحمه الله تعالى إمام دار الهجرة وهو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح الأصبحي الحميري أبو عبد الله المدني وعدادهم في بني تميم بن مرة من قريش حلفاء عثمان بن عبيد الله التيمي أخي طلحة بن عبيد الله، وقال أبو القاسم الدولقي: أخذ مالك، عن تسعمائة شيخ منهم ثلاثمائة من التابعين وستمائة من تابعيهم ممن اختاره وارتضى دينه وفهمه وقيامه بحق الرواية وشروطها، وسكنت النفس إليه وترك الرواية، عن أهل دين وصلاح لا يعرفون الرواية، ومن الأعلام الذين روى عنهم إبراهيم بن أبي عبلة المقدسي وأيوب السختياني، وثور بن زيد الديلمي وجعفر بن محمد الصادق، وحميد الطويل، وربيعة ابن أبي عبد الرحمن، وزيد بن أسلم، وسعيد المقبري، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، والزهري، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو الزبير المكي وعائشة [ ص: 37 ] بنت سعد بن أبي وقاص، وقال أصحابنا في طبقات الفقهاء، وفي مناقب أبي حنيفة إن مالك بن أنس كان يسأل أبا حنيفة رضي الله عنه ويأخذ بقوله، وبعضهم ذكر أنه كان ربما سمع منه متنكرا وذكروا أيضا أن أبا حنيفة سمع منه أيضا، ومن الأعلام الذين رووا عنه سفيان الثوري ومات قبله وسفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج، ومات قبله وأبو عاصم النبيل، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن الأوزاعي، وهو أكبر منه، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وعبد الله بن جريج، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وقتيبة بن سعيد، والليث بن سعد، وهو من أقرانه، ومحمد بن مسلم الزهري، وهو من شيوخه وقيل: لا يصح وهو الأصح وروى عنه الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو أحد مشايخه روى عنه وأخذ عنه العلم، وأما الذين رووا عنه الموطأ والذين رووا عنه مسائل الآي فأكثر من أن يحصوا قد بلغ فيهم أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في كتاب جمعه في ذلك نحو ألف رجل، وأخذ القراءة عرضا، عن نافع بن أبي نعيم، وقال البخاري: أصح الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال ابن معين: كل من روى عنه مالك ثقة إلا أبا أمية، وقال غير واحد هو أثبت أصحاب نافع، والزهري، وعن الشافعي رضي الله عنه إذا جاءك الحديث، عن مالك فشد به يديك، وإذا جاء الأثر فمالك النجم، وعنه مالك بن أنس معلمي، وعنه أخذنا العلم، وعنه قال محمد بن الحسن الشيباني: أقمت عند مالك بن أنس ثلاث سنين وكسرا وكان يقول: إنه سمع منه لفظا أكثر من سبعمائة حديث، وكان إذا حدثهم، عن مالك امتلأ منزله وكثر الناس عليه حتى يضيق بهم الموضع، وإذا حدثهم، عن غير مالك من شيوخ الكوفيين لم يجئه إلا اليسير، وقال الواقدي: وكان مالك شعرا شديد البياض ربعة من الرجال كبير الرأس أصلع، وكان لا يخضب، وكان يلبس الثياب العدنية الجياد ويكره خلق الثياب، ويعيبه ويراه من المثلة وهو أيضا من العلماء الذين ابتلوا في دين الله قال ابن الجوزي: ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان، ويقال: سعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس وهو ابن عم أبي جعفر المنصور وقالوا له: إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه لشيء فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلع كتفه وارتكب منه أمرا عظيما، توفي ليلة أربع عشرة من صفر وقيل: من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة وصلى عليه عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أمير المدينة يومئذ ودفن بالبقيع، وزرنا قبره غير مرة نسأل الله تعالى العودة، ومولده في ربيع الأول سنة أربع وتسعين، وفيها ولد الليث بن سعد أيضا وكان حمل به في البطن ثلاث سنين، وليس في الرواة مالك بن أنس غير هذا الإمام، وغير مالك بن أنس الكوفي روي عنه حديث واحد، عن هانئ بن حرام، وقيل: حرام ووهم بعضهم فأدخل حديثه في حديث الإمام نبه عليه الخطيب في كتابه المتفق والمفترق، وهو أحد المذاهب الستة المبتدعة.

والثاني: الإمام أبو حنيفة مات ببغداد سنة خمسين ومائة، عن سبعين سنة:

والثالث: الشافعي مات بمصر سنة أربع ومائتين، عن أربع وخمسين سنة.

والرابع: أحمد بن حنبل مات سنة إحدى وأربعين ومائتين، عن ثمانين سنة ببغداد.

والخامس: سفيان الثوري مات بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة، عن أربع وستين سنة.

والسادس: داود بن علي الأصبهاني مات سنة تسعين ومائتين، عن ثمان وثمانين سنة ببغداد وهو إمام الظاهرية، وقد جمع الإمام أبو الفضل يحيى بن سلامة الخصكفي الخطيب الشافعي القراء السبعة في بيت وأئمة المذاهب في بيت فقال:


جمعت لك القراء لما أردتهم ببيت تراه للأئمة جامعا     أبو عمرو عبد الله حمزة عاصم
علي ولا تنس المديني نافعا     وإن شئت أركان الشريعة فاستمع
لتعرفهم فاحفظ إذا كنت سامعا     محمد والنعمان مالك أحمد
وسفيان واذكر بعد داود تابعا

الثالث: هشام بن عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي أبو المنذر، وقيل: أبو عبد الله أحد الأعلام تابعي مدني رأى ابن عمر ومسح برأسه ودعا له وجابرا وغيرهما، ولد مقتل الحسين رضي الله عنه سنة إحدى وستين ومات ببغداد سنة خمس وأربعين ومائة، روى له الجماعة ولم نعرف أحدا شاركه في اسمه مع اسم أبيه.

الرابع: أبو عبد الله [ ص: 38 ] عروة والد هشام المذكور المدني التابعي الجليل المجمع على جلالته وإمامته وكثرة علمه وبراعته وهو أحد الفقهاء السبعة وهم هو وسعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسليمان بن يسار، وخارجة بالخاء المعجمة والراء ثم الجيم بن زيد بن ثابت وفي السابع ثلاثة أقوال: أحدها أبو سلمة بن عبد الرحمن.

الثاني: سالم بن عبد الله بن عمر، الثالث: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعلى القول الأخير جمعهم الشاعر:


ألا إن من لا يقتدي بأئمة     فقسمته ضيزى من الحق خارجة
فخذهم عبيد الله عروة قاسم     سعيد أبو بكر سليمان خارجة

وأم عروة أسماء بنت الصديق، وقد جمع الشرف من وجوه فرسول الله صلى الله عليه وسلم صهره، وأبو بكر جده، والزبير والده وأسماء أمه، وعائشة خالته، ولد سنة عشرين، ومات سنة أربع وتسعين، وقيل: سنة ثلاث، وقيل: تسع، روى له الجماعة وليس في الستة عروة بن الزبير سواه ولا في الصحابة أيضا.

الخامس: أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تكنى بأم عبد الله كناها رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن أختها عبد الله بن الزبير، وقيل: بسقط لها وليس بصحيح، وعائشة مأخوذة من العيش، وحكي عيشة، لغة فصيحة، وأمها أم رومان بفتح الراء وضمها، زينب بنت عامر، وهي أم عبد الرحمن أخي عائشة أيضا ماتت سنة ست في قول الواقدي، والزبير وهو الأصح تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين وقيل: بثلاث، وقيل: بسنة ونصف أو نحوها في شوال وهي بنت ست سنين، وقيل: سبع وبنى بها في شوال أيضا بعد وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة أقامت في صحبته ثمانية أعوام، وخمسة أشهر وتوفي عنها وهي بنت ثماني عشرة وعاشت خمسا وستين سنة وكانت من أكبر فقهاء الصحابة، وأحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية روي لها ألفا حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بثمانية وخمسين روت، عن خلق من الصحابة وروى عنها جماعات من الصحابة والتابعين قريب من المائتين ماتت بعد الخمسين إما سنة خمس أو ست أو سبع أو ثمان في رمضان، وقيل: في شوال وأمرت أن تدفن ليلا بعد الوتر بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه.

وهل هي أفضل من خديجة بنت خويلد فيه خلاف، فقال بعضهم: عائشة أفضل، وقال آخرون: خديجة أفضل، وبه قال القاضي والمتولي، وقطع ابن العربي المالكي وآخرون وهو الأصح وكذلك الخلاف موجود هل هي أفضل أم فاطمة، والأصح أنها أفضل من فاطمة وسمعت بعض أساتذتي الكبار أن فاطمة أفضل في الدنيا، وعائشة أفضل في الآخرة والله أعلم.

وجملة من في الصحابة اسمه عائشة عشرة عائشة هذه، وبنت سعد، وبنت حز، وبنت الحارث القريشية، وبنت أبي سفيان الأشهلية، وبنت عبد الرحمن بن عتيك زوجة ابن رفاعة، وبنت عمير الأنصارية، وبنت معاوية بن المغيرة أم عبد الملك بن مروان، وبنت قدامة بن مظعون، وعائشة من الأوهام وإنما هي بنت عجرد، وسمعت ابن عباس وليس في الصحيحين من اسمه عائشة من الصحابة سوى الصديقة، وفيهما عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، عن خالتها عائشة أصدقها مصعب ألف ألف، وكانت بديعة جدا، وفي البخاري عائشة بنت سعد بن أبي وقاص تروي عن أبيها، وفي ابن ماجه عائشة بنت مسعود بن العجماء العدوية عن أبيها، وعنها ابن أخيها محمد بن طلحة، وليس في مجموع الكتب الستة غير ذلك وثم عائشة بنت سعد أخرى بصرية تروي عن الحسن (فإن قلت) ما أصل قولهم في عائشة وغيرها من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام أم المؤمنين.

قلت: أخذوه من قوله تعالى: وأزواجه أمهاتهم وقرأ مجاهد وهو أب لهم، وقيل إنها قراءة أبي بن كعب وهن أمهات في وجوب احترامهن وبرهن وتحريم نكاحهن لا في جواز الخلوة والمسافرة، وتحريم نكاح بناتهن وكذا النظر في الأصح، وبه جزم الرافعي ومقابله حكاه الماوردي.

وهل يقال لإخوتهن أخوال المسلمين ولأخواتهن خالات المؤمنين، ولبناتهن أخوات المؤمنين فيه خلاف عند العلماء، والأصح المنع لعدم التوقيف ووجه مقابله أنه مقتضى ثبوت الأمومة، وهو ظاهر النص لكنه مؤول قالوا: ولا يقال آباؤهن وأمهاتهن أجداد المؤمنين وجداتهم.

وهل يقال فيهن أمهات المؤمنات فيه خلاف، والأصح أنه لا يقال بناء على الأصح أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال، وعن عائشة رضي [ ص: 39 ] الله عنها أنها قالت: أنا أم رجالكم لا أم النساء، وهل يقال للنبي عليه السلام أبو المؤمنين فيه وجهان، والأصح الجواز، ونص عليه الشافعي أيضا أي في الحرمة ومعنى قوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم لصلبه وعن الأستاذ أبي إسحاق أنه لا يقال أبونا، وإنما يقال هو كأبينا لما روي أنه أنه قال: "إنما أنا لكم كالوالد".

السادس: الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم أخو أبي جهل لأبويه وابن عم خالد بن الوليد شهد بدرا كافرا فانهزم وأسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه وأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام يوم حنين مائة من الإبل قتل باليرموك سنة خمس عشرة وكان شريفا في قومه وله اثنان وثلاثون ولدا منهم: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء السبعة على قول، وليس في الصحابة الحارث بن هشام إلا هذا، وإلا الحارث بن هشام الجهني، روى عنه المصريون ذكره ابن عبد البر، وقال بعض الشارحين: هذا الحديث أدخله الحفاظ في مسند عائشة دون الحارث، وليس للحارث هذا في الصحيحين رواية وإنما له رواية في سنن ابن ماجه فقط، وعده ابن الجوزي فيمن روى من الصحابة حديثين مراده في غير الصحيحين، وليس في الصحابة في الصحيحين من اسمه الحارث غير الحارث بن ربعي أبي قتادة على أحد الأقوال في اسمه، والحارث بن عوف أبي واقد الليثي وهما بكنيتهما أشهر، وأما خارج الصحيحين فجماعات كثيرون فوق المائة والخمسين قلت: أدخل الإمام أحمد في مسنده الحارث بن هشام فإنه رواه، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن الحارث بن هشام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. واعلم أن الحارث قد يكتب بلا ألف تخفيفا، وهشام بكسر الهاء وبالشين المعجمة.

(بيان لطائف إسناده) منها أن رجاله كلهم مدنيون خلا شيخ البخاري، ومنها أن فيه تابعيا، عن تابعي، ومنها أن قولها سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل وجهين أحدهما: أن تكون عائشة رضي الله عنها حضرته، والآخر أن يكون الحارث أخبرها بذلك فعلى الأول ظاهر الاتصال، وعلى الثاني: مرسل صحابي وهو في حكم المسند ومنها أن في الأول حدثنا عبد الله، وفي الثاني أخبرنا مالك، والبواقي بلفظه، عن المسماة بالعنعنة قال القاضي عياض: لا خلاف أنه يجوز في السماع من لفظ الشيخ أن يقول السامع فيه حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعته يقول، وقال لنا فلان، وذكر فلان، وإليه مال الطحاوي، وصحح هذا المذهب ابن الحاجب، ونقل هو وغيره، عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة، وهو مذهب جماعة من المحدثين منهم الزهري، ومالك، وسفيان بن عيينة، ويحيى القطان، وقيل: إنه قول معظم الحجازيين والكوفيين، وقال آخرون بالمنع في القراءة على الشيخ إلا مقيدا مثل حدثنا فلان قراءة عليه، وأخبرنا قراءة عليه، وهو مذهب ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن يحيى التميمي، والمشهور عن النسائي وصححه الآمدي والغزالي وهو مذهب المتكلمين، وقال آخرون بالمنع في حدثنا والجواز في أخبرنا، وهو مذهب الشافعي وأصحابه، ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق، ونقل عن أكثر المحدثين منهم ابن جريج، والأوزاعي، والنسائي، وابن وهب وقيل: إنه أول من أحدث هذا الفرق بمصر وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث والأحسن أن يقال فيه: إنه اصطلاح منهم أرادوا التمييز بين النوعين وخصصوا قراءة الشيخ بحدثنا لقوة إشعاره بالنطق والمشافهة واختلف في المعنعن فقال بعضهم: هو مرسل والصحيح الذي عليه الجماهير أنه متصل إذا أمكن لقاء الراوي المروي عنه، وقال النووي: ادعى مسلم إجماع العلماء على أن المعنعن وهو الذي فيه فلان عن فلان محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا يعني مع براءتهم من التدليس، ونقل أي مسلم، عن بعض أهل عصره أنه قال: لا يحمل على الاتصال حتى يثبت أنهما التقيا في عمرهما مرة فأكثر ولا يكفي إمكان تلاقيهما، وقال: هذا قول ساقط واحتج عليه بأن المعنعن محمول على الاتصال إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال وكذا إذا أمكن التلاقي قال النووي: والذي رده هو المختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن البخاري وغيره، وقد زاد جماعة عليه فاشترط القابسي أن يكون قد أدركه إدراكا بينا، وأبو المظفر السمعاني طول الصحبة بينهما.

(بيان تعدد الحديث ومن أخرجه غيره) قد رواه البخاري أيضا في بدء الخلق، عن فروة، عن علي بن مسهر، عن [ ص: 40 ] همام ورواه مسلم في الفضائل، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن عيينة، عن أبي كريب، عن أبي أسامة، وعن ابن نمير، عن أبي بشر عنه.

(بيان اللغات) قوله: "الوحي" قد فسرناه فيما مضى ولنذكر هاهنا أقسامه وصوره:

أما أقسامه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: سماع الكلام القديم كسماع موسى عليه السلام بنص القرآن، ونبينا صلى الله عليه وسلم بصحيح الآثار.

الثاني: وحي رسالة بواسطة الملك.

الثالث: وحي تلق بالقلب كقوله عليه الصلاة والسلام: "إن روح القدس نفث في روعي" أي في نفسي، وقيل: كان هذا حال داود عليه السلام، والوحي إلى غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمعنى الإلهام كالوحي إلى النحل.

وأما صوره على ما ذكره السهيلي فسبعة:

الأولى: المنام كما جاء في الحديث.

الثانية: أن يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس كما جاء فيه أيضا.

الثالثة: أن ينفث في روعه الكلام كما مر في الحديث المذكور آنفا، وقال مجاهد وغيره في قوله تعالى: أن يكلمه الله إلا وحيا وهو أن ينفث في روعه بالوحي.

الرابعة: أن يتمثل له الملك رجلا كما في هذا الحديث، وقد كان يأتيه في صورة دحية، قلت: اختصاص تمثله بصورة دحية دون غيره من الصحابة لكونه أحسن أهل زمانه صورة ولهذا كان يمشي متلثما خوفا أن يفتتن به النساء.

الخامسة: أن يتراءى له جبريل عليه السلام في صورته التي خلقها الله تعالى له بستمائة جناح ينتشر منها اللؤلؤ والياقوت.

السادسة: أن يكلمه الله تعالى من وراء حجاب إما في اليقظة كليلة الإسراء أو في النوم كما جاء في الترمذي مرفوعا: "أتاني ربي في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى" الحديث، وحديث عائشة الآتي ذكره: "فجاءه الملك فقال: اقرأ" ظاهره أن ذلك كان يقظة، وفي السيرة فأتاني وأنا نائم، ويمكن الجمع بأنه جاء أولا مناما توطئة وتيسيرا عليه وترفقا به، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "مكث عليه الصلاة والسلام بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين، ولا يرى شيئا، وثماني سنين يوحى إليه".

السابعة: وحي إسرافيل عليه السلام كما جاء، عن الشعبي أن النبي عليه الصلاة والسلام وكل به إسرافيل عليه السلام فكان يتراءى له ثلاث سنين، ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء ثم وكل به جبريل عليه السلام.

وفي مسند أحمد بإسناد صحيح، عن الشعبي : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل القرآن فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة عشرا بمكة، وعشرا بالمدينة فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة ".

وأنكر الواقدي وغيره كونه وكل به غير جبريل عليه السلام، وقال أحمد بن محمد البغدادي: أكثر ما كان في الشريعة مما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان جبريل عليه السلام قوله: "أحيانا" جمع حين وهو الوقت يقع على القليل والكثير، قال الله تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر أي مدة من الدهر قال الجوهري: الحين الوقت، والحين المدة وفلان يفعل كذا أحيانا، وفي الأحايين والحاصل أن الحين يطلق على لحظة من الزمان فما فوقه، وعند الفقهاء الحين والزمان يقع على ستة أشهر حتى لو حلف لا يكلمه حينا أو زمانا أو الحين أو الزمان فهو على ستة أشهر، قالوا: لأن الحين قد يراد به الزمان القليل، وقد يراد به أربعون سنة قال الله تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر أي أربعون سنة، وقد يراد به ستة أشهر قال الله تعالى: تؤتي أكلها كل حين قلت هذا إذا لم ينو شيئا، أما إذا نوى شيئا فهو على ما نواه لأنه حقيقة كلامه.

قوله: "مثل صلصلة الجرس" الصلصلة بفتح الصادين المهملتين الصوت المتدارك الذي لا يفهم أول وهلة، ويقال: هي صوت كل شيء مصوت كصلصلة السلسلة، وفي العباب صلصلة اللجام صوته إذا ضوعف، وقال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يشتبه أول ما يقرع سمعه حتى يفهمه من بعد وقال أبو علي الهجري في أماليه: الصلصلة للحديد والنحاس والصفر، ويابس الطين، وما أشبه ذلك صوته، وفي المحكم: صل يصل صليلا، وصلصل وتصلصل صلصلة، وتصلصلا صوت فإن توهمت ترجيع صوت قلت: صلصل وتصلصل، وقال القاضي: الصلصلة صوت الحديد فيما له طنين، وقيل: معنى الحديث هو قوة صوت حفيف أجنحة الملائكة لتشغله عن غير [ ص: 41 ] ذلك ويؤيده الرواية الأخرى: "كأنه سلسلة على صفوان" أي: حفيف الأجنحة والجرس بفتح الراء هو الجلجل الذي يعلق في رأس الدواب، وقال الكرماني: الجرس شبه ناقوس صغير أو صطل في داخله قطعة نحاس معلق منكوسا على البعير فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت الصطل فتحصل صلصلة، والعامة تقول: جرص بالصاد، وليس في كلام العرب كلمة اجتمع فيها الصاد والجيم إلا الصمج وهو القنديل، وأما الجص فمعرب قال ابن دريد: اشتقاقه من الجرس أي الصوت والحس.

وقال ابن سيده: الجرس والجرس والجرس الأخيرة عن كراع الحركة والصوت من كل ذي صوت، وقيل: الجرس بالفتح إذا أفرد فإذا قالوا ما سمعت له حسا ولا جرسا كسروا فأتبعوا اللفظ باللفظ.

قال الصغاني: قال ابن السكيت: الجرس والجرس الصوت ولم يفرق، وقال الليث: الجرس مصدر الصوت المجروس والجرس بالكسر الصوت نفسه، وجرس الحرف نغمة الصوت والحروف الثلاثة لا جروس لها أعني الواو والياء والألف اللينة وسائر الحروف مجروسة.

قوله: "فيفصم" فيه ثلاث روايات:

الأولى: وهي أفصحها بفتح الياء آخر الحروف وإسكان الفاء وكسر الصاد، وقال الخطابي: معناه يقطع ويتجلى ما يغشاني منه قال: وأصل الفصم القطع ومنه لا انفصام لها وقيل: إنه الصدع بلا إبانة وبالقاف قطع بإبانة فمعنى الحديث أن الملك فارقه ليعود.

الثانية: بضم أوله وفتح ثالثه وهي رواية أبي ذر الهروي قلت: هو على صيغة المجهول من المضارع الثلاثي فافهم.

الثالثة: بضم أوله وكسر الثالثة من أفصم المطر إذا أقلع وهي لغة قليلة قلت: هذا من الثلاثي المزيد فيه، ومنه أفصمت عنه الحمى.

قوله: "وقد وعيت" بفتح العين أي فهمت وجمعت وحفظت، قال صاحب الأفعال: وعيت العلم حفظته ووعيت الأذن سمعت وأوعيت المتاع جمعته في الوعاء، وقال ابن القطاع: وأوعيت العلم مثل وعيته. وقوله تعالى: والله أعلم بما يوعون أي بما يضمرون في قلوبهم من التكذيب، وقال الزجاج: بما يحملون في قلوبهم فهذا من أوعيت المتاع.

قوله: "يتمثل" أي يتصور مشتق من المثال وهو أن يتكلف أن يكون مثالا لشيء آخر وشبيها له، قوله: "الملك" جسم علوي لطيف يتشكل بأي شكل شاء وهو قول أكثر المسلمين، وقالت الفلاسفة: الملائكة جواهر قائمة بأنفسها ليست بمتحيزة البتة فمنهم من هي مستغرقة في معرفة الله تعالى فهم الملائكة المقربون، ومنهم مدبرات هذا العالم إن كانت خيرات فهم الملائكة الأرضية، وإن كانت شريرة فهم الشياطين.

قوله: "رجلا" قال في العباب الرجل خلاف المرأة والجمع رجال ورجالات مثل جمال وجمالات، وقال الكسائي: جمعوا رجلا رجلة مثل عنبة وأراجل قال أبو ذؤيب الهذلي:


أهم بنيه صيفهم وشتاؤهم     وقالوا تعد واغز وسط الأراجل

يقول أهمتهم نفقة صيفهم وشتائهم وقالوا لأبيهم: تعد أي انصرف عنا وتصغير الرجل رجيل ورويجل أيضا على غير قياس كأنه تصغير راجل ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح الرويجل إن صدق" فإن قلت: هل يطلق على المؤنث من هذه المادة قلت: نعم قيل: المرأة رجلة أنشد أبو علي وغيره:


خرقوا جيب فتاتهم     لم يراعوا حرمة الرجلة

وفي شرح الإيضاح استشهد به أبو علي على قوله الرجلة مؤنث الرجل، وقول الفقهاء الرجل كل ذكر من بني آدم جاوز حد البلوغ منقوض به وبإطلاق الرجل على الصغير أيضا في قوله تعالى: وإن كان رجل يورث كلالة

قوله: "وإن جبينه" الجبين طرف الجبهة وللإنسان جبينان يكتنفان الجبهة، ويقال: الجبين غير الجبهة وهو فوق الصدغ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها.

قوله: "ليتفصد" بالفاء والصاد المهملة أي يسيل من التفصد وهو السيلان ومنه الفصد وهو قطع العرق لإسالة الدم، قوله: "عرقا" بفتح الراء وهو الرطوبة التي تترشح من مسام البدن.

(بيان الصرف):

قوله: "أشده علي" الأشد أفعل التفضيل من شد يشد، قوله: "فيفصم" من فصم يفصم فصما من باب ضرب يضرب ولما كانت الفاء من الحروف الرخوة قالت الاشتقاقيون: الفصم هو القطع بلا إبانة والقاف لما كانت من الحروف الشديدة والقلقلة التي فيها ضغط وشدة قالوا: القصم بالقاف هو القطع بإبانة واعتبروا في المعنين المناسبة، قوله: "الملك" أصله ملأك تركت الهمزة لكثرة الاستعمال واشتقاقه من الألوكة وهي الرسالة يقال: ألكني إليه أي أرسلني، ومنه سمي الملك لأنه رسول من الله تعالى وجمعه ملائكة قال الزمخشري: الملائكة جمع ملأك على وزن الأصل كالشمائل جمع [ ص: 42 ] شمأل وإلحاق التاء لتأنيث الجمع. قلت: إنما قال كذلك حتى لا يظن أنه جمع ملك لأن وزنه فعل وهو لا يجمع على فعائل، ولكن أصله ملأك ولما أريد جمعه رد إلى أصله كما أن الشمائل وهي الرياح جمع شمأل بالهمز في الأصل لا جمع شمال; لأن فعالا لا يجمع على فعائل، وفي العباب الألوك والألوكة والمالكة والمالك الرسالة، وإنما سميت الرسالة الألوكة لأنها تولك في الفم من قول العرب الفرس يألك اللجام ألكا أي يعلكه علكا، وقال ابن عباد: قد يكون الألوك الرسول، وقال الصغاني: والتركيب يدل على تحمل الرسالة، قوله: "وعيت" من وعاه إذا حفظه يعيه وعيا فهو واع وذاك موعى وأذن واعية.

(بيان الإعراب)، قوله: "رسول الله" منصوب لأنه مفعول سأل، وقوله: "الوحي" بالرفع فاعل يأتيك، قوله: "أحيانا" نصب على الظرف والعامل فيه قوله: "يأتيني" مؤخرا، قوله: "مثل" بالنصب قال الكرماني: هو حال أي يأتيني مشابها صوته صلصلة الجرس قلت: ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي يأتيني إتيانا مثل صلصلة الجرس، ويجوز فيه الرفع من حيث العربية لا من حيث الرواية، والتقدير هو مثل صلصلة الجرس.

قوله: "وهو أشده" الواو فيه للحال، قوله: "فيفصم" عطف على قوله: "يأتيني" والفاء من جملة حروف العطف كما علم في موضعها ولكن تفيد ثلاثة أمور، الترتيب إما معنوي كما في قام زيد فعمرو، وإما ذكري وهو عطف مفصل على مجمل نحو: فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه والتعقيب وهو في كل شيء بحسبه والسببية وذلك غالب في العاطفة جملة أو صفة نحو: فوكزه موسى فقضى عليه و لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم

قوله: "وقد وعيت" الواو للحال وقد علم أن الماضي إذا وقع حالا يجوز فيه الواو وتركه ولكنه لا بد من قد إما ظاهرة أو مقدرة، وهاهنا جاء بالواو وبقد ظاهرة والمقدرة بلا واو نحو قوله تعالى: أو جاءوكم حصرت صدورهم والتقدير قد حصرت، قوله: "ما قال" جملة في محل النصب لأنها مفعول لقوله: "وقد وعيت" وكلمة ما موصولة وقوله: "قال" جملة صلتها، والعائد محذوف تقديره ما قاله، واعلم أن الجملة لا حظ لها من الإعراب إلا إذا وقعت موقع المفرد، وذلك بحكم الاستقراء في ستة مواضع خبر المبتدأ وخبر باب إن، وخبر باب كان والمفعول الثاني من باب حسبت وصفة النكرة والحال، قوله: "وأحيانا" عطف على أحيانا الأولى، قوله: "الملك" بالرفع فاعل لقوله: "يتمثل"، قوله: "لي" اللام فيه للتعليل أي لأجلي ويجوز أن يكون بمعنى عند أي يتمثل عندي الملك رجلا كما في قولك كتبت لخمس خلون، قوله: "رجلا" نصب على أنه تمييز قاله أكثر الشراح، وفيه نظر لأن التمييز ما يرفع الإبهام المستقر، عن ذات مذكورة أو مقدرة، فالأول نحو عندي رطل زيتا، والثاني نحو طاب زيد نفسا، قالوا: والفرق بينهما أن زيتا رفع الإبهام عن رطل، ونفسا لم يرفع إبهاما لا عن طاب ولا عن زيد إذ لا إبهام فيهما بل رفع إبهام ما حصل من نسبته إليه، وهاهنا لا يجوز أن يكون من القسم الأول وهو ظاهر، ولا من الثاني لأن قوله: "يتمثل" ليس فيه إبهام ولا في قوله: "الملك" ولا في نسبة التمثل إلى الملك، فإذن قولهم هذا نصب على التمييز غير صحيح بل الصواب أن يقال: إنه منصوب بنزع الخافض، وأن المعنى يتصور لي الملك تصور رجل، فلما حذف المضاف المنصوب بالمصدرية أقيم المضاف إليه مقامه، وأشار الكرماني إلى جواز انتصابه بالمفعولية إن ضمن تمثل معنى اتخذ أي اتخذ الملك رجلا مثالا، وهذا أيضا بعيد من جهة المعنى على ما لا يخفى، وإلى انتصابه بالحالية ثم قال: فإن قلت: الحال لا بد أن يكون دالا على الهيئة والرجل ليس بهيئة؟ قلت: معناه على هيئة رجل انتهى.

قلت: الأحوال التي تقع من غير المشتقات لا تؤول بمثل هذا التأويل، وإنما تؤول من لفظها كما في قولك: هذا بسرا أطيب منه رطبا والتقدير متبسرا ومترطبا، وأيضا قالوا: الاسم الدال على الاستمرار لا يقع حالا وإن كان مشتقا نحو أسود وأحمر لأنه وصف ثابت، فمن عرف زيدا عرف أنه أسود، وأيضا الحال في المعنى خبر عن صاحبه فيلزم أن يصدق عليه والرجل لا يصدق على الملك.

قوله: "فيكلمني" الفاء فيه وفي قوله: "فأعي" للعطف المشير إلى التعقيب، قوله: "ما يقول" جملة في محل النصب على أنه مفعول لقوله: "فأعي" والعائد إلى الموصول محذوف تقديره ما يقوله.

قوله: "قالت عائشة" يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون معطوفا على الإسناد الأول بدون حرف العطف كما هو مذهب بعض النحاة، صرح به ابن مالك فحينئذ يكون حديث عائشة مسندا، والآخر أن يكون كلاما برأسه غير مشارك للأول، فعلى هذا يكون هذا من تعليقات البخاري قد ذكره تأكيدا بأمر الشدة وتأييدا [ ص: 43 ] له على ما هو عادته في تراجم الأبواب حيث يذكر ما وقع له من قرآن أو سنة مساعدا لها، ونفى بعضهم أن يكون هذا من التعاليق ولم يقم عليه دليلا فنفيه منفي إذ الأصل في العطف أن يكون بالأداة، وما نص عليه ابن مالك غير مشهور بخلاف ما عليه الجمهور.

قوله: "ولقد رأيت" الواو للقسم واللام للتأكيد، وقد للتحقيق ورأيت بمعنى أبصرت فلذلك اكتفي بمفعول واحد، قوله: "ينزل عليه الوحي" جملة وقعت حالا وقد علم أن المضارع إذا كان مثبتا ووقع حالا لا يسوغ فيه الواو، وإن كان منفيا جاز فيه الأمران قوله: "الشديد" صفة جرت على غير من هي له لأنه صفة البرد لا اليوم، قوله: "فيفصم" عطف على قوله ينزل، قوله: "عرقا" نصب على التمييز.

(بيان المعاني)، قوله: "كيف يأتيك الوحي" فيه مجاز عقلي وهو إسناد الإتيان إلى الوحي كما في أنبت الربيع البقل; لأن الإنبات لله تعالى لا للربيع وهو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له عند المتكلم في الظاهر ويسمى هذا القسم أيضا مجازا في الإسناد، وأصله كيف يأتيك حامل الوحي، فأسند إلى الوحي للملابسة التي بين الحامل والمحمول، وفيه من المؤكدات واو القسم أكدت به عائشة رضي الله عنها ما قاله عليه الصلاة والسلام من قوله: "وهو أشده علي" ولام التأكيد وقد التي وضعها للتحقيق في مثل هذا الموضع كما في نحو قوله تعالى: قد أفلح من زكاها وذلك لأن مرادها الإشارة إلى كثرة معاناته عليه الصلاة والسلام التعب والكرب عند نزول الوحي; وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا ورد عليه الوحي يجد له مشقة ويغشاه الكرب لثقل ما يلقى عليه قال تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم كما روي: "أنه كان يأخذه عند الوحي الرحضاء" أي البهر والعرق من الشدة وأكثر ما يسمى به عرق الحمى، ولذلك كان جبينه يتفصد عرقا كما يفصد، وإنما كان ذلك ليبلو صبره ويحسن تأديبه فيرتاض لاحتمال ما كلفه من أعباء النبوة، وقد ذكر البخاري في حديث يعلى بن أمية: "فأدخل رأسه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وهو يغط ثم سري عنه" ومنه في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "كان نبي الله عليه الصلاة والسلام إذا أنزل عليه كرب لذلك وتربد وجهه" وفي حديث الإفك: "قالت عائشة رضي الله عنها: فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه" قلت: الرحضاء بضم الراء وفتح الحاء المهملة وبالضاد المعجمة الممدودة العرق في أثر الحمى والبهر بالضم تتابع النفس وبالفتح المصدر، قوله: "يغط" من الغطيط وهو صوت يخرجه النائم مع نفسه، قوله: "تربد" بتشديد الباء الموحدة أي تغير لونه، قوله: "البرحاء" بضم الباء الموحدة وفتح الراء وبالحاء المهملة الممدودة وهو شدة الكرب وشدة الحمى أيضا.

قوله: "مثل الجمان" بضم الجيم وتخفيف الميم جمع جمانة، وهي حبة تعمل من فضة كالدرة.

(بيان البيان) فيه استعارة بالكناية وهو أن يكون الوحي مشبها برجل مثلا، ويضاف إلى المشبه الإتيان الذي هو من خواص المشبه به والاستعارة بالكناية أن يكون المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه ويراد به المشبه به هذا الذي مال إليه السكاكي، وإن نظر فيه القزويني، وفيه تشبيه الجبين بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق، ولذلك وقع عرقا تمييزا لأنه توضيح بعد إبهام وتفصيل بعد إجمال، وكذلك يدل على المبالغة باب التفعل لأن أصله وضع للمبالغة والتشديد، ومعناه أن الفاعل يتعانى ذلك الفعل ليحصل بمعاناته كتشجع إذ معناه استعمل الشجاعة وكلف نفسه إياها ليحصلها.

(الأسئلة والأجوبة) الأول: ما قيل أن السؤال عن كيفية إتيان الوحي والجواب على النوع الثاني من كيفية الحامل للوحي، وأجيب بأنا لا نسلم أن السؤال عن كيفية إتيان الوحي بل عن كيفية حامله ولئن سلمنا فبيان كيفية الحامل مشعر بكيفية الوحي حيث قال: "فيكلمني" أي تارة يكون كالصلصلة، وتارة يكون كلاما صريحا ظاهر الفهم والدلالة، قلت: بل نسلم أن السؤال، عن كيفية إتيان الوحي لأن بلفظة كيف يسأل عن حال الشيء فإذا قلت: كيف زيد معناه أصحيح أم سقيم؟ والجواب أيضا مطابق لأنه قال: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس" غاية ما في الباب أن الجواب عن السؤال مع زيادة; لأن السائل سأل عن كيفية إتيان الوحي وبينه عليه الصلاة والسلام بقوله: "يأتيني مثل صلصلة الجرس" مع بيان حامل الوحي أيضا بقوله: "وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني" وإنما زاد على الجواب لأنه ربما فهم من السائل أنه يعود يسأل عن كيفية حامل الوحي أيضا فأجابه [ ص: 44 ] عن ذلك قبل أن يحوجه إلى السؤال فافهم.

الثاني: ما قيل لم قال في الأول "وعيت ما قال" بلفظ الماضي، وفي الثاني: "فأعي ما يقول" بلفظ المضارع، وأجيب بأن الوعي في الأول حصل قبل الفصم ولا يتصور بعده، وفي الثاني: الوعي حال المكالمة ولا يتصور قبلها أو لأنه كان الوعي في الأول عند غلبة التلبس بالصفات الملكية فإذا عاد إلى حالته الجبلية كان حافظا فأخبر عن الماضي بخلاف الثاني، فإنه على حالته المعهودة أو يقال لفظة قد تقرب الماضي إلى الحال وأعي فعل مضارع للحال فهذا لما كان صريحا يحفظه في الحال وذلك يقرب من أن يحفظه إذ يحتاج فيه إلى استثبات.

الثالث: ما قيل إن أبا داود قد روى من حديث عمر رضي الله عنه: "كنا نسمع عنده مثل دوي النحل" وهاهنا يقول: "مثل صلصلة الجرس" وبينهما تفاوت وأجيب بأن ذلك بالنسبة إلى الصحابة، وهذا بالنسبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

الرابع: ما قيل كيف مثل بصلصلة الجرس وقد كره صحبته في السفر لأنه مزمار الشيطان كما أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان ؟ وقيل: كرهه لأنه يدل على أصحابه بصوته وكان يحب أن لا يعلم العدو به حتى يأتيهم فجأة حكاه ابن الأثير، قلت: يحتمل أن تكون الكراهة بعد إخباره عن كيفية الوحي.

الخامس: ما قيل ذكر في هذا الحديث حالتين من أحوال الوحي وهما مثل صلصلة الجرس، وتمثل الملك رجلا ولم يذكر الرؤيا في النوم مع إعلامه لنا أن رؤياه حق أجيب من وجهين أحدهما: أن الرؤيا الصالحة قد يشركه فيها غيره بخلاف الأولين، والآخر لعله علم أن قصد السائل بسؤاله ما خص به ولا يعرف إلا من جهته.

وقال بعضهم: كان عند السؤال نزول الوحي على هذين الوجهين إذ الوحي على سبيل الرؤيا إنما كان في أول البعثة لأن أول ما بدئ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الوحي الرؤيا ثم حبب إليه الخلاء كما روي في الحديث، وقيل ذلك في ستة أشهر فقط، وقال آخرون: كانت الموجودة من الرؤيا بعد إرسال الملك منغمرة في الوحي فلم تحسب ويقال: كان السؤال عن كيفية الوحي في حال اليقظة.

السادس: ما قيل ما وجه الحصر في القسمين المذكورين؟ أجيب بأن سنة الله لما جرت من أنه لا بد من مناسبة بين القائل والسامع حتى يصح بينهما التحاور والتعليم والتعلم فتلك المناسبة إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية عليه، وهو النوع الأول أو باتصاف القائل بوصف السامع وهو النوع الثاني.

السابع: ما قيل ما الحكمة في ضربه صلى الله عليه وسلم في الجواب بالمثل المذكور؟ أجيب بأنه صلى الله عليه وسلم كان معتنيا بالبلاغة مكاشفا بالعلوم الغيبية، وكان يوفر على الأمة حصتهم بقدر الاستعداد، فإذا أريد أن ينبئهم بما لا عهد لهم به من تلك العلوم صاغ لها أمثلة من عالم الشهادة ليعرفوا بما شاهدوه ما لم يشاهدوه فلما سأله الصحابي عن كيفية الوحي وكان ذلك من المسائل الغويصة ضرب لها في الشاهد مثلا بالصوت المتدارك الذي يسمع ولا يفهم منه شيء تنبيها على أن إتيانها يرد على القلب في لبسة الجلال فيأخذ هيبة الخطاب حين ورودها بمجامع القلوب، ويلاقي من ثقل القول ما لا علم له بالقول مع وجود ذلك، فإذا كشف عنه وجد القول المنزل بينا فيلقى في الروع واقعا موقع المسموع، وهذا معنى قوله: "فيفصم عني" وهذا الضرب من الوحي شبيه بما يوحى إلى الملائكة على ما رواه أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنها سلسلة على الحجر" إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير هذا وقد تبين لنا من هذا الحديث أن الوحي كان يأتيه على صفتين أولاهما أشد من الأخرى، وذلك لأنه كان يرد فيهما من الطباع البشرية إلى الأوضاع الملكية فيوحى إليه كما يوحى إلى الملائكة والأخرى يرد فيها الملك إلى شكل البشر وشاكلته وكانت هذه أيسر.

الثامن: ما قيل من المراد من الملك في قوله: "يتمثل لي الملك رجلا" أجيب بأنه جبريل عليه السلام لأن اللام فيه للعهد، ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون المراد به إسرافيل عليه السلام لأنه قرن بنبوته ثلاث سنين كما ذكرنا فإن عورض بأن إسرافيل لم ينزل القرآن قط وإنما كان ينزل بالكلمة من الوحي أجيب بأنه لم يذكر هاهنا شيء من نزول القرآن، وإنما الملك الذي نزل بالقرآن هو المذكور في الحديث الآتي حيث قال: "فجاءه الملك فقال له اقرأ" الحديث.

ولقد حضرت يوما مجلس حديث بالقاهرة وكان فيه جماعة من الفضلاء لا سيما من المنتسبين إلى معرفة علم الحديث فقرأ القارئ من أول البخاري حتى وصل إلى قوله: "فجاءه الملك فقال له اقرأ" فسألتهم عن الملك من هو فقالوا: جبريل عليه السلام فقلت: ما الدليل على ذلك من النقل فتحيروا ثم تصدى واحد منهم فقال: لا نعلم ملكا نزل عليه عليه الصلاة [ ص: 45 ] والسلام غير جبريل قلت: قد نزل عليه إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين، كما رواه أحمد في مسنده كما ذكرناه فعند ذلك قال: قال الله عز وجل: نـزل به الروح الأمين أي بالقرآن والروح الأمين هو جبريل عليه السلام قلت: قد سمي بالروح غير جبريل قال الله تعالى: يوم يقوم الروح والملائكة صفا وعن ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقا فأفحم عند ذلك فقلت: جبريل قد تميز عنه بصفة الأمانة لأن الله تعالى سماه أمينا وسمى ذلك الملك روحا فقط على أنه قد روي عن الشعبي وسعيد بن جبير والضحاك أن المراد بالروح في قوله تعالى: يوم يقوم الروح هو جبريل عليه السلام فقال: من أين علمنا أن المراد من الروح الأمين هو جبريل عليه السلام قلت: بتفسير المفسرين من الصحابة والتابعين وتفسيرهم محمول على السماع لأن العقل لا مجال فيه على أن من جملة أسباب العلم الخبر المتواتر، وقد تواترت الأخبار من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن الذي نزل بالقرآن على نبينا عليه السلام هو جبريل عليه السلام من غير نكير منكر ولا رد راد حتى عرف بذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

وروي أن عبد الله بن صوريا من أحبار فدك حاج رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عمن يهبط عليه بالوحي فقال جبريل: فقال ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا بك وقد عادانا مرارا وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاما مسكينا فدفع عنه جبريل وقال: إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه، وإن لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه فنزل قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل الآية وروي أنه كان لعمر رضي الله عنه أرض بأعلى المدينة وكان ممره على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا: يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال: والله لا أجيبكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى إثارة في كتابكم ثم سألهم، عن جبريل فقالوا: ذلك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وهو صاحب كل خسف وعذاب ويؤيد ما ذكرنا ما روي مرفوعا: "إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماء منه رجفة أو قال: رعدة شديدة خوفا من الله تعالى فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول ما يرفع رأسه جبريل عليه السلام فيكلمه من وحيه بما أراد ثم يمر جبريل عليه السلام على الملائكة كلما مر على سماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل قال الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل عليه السلام حيث أمره الله تعالى".

التاسع: ما قيل كيف كان سماع النبي صلى الله عليه وسلم والملك الوحي من الله تعالى أجيب بأن الغزالي رحمه الله تعالى قال: وسماع النبي والملك عليهما السلام الوحي من الله تعالى بغير واسطة يستحيل أن يكون بحرف أو صوت لكن يكون بخلق الله تعالى للسامع علما ضروريا بثلاثة أمور بالمتكلم وبأن ما سمعه كلامه وبمراده من كلامه والقدرة الأزلية لا تقصر، عن اضطرار النبي والملك إلى العلم بذلك، وكما أن كلامه تعالى ليس من جنس كلام البشر فسماعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سماع الأصوات ولذلك عسر علينا فهم كيفية سماع موسى عليه الصلاة والسلام لكلامه تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت كما يعسر على الأكمه كيفية إدراك البصر للألوان أما سماعه عليه الصلاة والسلام فيحتمل أن يكون بحرف وصوت دال على معنى كلام الله تعالى فالمسموع الأصوات الحادثة، وهي فعل الملك دون نفس الكلام ولا يكون هذا سماعا لكلام الله تعالى من غير واسطة، وإن كان يطلق عليه أنه سماع كلام الله تعالى، وسماع الأمة من الرسول عليه الصلاة والسلام كسماع الرسول من الملك وطريق الفهم فيه تقديم المعرفة بوضع اللغة التي تقع بها المخاطبة، وحكى القرافي خلافا للعلماء في ابتداء الوحي هل كان جبريل عليه السلام ينقل له ملك، عن الله عز وجل أو يخلق له علم ضروري بأن الله تعالى طلب منه أن يأتي محمدا أو غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بسورة كذا أو خلق له علما ضروريا بأن يأتي اللوح المحفوظ فينقل منه كذا.

العاشر: ما قيل ما حقيقة تمثل جبريل عليه الصلاة والسلام له رجلا أجيب بأنه يحتمل أن الله تعالى أفنى الزائد من خلقه ثم أعاده عليه، ويحتمل أن يزيله عنه ثم يعيده إليه بعد التبليغ نبه على ذلك إمام الحرمين، وأما التداخل فلا يصح على مذهب أهل الحق.

الحادي عشر: ما قيل إذا لقي جبريل النبي عليه الصلاة والسلام في صورة دحية فأين تكون روحه فإن كان في الجسد الذي له ستمائة جناح فالذي أتى لا روح جبريل ولا جسده وإن كان في هذا [ ص: 46 ] الذي هو في صورة دحية فهل يموت الجسد العظيم أم يبقى خاليا من الروح المنتقلة عنه إلى الجسد المشبه بجسد دحية؟ أجيب بأنه لا يبعد أن لا يكون انتقالها موجب موته فيبقى الجسد حيا لا ينقص من مفارقته شيء ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طير خضر وموت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا بل بعادة أجراها الله تعالى في بني آدم فلا يلزم في غيرهم.

الثاني عشر: ما قيل ما الحكمة في الشدة المذكورة؟ أجيب لأن يحسن حفظه أو يكون لابتلاء صبره أو للخوف من التقصير.

وقال الخطابي: هي شدة الامتحان ليبلو صبره ويحسن تأديبه فيرتاض لاحتمال ما كلف من أعباء النبوة أو ذلك لما يستشعره من الخوف لوقوع تقصير فيما أمر به من حسن ضبطه أو اعتراض خلل دونه، وقد أنزل عليه عليه الصلاة والسلام بما ترتاع له النفوس ويعظم به وجل القلوب في قوله تعالى: ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين

الثالث عشر: ما قيل ما وجه سؤال الصحابة عنه عليه الصلاة والسلام، عن كيفية الوحي أجيب بأنه إنما كان لطلب الطمأنينة فلا يقدح ذلك فيهم وكانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام، عن الأمور التي لا تدرك بالحس فيخبرهم بها ولا ينكر ذلك عليهم.

(استنباط الأحكام) وهو على وجوه:

الأول: فيه إثبات الملائكة ردا على من أنكرهم من الملاحدة والفلاسفة.

الثاني: فيه أن الصحابة كانوا يسألونه عن كثير من المعاني وكان عليه السلام يجمعهم ويعلمهم وكانت طائفة تسأل وأخرى تحفظ وتؤدي وتبلغ حتى أكمل الله تعالى دينه.

الثالث: فيه دلالة على أن الملك له قدرة على التشكل بما شاء من الصور.

التالي السابق


الخدمات العلمية