صفحة جزء
3192 ولكن ليطمئن قلبي


وفي بعض النسخ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي وهذه رواية أبي ذر، ووقع في رواية كريمة ولكن ليطمئن قلبي فقط وسقط كل ذلك للنسفي، فحديث أبي هريرة عند تكملة الباب الذي قبله، وأما الكرماني فإنه كذلك لم يذكر منه شيئا لا لفظ الباب ولا لفظ الترجمة.

قوله: " وإذ قال إبراهيم " يعني اذكر يا محمد حين قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى الآية، وذكر المفسرون لسؤال إبراهيم عليه السلام أسبابا منها:

[ ص: 266 ] أنه لما قال لنمرود لعنه الله ربي الذي يحيي ويميت أحب أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة فقال: رب أرني كيف تحي الموتى كما أن الإنسان يعلم الشيء ويتيقنه، ولكن يحب أن يراه عيانا.

ومنها أنه لما بشر بالخلة سأل ذلك؛ ليتيقن بالإجابة لصحة ما بشر به، قاله ابن مسعود، ومنها أنه إنما سأل ليشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها واتصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يجمع بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، ومنها ما روي عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن إبراهيم أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع فقال: رب أرني كيف تحي الموتى ليشاهد ذلك؛ لأن النفوس متشوقة إلى المعاينة، يصدقه الحديث الصحيح: "ليس الخبر كالمعاينة" ومنها ما قاله ابن دريد: مر إبراهيم بحوت نصفه في البر ونصفه في البحر والذي في البحر تأكله دواب البحر، والذي في البر تأكله دواب البر، فقال إبليس الخبيث: يا إبراهيم متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: رب أرني كيف تحي الموتى

" ليطمئن قلبي " ليسكن ويهتدي باليقين الذي يستيقنه، وقال ابن الحصار في شرح القصيدة: إنما سأل الله أن يحيي الموتى على يديه يدل على ذلك قوله تعالى: فصرهن إليك فأجابه على نحو ما سأل وعلم أن أحدا لا يقترح على الله مثل هذا فيجيبه بعين مطلوبه إلا عن رضا واصطفاء بقوله: أولم تؤمن بأنا اصطفيناك واتخذناك خليلا؟ قال بلى.

قوله: " كيف تحي الموتى " لفظ "كيف" اسم لدخول الجار عليه بلا تأويل، نحو قولهم: "على كيف تبيع الأحمرين" ويستعمل على وجهين، أحدهما أن يكون شرطا نحو: كيف تصنع أصنع، والآخر وهو الغالب أن يكون استفهاما، وهنا كذلك، وقال ابن عطية: السؤال بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل، فكيف هنا استفهام عن هيئة الإحياء، وهو متقرر.

قوله: " قال أولم تؤمن " يعني بإحياء الموتى، وإنما قال " أولم تؤمن " مع علمه بأنه أثبت الناس إيمانا ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين.

قوله: " قال بلى " أي بلى آمنت، وبلى إيجاب لما بعد النفي، قوله: " ولكن ليطمئن قلبي " أي ليزيد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال; لأن ظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين، وعن ابن عباس والحسن وآخرين "ليطمئن قلبي" للمشاهدة كأن نفسه طالبته برؤية ذلك، فإذا رآه اطمأن، وقد يعلم المرء الشيء من جهة ثم يطلب أن يعلمه من غيرها، وقيل: المعنى "ليطمئن قلبي" لأني إذا سألتك أجبتني، وقيل: كان سؤاله على طريق الأدب، يعني: أقدرني على إحياء الموتى ليطمئن قلبي عن هذه الأمنية، فأجابه الله إلى سؤاله، وقال: فخذ أربعة من الطير وهي الغرموق والطاوس والديك والحمامة، كذا روي عن ابن عباس، وعنه أنه أخذ وزا ورألا وهو فرخ النعامة وديكا وطاوسا، وقال مجاهد وعكرمة: كانت حمامة وديكا وطاوسا وغرابا، وروى مجاهد عن ابن عباس أن الطيور كانت طاوسا ونسرا وغرابا وحماما.

وفيه إشارة إلى أحوال الدنيا فالطاوس من الزينة، والنسر من امتداد الأمل، والغراب من الغربة، والحمام من النياحة، وقيل: موضع النسر البط، وموضع الحمام الديك.

والحكمة في اختيار هذه الأربعة هي أن الطاوس خان آدم - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، والبط خان يونس - صلى الله عليه وسلم - حين قطع يقطينه، والغراب خان نوحا - صلى الله عليه وسلم - حين أرسله ليكشف حال الماء الذي عم الأرض فاشتغل بالجيفة، والديك خان إلياس فسلب ثوبه، فلا جرم أن الله تعالى غير صوت الطاوس بدعاء آدم - صلى الله عليه وسلم - وسلب السكون على البط بدعاء يونس - صلى الله عليه وسلم - وجعل رزق الغراب الجيفة بدعاء نوح - صلى الله عليه وسلم - وألقى العداوة بين الديك بدعاء إلياس - صلى الله عليه وسلم - ولما أخذ إبراهيم هذه الطيور الأربعة قال الله تعالى له: فصرهن إليك أي: قطعهن كذا رواه مجاهد عن ابن عباس، ثم خلطهن، ثم اجعلها أربعة أجزاء، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا، ففعل إبراهيم مثل ما أمر به، ثم أمره الله أن يدعوهن، فدعاهن، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش والدم إلى الدم واللحم إلى اللحم والأجزاء من كل طير يقصد بعضها بعضا، حتى قام كل طير على حدته، وأتينه يمشين سعيا؛ ليكون أبلغ في الرؤية التي سألها، قال ابن عباس: وكان إبراهيم قد أخذ رءوسهن بيده، وجعل كل طير يجيء ليأخذ رأسه من يد إبراهيم، فإذا قدم إبراهيم غير رأسه يأباه، وإذا قدم رأسه تركب مع بقية جثته بحول الله تعالى وقوته; ولهذا قال الله واعلم أن الله عزيز لا يغلبه شيء ولا يمتنع منه شيء حكيم في أقواله وأفعاله.

فإن قلت: لم خص الطير من بين سائر الحيوانات؟

قلت: لأن للطير ما لسائر الحيوانات، وله زيادة الطيران، ولأن الطير هوائي ومائي وأرضي، فكانت الأعجوبة في إحيائه أكثر; ولذا قال عيسى - صلى الله عليه وسلم - أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فاختار الخفاش [ ص: 267 ] لاختصاصه بأشياء ليست في الطيور: الحيض والحبل والطيران في الظلمة وعدم الرؤية بالنهار، وله أسنان.

فإن قلت: لم خص أربعة من الطير؟

قلت: لأجل الاسطقسات الأربع التي بها قوام العالم. والجبال كانت أربعة من جبال الشام، وقيل: جبل لبنان وسينين وطور سينين وطور زيتا.

التالي السابق


الخدمات العلمية