صفحة جزء
3674 370 - حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا همام بن يحيى ، حدثنا قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما ، أخبرنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثهم عن ليلة أسري به : بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعا إذ أتاني آت فقد ، قال : وسمعته يقول : فشق ما بين هذه إلى هذه ، فقلت للجارود وهو إلى جنبي : ما يعني به ؟ قال : من ثغرة نحره إلى شعرته ، وسمعته يقول : من قصه إلى شعرته فاستخرج قلبي ، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا ، فغسل قلبي ، ثم حشي ، ثم أعيد ، ثم أتيت بدابة دون البغل ، وفوق الحمار أبيض ، فقال له الجارود : هو البراق يا أبا حمزة ؟ قال أنس : نعم ، يضع خطوه عند أقصى طرفه ، فحملت عليه ، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت ، فإذا فيها آدم ، فقال : هذا أبوك آدم فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد السلام ، ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح . ثم صعد حتى أتى السماء الثانية ، فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة قال : هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما ، فسلمت فردا ، ثم قالا : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة ، فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت إذا يوسف ، قال : هذا يوسف فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح .

ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : أوقد أرسل إليه قال : نعم ، قيل : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت إلى إدريس قال : هذا إدريس فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح .

ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد - صلى الله عليه وسلم - قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت ، فإذا هارون قال : هذا هارون ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح .

ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل: من هذا ؟ قال : جبريل ، قيل : من معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم ، قال : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت ، فإذا موسى قال : هذا موسى ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، فلما تجاوزت بكى قيل له : [ ص: 22 ] ما يبكيك ؟ قال : أبكي ; لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي ، ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه ، قال : نعم ، قال : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا إبراهيم قال : هذا أبوك ، فسلم عليه ، قال : فسلمت عليه ، فرد السلام ، قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ، ثم رفعت إلى سدرة المنتهى ، فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة قال : هذه سدرة المنتهى ، وإذا أربعة أنهار نهران باطنان ، ونهران ظاهران فقلت : ما هذان يا جبريل ؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات ، ثم رفع لي البيت المعمور ، ثم أتيت بإناء من خمر ، وإناء من لبن ، وإناء من عسل ، فأخذت اللبن فقال : هي الفطرة أنت عليها وأمتك .

ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم ، فرجعت فمررت على موسى فقال : بما أمرت ؟ قال : أمرت بخمسين صلاة كل يوم قال : إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم ، وإني والله قد جربت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ; فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فرجعت فوضع عني عشرا ، فرجعت إلى موسى ، فقال مثله ، فرجعت فوضع عني عشرا ، فرجعت إلى موسى ، فقال مثله ، فرجعت فوضع عني عشرا ، فرجعت إلى موسى ، فقال مثله ، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم ، فرجعت ، فقال مثله ، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم ، فرجعت إلى موسى ، فقال : بما أمرت قلت : أمرت بخمس صلوات كل يوم قال : إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم ، وإني قد جربت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك ، فاسأله التخفيف لأمتك قال : سألت ربي حتى استحييت ، ولكن أرضى وأسلم قال : فلما جاوزت نادى مناد أمضيت فريضتي ، وخففت عن عبادي .



مطابقته للترجمة ظاهرة والكلام فيه على أنواع .

الأول : في رجاله ، وهم خمسة : الأول : هدبة بضم الهاء وسكون الدال المهملة وبالباء الموحدة ابن خالد القيسي المصري أخو أمية ، ويقال : هداب ، وروى عنه مسلم أيضا ، مات سنة خمس ، أو ست ، أو سبع ، أو ثمان وثلاثين ومائتين .

( الثاني ) : همام بتشديد الميم الأولى ابن يحيى بن دينار العوذي البصري ، مات سنة ثلاث وستين ومائة في رمضان .

( الثالث ) : قتادة بن دعامة السدوسي الأعمى البصري التابعي .

( الرابع ) : أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه .

( الخامس ) : مالك بن صعصعة بفتح الصادين المهملتين وسكون العين المهملة الأولى المدني الأنصاري البصري .

( النوع الثاني في لطائف إسناده ) ، ( منها ) أن هؤلاء كلهم بصريون ( ومنها ) أن فيه رواية الصحابي عن الصحابي ، ( ومنها ) أن مالك بن صعصعة ليس له في البخاري ، ولا في غيره سوى هذا الحديث ، ولا يعرف روى عنه إلا أنس بن مالك ، ( ومنها ) أن قوله : " عن أنس " بالعنعنة ، وقد مضى في أول بدء الخلق من وجه آخر ، عن قتادة حدثنا أنس رضي الله تعالى عنه .

( النوع الثالث ) : أنه روى ما يتعلق بالإسراء في مواضع ، ( منها ) في أول كتاب الصلاة من حديث ابن شهاب ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن أبي ذر .

( ومنها ) في بدء الخلق في باب ذكر الملائكة من حديث هدبة ، عن همام ، عن قتادة ، عن أنس ، ومن حديث خليفة عن يزيد بن زريع ، عن سعيد ، وهشام كلاهما عن قتادة ، عن أنس ، [ ص: 23 ] عن مالك بن صعصعة ( ومنها ) هاهنا عن هدبة أيضا ، فانظر إلى تفاوت ما بين روايتي هدبة من زيادة ونقصان .

( النوع الرابع ) في أن مسلما أخرجه في الإيمان عن موسى ، وأخرجه الترمذي في التفسير عن محمد بن بشار ، وعن ابن أبي عدي ببعضه ، وقال : وفي الحديث قصة ، وأخرجه النسائي في الصلاة عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي بطوله ، وعن إسماعيل بن مسعود وطول فيه .

( النوع الخامس ) في معناه ، فقوله : " أن نبي الله " ويروى : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " . قوله : " حدثهم " ، ويروى حدثني بإفراد الضمير المنصوب . قوله : " عن ليلة أسري به " على صيغة المجهول وهي صفة لليلة ، والضمير فيه يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا رواية الكشميهني بزيادة لفظة به ، وفي رواية غيره : أسرى دون لفظ به .

قوله : " بينا أنا " قد ذكرنا غير مرة أن بين ظرف زيدت فيه الألف ، وربما تزاد فيه الميم أيضا ، ويضاف إلى جملة ، وهي مبتدأ ، وفي الحطيم خبره : أي كائن أو مستقر فيه ، والمراد بالحطيم الحجر هنا على الأصح ، واستبعد قول من قال : المراد به ما بين الركن والمقام ، أو بين زمزم والحجر ، وسمي الحطيم ; لأنه حطم من جداره فلم يسو ببناء الكعبة ، وترك خارجا منه ، وقال النضر : إنما سمي الحجر حطيما ; لأن البيت رفع وترك ذلك محطوما ، وكذلك قال الخطابي . قوله : " وربما قال في الحجر " هو شك من قتادة . قوله : " مضطجعا " نصب على الحال من قوله : " أنا " ، وفي رواية بين النائم واليقظان .

( فإن قلت ) : في رواية شريك التي تأتي في التوحيد في آخر الحديث ، فلما استيقظت ( قلت ) : إن كانت القصة متعددة فلا إشكال ، وإلا فالمعنى أفقت مما كنت فيه من شغل البال بمشاهدة الملكوت . ( فإن قلت ) : قد تقدم في أول بدء الخلق بينا أنا عند البيت ، ووقع في رواية الزهري ، عن أنس ، عن أبي ذر : فرج سقف بيتي وأنا بمكة ، وفي رواية الواقدي بأسانيده : أنه أسري به من شعب أبي طالب ، وفي حديث أم هانئ عند الطبراني أنه بات في بيتها ، قالت : ففقدته من الليل ، فقال : إن جبريل عليه السلام أتاني .

( قلت ) : الجمع بين هذه الأقوال أنه - صلى الله عليه تعالى وسلم - نام في بيت أم هانئ ، وبيتها عند شعب أبي طالب ، ففرج سقف بيته ، وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه ، فنزل منه الملك ، فأخرجه من البيت إلى المسجد ، فكان به مضطجعا ، وبه أثر النعاس ، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد ، فأركبه البراق .

قوله : " إذ أتاني " جواب بينا . قوله : " آت " هو جبريل عليه السلام ، وأصله أتى فأعل إعلال قاض . قوله : " فقد " بالقاف وتشديد الدال : أي فشق ، وهو المستفاد من قوله : " قال وسمعته يقول فشق " ، وفاعل قال : قتادة ، والمقول عنه أنس ، وتوضحه رواية أحمد : قال قتادة ، وربما سمعت أنسا يقول فشق .

قوله : " فقلت للجارود " القائل قتادة ، والجارود بالجيم وضم الراء وبالدال المهملة ابن أبي سبرة بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة وبالراء الهذلي التابعي صاحب أنس ، وقد أخرج له أبو داود من روايته عن أنس حديثا غير هذا .

قوله : " من ثغرة " بضم الثاء المثلثة وسكون الغين المعجمة ، وهي ثغرة النحر التي بين الترقوتين . قوله : " إلى شعرته " بكسر الشين المعجمة وهو شعر العانة . قوله : " من قصه " بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة وهو رأس الصدر .

قوله : " إلى شعرته "، وقال الكرماني : ويروى بدل الشعرة الثنة بضم الثاء المثلثة وتشديد النون ، وهي ما بين السرة والعانة ، وقد استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة المعراج ، وقال : إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد ، ورد بأنه ثبت شق الصدر أيضا عند البعثة ، ثم وقع أيضا عند إرادة العروج إلى السماء ، ولا إنكار في ذلك ; لكونه من الأمور الخارقة للعادة لصلاحية القدرة ، وإظهار المعجزة ، ثم الحكمة في الأول وهو في حال الطفولية ; لينشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان ، ولهذا قال في حديث أنس عند مسلم : " هذا حظ الشيطان منك " وذلك العلقة التي أخرجها .

( وفي الثاني ) أعني عند البعث ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال ( وفي الثالث ) أعني عند العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة . قوله : " بطست " بفتح الطاء وكسرها وسكون السين المهملة وبالتاء المثناة من فوق وقد تحذف وهو الأكثر ، وقد يؤنث باعتبار الآنية ، وإنما خص الطست ; لكونه أشهر آلات الغسل عرفا ، وخص الذهب ; لكونه الأعلى أواني الحسية وأصفاها ; ولأن للذهب خواص ليست لغيره ، وهي أنه لا تأكله النار ، ولا يبليه التراب ، ولا يلحقه الصدى ، وهو أثقل الجواهر فناسب ثقل الوحي .

( فإن قلت ) : استعمال الذهب حرام للرجال ( قلت ) : لعل ذلك قبل التحريم ، وقيل : إنه مخصوص بأحوال الدنيا ، وما وقع في تلك الليلة يلحق بأحكام الآخرة ; لأن الغالب أنه من أحوال [ ص: 24 ] الغيب . قوله : " مملوءة " صفة الطست ، وقد ذكرنا أنه يؤنث باعتبار الآنية . قوله : " إيمانا " نصب على التمييز ، وزاد في بدء الخلق : " وحكمة " وقال النووي : معناه أن الطست كان فيه شيء تحصل به زيادة في كمال الإيمان ، وكمال الحكمة .

( فإن قلت ) : الملء المذكور حقيقة أم مجاز ؟ ( قلت ) : يجوز أن يكون حقيقة ; لأن تجسد المعاني جائز كما جاء في وزن الأعمال يوم القيامة ، وقال البيضاوي : لعل ذلك من باب التمثيل إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرا ، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط ، وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس .

قوله : " فغسل قلبي " ، وفي رواية لمسلم : " فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم " ، وفيه فضيلة ماء زمزم على جميع المياه . ( فإن قلت ) : لم لم يغسله بماء الجنة ؟ ( قلت ) : لما اجتمع في زمزم من كون أصل مائها من الجنة ، ثم استقر في الأرض ، فأريد بذلك بقاء بركة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في الأرض ، ويقال : لبقاء بركة إسماعيل عليه السلام فإنه ركضه .

قوله : " حشي " على صيغة المجهول ، والضمير فيه يرجع إلى القلب ، قوله : " ثم أعيد " : أي قلبه إلى حالته الأولى . قوله : " ثم أتيت " على صيغة المجهول أيضا . ( فإن قلت ) : ما الحكمة في أنه أتي بدابة فلم لم تطوله الأرض ؟ ( قلت ) : إنما فعل ذلك تأنيسا له بالعادة في مقام خرق العادة ، وأيضا أن الملك إذا طلب من يحبه يبعث إليه مركوبا ، ووقع في خاطري من الفيض الإلهي أن طي الأرض يشترك فيه الأولياء ، بخلاف المركوب الذي يقطع المسافات البعيدة براكبه أسرع من طرفة العين ، فإنه مخصوص بالأنبياء عليهم السلام .

قوله : " دون البغل وفوق الحمار " ، الحكمة في كون هذه الدابة بهذه الصفة الإشارة إلى الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة ، أو باعتبار أن الركوب كان في سلم وأمن لا في حرب وخوف . قوله : " أبيض " صفة دابة ، والتذكير باعتبار أنها البراق ، أو باعتبار أنها المركوب ، وكونه أبيض باعتبار أنه أصل الألوان ، أو باعتبار أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب البياض . قوله : " فقال له " : أي لأنس ، والجارود فاعل قال . قوله : " هو البراق " : أي الدابة المذكورة المتصفة بالصفة المذكورة هو البراق بهمزة مقدرة ، وتذكير الضمير باعتبار لفظ البراق ، وإنما قال الجارود : هو البراق ; لأن أنسا رضي الله تعالى عنه لم يتلفظ بلفظ البراق في رواية قتادة عنه . قوله : " يا أبا حمزة " خطاب لأنس ; لأنه كنيته . قوله : " يضع خطوه " بفتح الخاء المعجمة وهو المرة ، وبالضم بعد ما بين القدمين في المشي . قوله : " طرفه " بفتح الطاء المهملة وسكون الراء وبالفاء ، وهو نظر عينه ، فإنه يضع خطوه عند منتهى ما يرى ببصره ، وهذا يدل على أنه كان يمشي على وجه الأرض ، ولكن بالمشي الموصوف .

وروى ابن سعد عن الواقدي بأسانيده : له جناحان ، فهذا يدل على أنه يطير بين السماء والأرض ، ويدل على وصفه بالمشي ما روي عن ابن مسعود عند أبي يعلى والبزار : إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه ، فإذا هبط ارتفعت يداه ، وعن ابن عباس رواه الثعلبي بسند ضعيف : له خد كخد الإنسان ، وعرف كالفرس ، وقوائم كالإبل ، وأظلاف وذنب كالبقر ، وكان صدره ياقوتة حمراء .

( قلت ) : البراق بضم الباء الموحدة مشتق من البريق وهو اللمعان ، سمي به لنصوع لونه وشدة بريقه ، أو هو مشتق من البرق ، سمي به لشدة حركته ، وسرعة مشيه كالبرق ، وقال ابن أبي حمزة : خص البراق بذلك ; إشارة إلى الاختصاص به ، لأنه لم ينقل أن أحدا ملكه بخلاف غير جنسه من الدواب .

( قلت ) : هذا يدل على أن غير نبينا - صلى الله عليه وسلم - لم يركب البراق ، وبه قال ابن دحية أيضا ، ولكن رد هذا بما رواه الترمذي من رواية قتادة ، عن أنس رضي الله تعالى عنه : " أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ليلة أسري به أتي بالبراق مسرجا ملجما ، فاستصعب عليه ، فقال له جبريل عليه السلام : ما حملك على هذا ؟ فوالله ما ركبك خلق قط أكرم على الله منه ، قال : فارفض عرقا " ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وصححه ابن حبان ، وفي رواية النسائي ، وابن مردويه : " وكانت تسخر للأنبياء عليهم السلام قبله " : أي كانت الدابة التي تسمى بالبراق تسخر للأنبياء قبل النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ونحوه في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق ، وهذا يصرح على أن البراق كان معدا لركوب الأنبياء ، وجاء أن إبراهيم عليه السلام لما كان يريد زيارة هاجر وإسماعيل عليهما السلام ، وهما في مكة كان يركب البراق .

ثم الحكمة في نفرته مختلف فيها ، فقال ابن بطال : بعد عهده بالأنبياء ، وطول الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وقال غيره : قال جبريل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين شمس به البراق : لعلك يا محمد مسست الصفراء اليوم ، يعني الذهب ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ما مسها إلا أنه مر بها ، فقال : تبا لمن يعبدك من دون الله ، وما شمس إلا لذلك .

[ ص: 25 ] وقال ابن التين إنما استصعب البراق تيها وزهوا بركوب النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، وأراد جبريل استنطاقه ، فلذلك خجل وارفض عرقا من ذلك ، وقريب من ذلك رجفة الجبل به ، حتى قال له : " اثبت ; فإنما عليك نبي ، وصديق وشهيد " ، فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب ، وسمع العبد الضعيف من مشايخه الثقات أنه إنما شمس به ; ليعده الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بالركوب عليه يوم القيامة ، فلما وعده بذلك قر ، وذلك لأنه جاء في التفسير في قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى أن الله أعد له في الجنة أربعين ألف براق ترتع في مروج الجنة .

قوله : " فحملت عليه " على صيغة المجهول : أي على البراق ، وذكر في شرف المصطفى كان الذي أمسك بركابه جبريل عليه السلام ، وبزمام البراق ميكائيل عليه السلام .

( فإن قلت ) : لما ركب النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - البراق ما فعل جبريل عليه السلام ؟ ( قلت ) : وقع في حديث حذيفة عند أحمد قال : أتي رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بالبراق ، فلم يزل ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس ، قيل : هذا لم يسنده حذيفة إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، فيحتمل أنه قاله عن اجتهاد ، ويحتمل أن يكون جبريل رافقه في السير لا في الركوب .

وقال ابن دحية وغيره : معناه وجبريل قائد أو سائق أو دليل قال : وإنما جزمنا بذلك ; لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فلا مدخل لغيره فيها .

ورد عليه ما قاله بما روى ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود أن جبريل عليه السلام حمله على البراق رديفا له ، وفي رواية الحارث في مسنده : " أتي بالبراق فركبه خلف جبريل عليه السلام ، فسار بهما " ، فهذا صريح في ركوبه معه والله أعلم .

قوله : " فانطلق بي جبريل " ، وفي روايته المتقدمة : " فانطلقت مع جبريل عليه السلام " ، ولا مغايرة بينهما ، وفي حديث أبي ذر في أول الصلاة : " ثم أخذ بيدي فعرج بي " ، وظاهر هذا يدل على أن جبريل كان دليلا له فيما قصد له .

( قلت ) : كونه دليلا لا ينافي ركوبه معه . قوله : " حتى أتى السماء الدنيا " ظاهره يدل على أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء ، وتمسك به من زعم أن المعراج كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس ، وكان في ليلة المعراج على معراج ، وهو سلم ، ويدل عليه ما رواه ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل من حديث طويل ، وفيه فإذا أنا بدابة كالبغل مضطرب الأذنين يقال له : البراق ، وكانت الأنبياء تركبه قبلي ، فركبته ، ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس ، فصليت ، ثم أتيت بالمعراج ، وفي رواية ابن إسحاق : " فأصعدني صاحبي فيه حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء " . . الحديث ، وفي رواية كعب : " فوضعت له مرقاة من فضة ، ومرقاة من ذهب حتى عرج هو وجبريل " .

وفي شرف المصطفى في حديث أبي سعيد : " أنه أتي بالمعراج من جنة الفردوس ، وأنه منضد باللؤلؤ ، وعن يمينه ملائكة ، وعن يساره ملائكة " ، وفي رواية ثابت عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس ، فربطته بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء عليهم السلام ، ثم دخلت المسجد ، فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت " فذكر القصة قال : ثم عرج بي إلى السماء .

( فإن قلت ) : أنكر حذيفة رواية ثابت فربطته بالحلقة ، فروى أحمد والترمذي من حديث حذيفة قال : تحدثون أنه ربطه ، أخاف أن يفر منه وقد سخر له عالم الغيب والشهادة ؟ ! ( قلت ) : قال البيهقي : المثبت مقدم على النافي ; لأن المثبت له زيادة علم على من نفى فهو أولى بالقبول ، وروى البزار من حديث بريدة لما كان ليلة أسري به جاء جبريل الصخرة التي ببيت المقدس ، فوضع إصبعه فيها فخرقها ، فشد بها البراق .

( فإن قلت ) : هل للباب الذي دخل منه جبريل ، والنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - من أبواب سماء الدنيا اسم ؟ .

( قلت ) : نعم ، روى البيهقي حتى أتى إلى باب من أبواب السماء يقال له : باب الحفظة ، وعليه ملك يقال له : إسماعيل تحت يده اثنا عشر ألف ملك . قوله : " فاستفتح " : أي طلب فتح الباب . قوله : " فقيل : من هذا ؟ " : أي قال قائل من داخل الباب : من هذا الذي يستفتح الباب . قوله : " قيل جبريل " : أي قال قائل من خارج الباب ممن كان مع جبريل والنبي عليهما السلام : هو جبريل عليه السلام .

قوله : " من معك " يدل على أنهم أحسوا معه برفيق ، وإلا لكان السؤال بلفظ : أمعك أحد . ( فإن قلت ) : من أين لهم هذا الإحساس ؟ ( قلت ) : قال بعضهم : يحتمل أن يكون بمشاهدة لكون السماء شفافة ، وفيه نظر ; لأن الأمر لو كان كذلك لما قالوا : من هذا حين استفتح جبريل عليه السلام ؟ والأوجه أن يقال : إن إحساسهم بذلك كان بزيادة أنوار ظهرت لهم ، دلت على أن جبريل لم يكن وحده .

قوله : " قال محمد " : أي قال جبريل : معي محمد ، وفيه دليل على أن الاسم أولى ، وأوضح في التوضيح من [ ص: 26 ] الكنية . قوله : " قيل : وقد أرسل إليه " : أي هل أرسل إليه ليعرج به إلى السماء ؟ الحكمة في قولهم هذا : هي أن الله أراد إطلاع نبيه على أنه معروف عند الملأ الأعلى; لأنهم قالوا : أرسل إليه ، فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع ، وإلا لكانوا يقولون : من محمد ؟ مثلا . قوله : " مرحبا به " : أي أصاب رحبا وسعة ، وكنى بذلك عن الانشراح ، واستنبط منه بعضهم جواز رد السلام بغير لفظ السلام ، ورد عليه بأن هذا لم يكن ردا للسلام ، فإنه كان قبل أن يفتح الباب والسلام ، ورده بعد ذلك .

قوله : " فنعم المجيء جاء " كلمة نعم للمدح ، والمخصوص بالمدح محذوف ، وفيه تقديم وتأخير تقديره : جاء فنعم المجيء مجيئه في خير وقت إلى خير أمة . قوله : " فلما خلصت " بفتح اللام : أي وصلت . قوله : " فإذا فيها آدم " ، كلمة إذا للمفاجأة ، والضمير في فيها يرجع إلى السماء الدنيا . قوله : " بالابن الصالح " ذكر الابن لافتخاره بأبوة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، ووصفه بالصالح ; لأن الصالح صفة تشمل خلال الخير ، ولذلك ذكره كل من الأنبياء الذين لاقاهم في السماوات ، والصالح هو الذي يقوم بما يلزمه من حقوق الله وحقوق العباد . قوله : " وهما ابنا خالة " : أي يحيى وعيسى ; لأن أم يحيى إيشاع بنت فاقوذا أخت حنة أم مريم ، وبيان ذلك أن زكريا عليه السلام ، وعمران بن ماثان كانا متزوجين بأختين إحداهما عند زكريا ، وهي إيشاع بنت فاقوذا ، والأخرى عند عمران وهي حنة بنت فاقوذا أم مريم ، فولدت إيشاع يحيى ، وولدت حنة مريم فتكون إيشاع خالة مريم ، وتكون حنة خالة يحيى ، فيطلق عليهما أنهما ابنا خالة بهذا الاعتبار ، ويروى ابنا الخالة بالألف واللام .

وفي رواية مسلم مثل رواية البخاري في منازل الأنبياء المذكورين فيه ، غير أن في رواية الزهري ، عن أنس ، عن أبي ذر أنه لم يثبت أسماءهم ، وقال فيه : " وإبراهيم في السماء السادسة " ، ووقع في رواية شريك عن أنس أن إدريس في الثالثة ، وهارون في الرابعة ، ورواية من ضبط أولى ، ولا سيما مع اتفاق قتادة وثابت ، فقتادة عند البخاري ، وثابت عند مسلم ، ووافقهما يزيد بن أبي مالك عن أنس ، إلا أنه خالف في إدريس ، وهارون ، فقال : هارون في الرابعة ، وإدريس في الخامسة ، ووافقهم أبو سعيد ، إلا أن في روايته يوسف في الثانية وعيسى ويحيى في الثالثة ، والأول أثبت .

( فإن قلت ) : كيف رأى - صلى الله تعالى عليه وسلم - هؤلاء الأنبياء عليهم السلام في السماوات مع أن أجسادهم هي في قبورهم في الأرض ؟ ( قلت ) : أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم ، ويقال : أحضرت أجسادهم لملاقاة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - تلك الليلة تشريفا وتكريما ، ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم عن أنس ، وفيه : " وبعث له آدم فمن دونه من الأنبياء فأمهم " .

قوله : " فإذا يوسف " ، وزاد مسلم في روايته عن ثابت عن أنس : " فإذا هو قد أعطي شطر الحسن " ، وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي ، وأبي هريرة عند ابن عائذ ، والطبري : " فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله قد فضل الناس بالحسن ، كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب" . ( فإن قلت ) : هذا يدل على أن يوسف كان أحسن من جميع الناس . ( قلت ) : روى الترمذي من حديث أنس : " ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت ، وكان نبيكم أحسنهم صوتا ، وأحسنهم وجها " ، فعلى هذا حمل ما في حديث المعراج على غير النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وحمله بعضهم على أن المراد أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، وفيه ما فيه .

قوله : " هذا إدريس فسلم عليه " . ( فإن قلت ) : قال بعضهم : إن إدريس في الجنة يدل عليه قوله تعالى : ورفعناه مكانا عليا قيل : المكان العلي هو الجنة ، ( قلت ) : سمعت بعض مشايخي الثقات أن إدريس لما أخبر بعروج النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - استأذن ربه أن يستقبله ، فأذن له فاستقبله ، ولقيه في السماء الرابعة . ( فإن قلت ) : كيف قال إدريس : مرحبا بالأخ الصالح ، والحال أنه أب من آباء النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، وأنه جد أعلى لنوح عليه السلام ; لأن نوحا هو ابن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس عليه السلام ؟ ( قلت ) : قد قيل عن إدريس أنه إلياس ، وأنه ليس بجد لنوح عليه السلام ، وقيل : ليس فيه ما يمنع أن يكون إدريس أبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما قال له : بالأخ الصالح ; تأدبا ، وهو أخ ، وإن كان أبا فالأنبياء أخوة . قوله : " فلما تجاوزت " : أي عديت موسى عليه السلام . قوله : " بكى " : أي موسى ، وكان بكاؤه حزنا على قومه وقصور عددهم ، وعلى فوات الفضل العظيم منهم ، ويقال : لم يكن بكاء موسى حسدا - معاذ الله - فإن الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد المؤمنين ، فكيف بمن اصطفاه الله ! بل كان آسفا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة بسبب [ ص: 27 ] ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزمة لتنقيص أجره ; لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه ، ولهذا كان من اتبعه في العدد دون من اتبع نبينا - صلى الله عليه وسلم - مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة . قوله : " لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر من يدخلها من أمتي " . قوله : " غلاما " ليس للتحقير والاستصغار به ، بل إنما هو لتعظيم منة الله على رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - من غير طول العمر ، ويقال : بل قال ذلك على سبيل التنويه بقدرة الله ، وعظيم كرمه إذ أعطى لمن كان في ذلك السن ما لم يعطه أحدا قبله ممن هو أسن منه .

وفي هذا الموضع عبارات وقعت في أحاديث ، ففي رواية شريك عن أنس : " لم أظن أحدا يرفع علي " ، وفي حديث أبي سعيد قال موسى : " يزعم بنو إسرائيل أني أكرم على الله ، وهذا أكرم على الله مني " ، زاد الأموي في روايته : ولو كان هذا وحده هان علي ، ولكن معه أمته ، وهم أفضل الأمم عند الله ، وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه " أنه مر بموسى عليه السلام يرفع صوته ، فيقول : أكرمته وفضلته ، فقال جبريل عليه السلام : هذا موسى " ، قلت : ومن يعاتب قال : يعاتب ربه فيك قلت : ويرفع صوته على ربه قال : إن الله قد عرف له حدته ، وفي حديث ابن مسعود عند الحارث ، وأبي يعلى ، والبزار : " سمعت صوتا وتذمرا ، فسألت جبريل عليه السلام ، فقال : هذا موسى " قلت : على من تذمره ؟ قال : على ربه ، قلت : على ربه ؟ قال : إنه يعرف ذلك منه .

( فإن قلت ) : ما وجه قوله : " لما أتى السماء السادسة فإذا موسى " ، وقد قال في حديث آخر : " رأيت موسى ليلة الإسراء وهو يصلي في قبره " ؟ ( قلت ) : لا إشكال في ذلك على قول من يقول بتعدد الإسراء ، وعلى قول من يقول بأن الإسراء مرة واحدة ، فالجواب : أن موسى عليه السلام صعد إلى السماء السادسة بعد أن رآه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في قبره حتى اجتمع به هناك ، وما ذلك على الله بعزيز ، ولا على موسى بكثير .

قوله : " فإذا إبراهيم عليه السلام وهو في السماء السابعة " على رواية البخاري ، وعلى رواية مسلم : " في السماء السادسة " ، وفي رواية الزهري عن أنس حيث قال : " وجد آدم في السماء الدنيا ، وإبراهيم في السماء السادسة " ، وكذا في رواية البخاري في أول كتاب الصلاة في السماء السادسة ، وأجيب بأنه لا منافاة ; لاحتمال أن يكون في السادسة ، وصعد قبل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلى السابعة ، وقيل : يحتمل أنه جاء إلى السماء السادسة استقبالا ، وهو في السابعة على سبيل التوطن ، وعلى تعدد الإسراء لا إشكال .

( فإن قلت ) : ما الحكمة في الاقتصار على هؤلاء الأنبياء المذكورين فيه دون غيرهم منهم ؟ ( قلت ) : للإشارة إلى ما سيقع له - صلى الله تعالى عليه وسلم - مع قومه مع نظير ما وقع لكل منهم ، ففي آدم ما وقع له من الخروج من الجنة ، فكذلك في النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وقع له من الخروج من مكة ، وفي عيسى ، ويحيى على ما وقع له أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم في البغي عليه ، وفي يوسف على ما وقع له مع إخوته ، فكذلك النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ما وقع له من قريش في نصبهم الحرب له ، وفي إدريس على رفيع منزلته عند الله ، فكذلك النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، وفي هارون على أن قومه رجعوا إلى محبته بعد أن آذوه ، فكذلك النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فأكثر قومه رجعوا إليه بعد العداوة ، وفي موسى على ما وقع له من معالجة قومه ، فكذلك النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عالج قريشا وغيرهم أشد المعالجة ، وفي إبراهيم عليه السلام في استناده إلى البيت المعمور بما ختم الله له في آخر عمره من إقامة مناسك الحج ، وتعظيم البيت ، فكذلك النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - أقام مناسك الحج ، وعظم البيت ، وأمر بتعظيمه ، وقيل : الحكمة فيه أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أمروا بملاقاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج ، فمنهم من أدركه في أول الوهلة ، ومنهم من تأخر فلحق ، ومنهم من فاته .

( فإن قلت ) : ما الحكمة في كون كل منهم في مكانه المذكور فيه ؟ ( قلت ) : أما آدم فإنه أول الأنبياء ، وأول الآباء ، وهو الأصل ، فكان أولا في السماء الأولى ، وأما عيسى عليه السلام فإنه أقرب الأنبياء عهدا من نبينا - صلى الله عليه وسلم - ويليه يوسف عليه السلام ; لأن أمة محمد تدخل الجنة على صورته .

وأما إدريس فلقوله تعالى : ورفعناه مكانا عليا والسماء الرابعة من السبع وسط معتدل ، وأما هارون فلقربه من أخيه موسى ، وموسى أرفع منه لفضل كلام الله ، وأما إبراهيم فلأنه الأب الأخير فناسب أن يتجدد للنبي - صلى الله عليه وسلم - بلقيه أنسا; لتوجهه بعده إلى عالم آخر ، والله أعلم .

قوله : " ثم رفعت إلى سدرة المنتهى " الرفع تقريبك الشيء ، وقد قيل في قوله تعالى : وفرش مرفوعة [ ص: 28 ] أي مقربة لهم ، وكأنه أراد أن سدرة المنتهى استبينت له كل الاستبانة حتى اطلع عليها كل الاطلاع ، بمثابة الشيء المقرب إليه ، وفي معناه : رفع لي البيت المعمور ، ورفع لي بيت المقدس ، وسميت سدرة المنتهى ; لأن علم الملائكة ينتهي إليها ، ولم يتجاوزها أحد إلا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ورفعت على صيغة المجهول للمتكلم هذا ، هكذا رواية الأكثرين ، وفي رواية الكشميهني : رفعت بفتح العين وسكونه التاء : أي رفعت السدرة لي : أي لأجلي ، وفي رواية الأكثرين صلة رفعت كلمة إلى ، وفي رواية الكشميهني حرف الجر ، وهو اللام . قوله : " فإذا نبقها " ، كلمة إذا للمفاجأة ، والنبق بفتح النون وكسر الباء الموحدة وبسكونها أيضا وهو جمع نبقة ، وهو حمل السدر .

( فإن قلت ) : لم اختيرت السدرة دون غيرها ؟ ( قلت ) : لأن فيها ثلاثة أوصاف : ظل ممدود ، وطعام لذيذ ، ورائحة زكية . قوله : " مثل قلال هجر " قال الخطابي : القلال بكسر القاف جمع قلة بالضم وتشديد اللام ، وهي الجرار ، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال ، وكانت معروفة عند المخاطبين ، فلذلك وقع التمثيل بها ، قال : وهي التي وقع حد الماء الكثير بها في قوله : " إذا بلغ الماء قلتين " ، ويقال : القلة جرة كبيرة تسع قربتين وأكثر ، وهجر بفتح الهاء والجيم ، وهو اسم بلد بقرب مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - مذكر منصرف ، وهو غير هجر البحرين ، وقيل : غير منصرف للعلمية والتأنيث ، ( قلت ) : إذا جعل علما للبلدة يكون غير منصرف .

قوله : " الفيلة " بكسر الفاء وفتح الياء جمع الفيل ، ووقع في بدء الخلق مثل آذان الفيول ، وهو جمع فيل أيضا . قوله : " وإذا أربعة أنهار " ، وفي بدء الخلق : " فإذا في أصلها " : أي في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار ، وفي رواية مسلم : " يخرج من أصلها" . ( فإن قلت ) : وقع في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : " أربعة أنهار من الجنة : النيل ، والفرات ، وسيحان ، وجيحان " ( قلت ) : أجيب بأنه يحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة ، والأنهار تخرج من أصلها ، فيصح أنها من الجنة . قوله : " نهران باطنان " قال مقاتل : هو السلسبيل ، والكوثر . والباطن أجل من الظاهر ; لأن الباطن جعل في دار البقاء ، والظاهر جعل في دار الفناء .

قوله : " وأما الظاهران فالنيل والفرات " ، النيل نهر مصر ، والفرات نهر بغداد بالجانب الغربي منها ، كذا قاله الكرماني ، وليس كذلك على ما نذكره الآن ، وهو بالتاء الممدودة في الخط في حالتي الوصل والوقف ، وقال الطيبي : النيل والفرات يخرجان من أصلها ، ثم يسيران حيث أراد الله تعالى ، ثم يخرجان من الأرض ويسيران فيها ، وهذا لا يمنعه شرع ولا عقل ، وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه ، قال القاضي : يدل هذا على أن أصل السدرة في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها ، ( قلت ) : لا يلزم من خروجهما من أصلها أن يكون أصلها في الأرض ، بل الأوجه ما ذكرناه ، ( قلت ) : اتفقوا على أن مبدأ النيل من جبال القمر بالإضافة ، وبضم القاف وسكون الميم ، ويقال بفتح القاف والميم تشبيها للقمر في بياضه ينبع من اثني عشر عينا ، ثم ينبعث منها عشرة أنهار : أحدها نيل مصر ، وهو أول العيون يجري على بلاد الحبشة في قفار ومفاوز ، وقال ابن الأثير : ليس في الدنيا نهر أطول منه ; لأنه مسيرة شهرين في الإسلام ، وشهرين في النوبة ، وأربعة أشهر في الخراب ، والفرات اسم نهر بالكوفة قاله الجوهري .

واختلفوا في مخرجه على قولين : أحدهما أنه من جبل ببلد الروم يقال له : أفردخش بينه وبين قاليقلا مسيرة يوم ، والثاني : أنه من أطراف أرمينية . قوله : " ثم رفع لي البيت المعمور " ، وزاد الكشميهني : " يدخله كل يوم سبعون ألف ملك " ، وقد مر معنى رفع عن قريب ، قال الله تعالى : والبيت المعمور وروي عن عطاء عن ابن عباس أنه قال : اسمه الضراح بضم الضاد المعجمة ، وفي آخره حاء مهملة ، قال الصغاني : ويقال له الضريح أيضا .

واختلف العلماء في أي موضع هو ؟ فقيل : في السماء الدنيا ، وهو قول ابن عباس ومجاهد والربيع ، وقيل : في السماء السادسة ، روي عن علي رضي الله تعالى عنه ، وقيل : في السماء السابعة قاله مجاهد والضحاك ، وهو قول البخاري أيضا ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه ، ولا تنافي في هذه الأقوال ; لأنه يحتمل أن الله تعالى رفعه ليلة المعراج إلى السماء السادسة ، ثم إلى السابعة ; تعظيما للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - حتى يراه في أماكن ، ثم أعاده إلى السماء الدنيا .

قوله : " ثم أتيت بإناء " على صيغة المجهول . قوله : " هي الفطرة أنت عليها " ، ويروى : " هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك " ، قال القرطبي : يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة ; لكونه أول شيء يدخل بطن المولود ، ويشق أمعاءه ، والسر في ميل النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إليه دون غيره ; لكونه كان مألوفا . ( فإن قلت ) : وقع في حديث أبي هريرة عند ابن عائذ في حديث المعراج بعد ذكر إبراهيم قال : ثم انطلقنا فإذا نحن [ ص: 29 ] بثلاثة آنية مغطاة ، فقال لي جبريل : يا محمد ، ألا تشرب مما سقاك ربك ، فتناولت أحدها فإذا هو عسل ، فشربت منه قليلا ، ثم تناولت الآخر فإذا هو لبن فشربت منه حتى رويت ، فقال : ألا تشرب من الثالث ؟ قلت : قد رويت قال : وفقك الله .

وفي رواية البزار من هذا الوجه : أن الثالث كان خمرا ، لكن وقع عنده أن ذلك كان ببيت المقدس ، وأن الأول كان ماء ، ولم يذكر العسل ، وفي حديث ابن عباس عند أحمد : " فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلي ، فلما انصرف جيء بقدحين في أحدهما لبن ، وفي الآخر عسل ، فأخذ اللبن " الحديث ، ووقع في رواية مسلم من طريق ثابت ، عن أنس أيضا إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج ، ولفظه : " ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر ، وإناء من لبن ، فأخذت اللبن ، فقال جبريل : أخذت الفطرة ، ثم عرج إلى السماء " .

وفي حديث شداد بن أوس : " فصليت في المسجد حيث شاء الله ، وأخذني من العطش أشد ما أخذني ، فأتيت بإناءين : أحدهما لبن ، والآخر عسل ، فعدلت بينهما ، ثم هداني الله فأخذت اللبن ، فقال شيخ بين يدي - يعني لجبريل - : أخذ صاحبك الفطرة " ، وفي حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق في قصة الإسراء ، فصلى بهم ، يعني الأنبياء ، ثم أتي بثلاثة آنية إناء فيه لبن ، وإناء فيه خمر ، وإناء فيه ماء ، فأخذت اللبن " الحديث .

وفي رواية سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة عند البخاري في الأشربة : " أتي رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ليلة أسري به بإناء فيه خمر ، وإناء فيه لبن ، فنظر إليهما ، فأخذ اللبن ، فقال له جبريل عليه السلام : الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر غوت أمتك " ، وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة ، عن أنس ، عن البيهقي : " فعرض عليه الماء والخمر واللبن ، فأخذ اللبن فقال له جبريل : أصبت الفطرة ، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك ، ولو شربت الخمر لغويت ، وغوت أمتك " ، قلت : قالوا بالجمع بين هذا الاختلاف إما بحمل ثم على غير بابها من الترتيب ، وإنما هي بمعنى الواو هنا ، وإما بوقوع عرض الآنية مرتين : مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس بسبب ما وقع له من العطش ، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة .

وأما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر ، ومجموعها أربعة آنية ، فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى ، ولعله عرض عليه من كل نهر إناء ، والله أعلم .

قوله : " وبما أمرت " على صيغة المجهول ، ويروى بم أمرت بدون الألف . قوله : " وعالجت بني إسرائيل " : أي مارستهم ، ولقيت الشدة فيما أردت منهم من الطاعة ، والمعالجة مثل المجادلة ، " ولكني أرضى وأسلم " فيه حذف تقديره : حتى استحييت فلا أرجع ، فإني إذا رجعت كنت غير راض ولا مسلم ، ولكني أرضى وأسلم ، وبهذا يجاب عما قيل ، لكن حقها أن تقع بين كلامين متغايرين معنى ، فما وجهه هنا ؟ وقال الطيبي : ومراجعة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في باب الصلاة إنما جازت من رسولنا محمد وموسى عليهما السلام ; لأنهما عرفا أن الأمر الأول غير واجب قطعا ، فلو كان واجبا قطعا لا يقبل التخفيف ، وقيل في الأول فرض خمسين ، ثم رحم عباده ونسخها بخمس ، كآية الرضاع ، وعدة المتوفى عنها زوجها ، وفيه دليل على أنه يجوز نسخ الشيء قبل وقوعه .

قوله : " أمضيت فريضتي ، وخففت عن عبادي " ، وفي رواية أنس ، عن أبي ذر التي تقدمت في أول الصلاة : " هن خمس ، وهن خمسون " ، وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم : " حتى قال : يا محمد ، خمس صلوات في كل يوم وليلة ، كل صلاة عشرة ، فتلك خمسون صلاة " ، وفي رواية يزيد بن أبي مالك عند النسائي : " وأتيت سدرة المنتهى فغشيتني ضبابة ، فخررت ساجدا فقيل لي : إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة ، فقم بها أنت وأمتك ، فذكر مراجعته مع موسى عليه السلام ، وفيه أنه فرض على بني إسرائيل فما قاموا بها " وقال في آخره : " خمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك ، فعرفت أنها عزمة من الله ، فرجعت إلى موسى ، فقال لي : ارجع فلم أرجع " .

( فإن قلت ) : ما الحكمة في وقوع المراجعة مع موسى عليه السلام دون غيره من الأنبياء ؟ ( قلت ) : لأن ابتداء المراجعة كان موسى عليه السلام ، فلذلك وقعت معه ، وقيل : قد قال موسى من كلامه أنه عالج بني إسرائيل على أقل من ذلك فما قبلوه ، وما وافقوه ، ويستفاد منه أن مقام الخلة مقام الرضا والتسليم ، ومقام التكليم مقام الإدلال والانبساط ، ومن ثمة استبد موسى بأمر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم [ ص: 30 ] بطلب التخفيف دون إبراهيم عليه السلام ، مع أن للنبي -صلى الله عليه وسلم - من الاختصاص بإبراهيم ، أزيد مما له من موسى لمقام الأبوة ورفعة المنزلة ، والاتباع في الملة .

التالي السابق


الخدمات العلمية