صفحة جزء
293 ( وكان أبو وائل يرسل خادمه وهي حائض إلى أبي رزين فتأتيه بالمصحف فتمسكه بعلاقته ) .


الكلام في هذا على أنواع .

الأول في وجه مطابقة هذا للترجمة ; فقال صاحب التلويح وتبعه صاحب التوضيح : لما ذكر البخاري حمل الحائض العلاقة التي فيها المصحف نظرها بمن يحفظ القرآن فهو حامله ، لأنه في جوفه كما روي عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير هو في جوفه ، ولما قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ورقة وهو جنب قال : في جوفي أكثر من هذا ، ونزل ثياب الحائض بمنزلة العلاقة وقراءة الرجل بمنزلة المصحف لكونه في جوفه ، قلت : هذا في غاية البعد ; لأن بين قراءة الرجل في حجر امرأته وبين حمل الحائض المصحف بعلاقته بون عظيم من الجهة التي ذكرت ، لأن قوله : ( نظرها ) إما تشبيه ، وإما قياس ، فإن أراد به التشبيه ، وهو تشبيه محسوس بمعقول فلا وجه للتشبيه ، وإن أراد به القياس فشروطه غير موجودة فيه ، ويمكن أن يقال : وجه التطابق بينهما هو جواز الحكم في كل منهما ، فكما تجوز قراءة الرجل في حجر الحائض فكذلك يجوز حمل الحائض المصحف بعلاقته ، وفي كل منهما دخل للحائض ، وفيه وجه التطابق ، ثم لو قيل ما قيل في ذلك فلا يخلو عن تعسف .

النوع الثاني : أن هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه بسند صحيح ، فقال : حدثنا جرير عن مغيرة : كان أبو وائل فذكره .

النوع الثالث في معناه : فقوله : ( يرسل خادمه ) ، الخادم اسم لمن يخدم غيره ، ويطلق على الغلام والجارية ; فلذلك قال : وهي حائض ، فأنث الضمير .

قوله : ( بعلاقته ) بكسر العين ما يعلق به المصحف ، وكذلك علاقة السيف ونحو ذلك . وأبو وائل اسمه شقيق بن سلمة الأسدي ، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يره ، روى عن كثيرين من الصحابة . وقال يحيى بن معين : ثقة لا يسأل عن مثله ، قال الواقدي : مات في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وأبو رزين بفتح الراء وكسر الزاي المعجمة ، اسمه مسعود بن مالك الأسدي ، مولى أبي وائل الكوفي التابعي ، روى له مسلم والأربعة .

النوع الرابع في استنباط الحكم منه ، وهو جواز حمل الحائض المصحف بعلاقته ، وكذلك الجنب ، وممن أجاز ذلك عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعطاء ، والحسن البصري ، ومجاهد ، وطاوس ، وأبو وائل ، وأبو رزين ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، والشعبي ، والقاسم بن محمد . وقال ابن بطال : ورخص في حمله الحكم ، وعطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن جبير ، وحماد بن أبي سليمان وأهل الظاهر ومنع الحكم مسه بباطن الكف خاصة . وقال ابن حزم : وقراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى جائز كل ذلك بوضوء وبلا وضوء ، وللجنب والحائض ، وهو قول ربيعة وسعيد بن المسيب وابن جبير وابن عباس وداود وجميع أصحابنا ، وأما مس المصحف ، فإن الآثار التي احتج بها من لم يجز للجنب مسه ، فإنه لا يصح منها شيء لأنها إما مرسلة ، وإما صحيفة لا نستند به ، وإما عن ضعيف ، والصحيح عن ابن عباس عن أبي سفيان حديث هرقل الذي فيه : و قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون فهذا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث كتابا فيه قرآن للنصارى ، وقد أيقن أنهم يمسونه ، فإن ذكروا حديث ابن عمر : نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو . قلنا : هذا حق يلزم اتباعه ، وليس فيه لا يمس المصحف جنب ولا كافر ، وإنما فيه أن لا ينال أهل الحرب القرآن فقط ، فإن قالوا : إنما بعث إلى هرقل بآية واحدة . قيل لهم : ولم يمنع من غيرها ، وأنتم أهل قياس فقيسوا ، فإن لم تقيسوا على الآية ما هو أكثر منها فلا تقيسوا على هذه الآية غيرها ، فإن ذكروا قوله جل وعلا : لا يمسه إلا المطهرون قلنا : لا حجة فيه لأنه ليس أمرا ، وإنما هو خبر ، والرب تعالى لا يقول إلا حقا ، ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلا بنص جلي أو إجماع متيقن ، فلما رأينا المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر علمنا أنه لم يعن المصحف .

وإنما عنى كتابا آخر عنده كما جاء عن سعيد بن جبير في هذه الآية : هم الملائكة الذين في السماء ، وكان علقمة إذا أراد أن يتخذ مصحفا أمر نصرانيا ، فينسخه له . وقال أبو حنيفة : لا بأس أن يحمل الجنب المصحف بعلاقته وغير المتوضئ عنده كذلك ، وأبى ذلك مالك إلا إن كان في خرج أو تابوت ; فلا بأس أن يحمله [ ص: 261 ] الجنب واليهودي والنصراني قال أبو محمد: وهذه تفاريق لا دليل على صحتها . انتهى كلامه .

والجواب عما قاله فقوله : بأن الآثار التي احتج بها من لم يجز للجنب مسه إلخ ليس كذلك ; فإن أكثر الآثار في ذلك صحاح ; منها ما رواه الدارقطني في سننه بسند صحيح متصل عن أنس : خرج عمر بن الخطاب متقلدا السيف ، فدخل على أخته وزوجها خباب وهم يقرؤون سورة طه ، فقال : أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرؤه ، فقالت له أخته : إنك رجس ، ولا يمسه إلا المطهرون ، فقم فاغتسل ، أو توضأ فقام وتوضأ ، ثم أخذ الكتاب بيده ، والعجب من أبي عمر بن عبد البر إذ ذكره في سير ابن إسحاق . وقال : هو معضل ، وتبعه على ذلك أبو الفتح القشيري ، وهذا أعجب منه . وقال السهيلي : هو من أحاديث السير . ومنها ما رواه الدارقطني أيضا بسند صحيح من حديث سالم يحدث عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يمس القرآن إلا طاهر ، ولما ذكره الجوزقاني في كتابه قال : هذا حديث مشهور حسن . ومنها ما رواه الدارقطني أيضا من حديث الزهري ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه : لا يمس القرآن إلا طاهر ، ورواه في الغرائب من حديث إسحاق الطباع عن مالك مسندا ، ومن الطريق الأولى ، خرجه الطبراني في الكبير ، وابن عبد البر ، والبيهقي في الشعب .

وقد وردت أحاديث كثيرة بمنع قراءة القرآن للجنب والحائض ، منها : حديث عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب ، قال أبو عمر : رويناه من وجوه صحاح . ومنها حديث عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة ، عن علي رضي الله تعالى عنه ، يرفعه : لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة ، صححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان وأبو علي الطوسي والترمذي والحاكم والبغوي في شرح السنة ، وفي سؤالات الميموني قال شعبة : ليس أحد يحدث بحديث أجود من ذا ، وفي كامل ابن عدي عنه : لم يرو عمرو أحسن من هذا ، وكان شعبة يقول : هذا ثلث رأس مالي . وخرجه ابن الجارود في المنتقى زاد ابن حبان : قد يتوهم غير المتبحر في الحديث أن حديث عائشة رضي الله تعالى عنها كان يذكر الله تعالى على أحيانه يعارض هذا ، وليس كذلك ; لأنها أرادت الذكر الذي هو غير القرآن ; إذ القرآن يجوز أن يسمى ذكرا وكان لا يقرأ وهو جنب ، ويقرؤه في سائر الأحوال . ومنها حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يقرأ الحائض ولا الجنب ولا النفساء القرآن شيئا . رواه الدارقطني ، ثم البيهقي . وقال : إسناده صحيح . ومنها حديث أبي موسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا علي لا تقرأ القرآن وأنت جنب . وعن الأسود أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه بسند لا بأس به ، وإبراهيم : لا يقرأ الجنب ، وعن الشعبي وأبي وائل مثله بزيادة : والحائض .

والجواب عن الكتاب إلى هرقل فنحن نقول به لمصلحة الإبلاغ والإنذار ، وأنه لم يقصد به التلاوة .

وأما الجواب عن الآية بأن المراد بالمطهرين الملائكة كما قاله قتادة والربيع بن أنس وأنس بن مالك ومجاهد بن جبير وغيرهم ، ونقله السهيلي عن مالك ، وأكدوا هذا بقوله : ( المطهرين ) ، ولم يقل : المتطهرين إن تخصيص الملائكة من بين سائر المتطهرين على خلاف الأصل ، وكلهم مطهرون والمس والاطلاع عليه ، إنما هو لبعضهم دون الجميع .

التالي السابق


الخدمات العلمية