صفحة جزء
3694 387 - حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عقيل قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار بكرة وعشية ، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة ، فقال : أين تريد يا أبا بكر ، فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض ، وأعبد ربي فقال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ، ولا يخرج ، إنك [ ص: 40 ] تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فأنا لك جار ، ارجع واعبد ربك ببلدك ، فرجع ، وارتحل معه ابن الدغنة ، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش ، فقال لهم : إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج ، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ، ويصل الرحم ، ويحمل الكل ، ويقري الضيف ، ويعين على نوائب الحق ، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة ، وقالوا لابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ، فليصل فيها ، وليقرأ ما شاء ، ولا يؤذينا بذلك ، ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا ، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر ، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ، ولا يستعلن بصلاته ، ولا يقرأ في غير داره ، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره ، وكان يصلي فيه ، ويقرأ القرآن ، فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه ، وينظرون إليه .

وكان أبو بكر رجلا بكاء ، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن ، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة ، فقدم عليهم فقالوا : إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره ، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره ، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه ، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه ، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل ، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك ، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان .

قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال : قد علمت الذي عاقدت لك عليه ، فإما أن تقتصر على ذلك ، وإما أن ترجع إلي ذمتي ، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له ، فقال أبو بكر : فإني أرد إليك جوارك ، وأرضى بجوار الله عز وجل ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بمكة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين
إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين ، وهما الحرتان ، فهاجر من هاجر قبل المدينة ، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ، وتجهز أبو بكر قبل المدينة ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رسلك ، فإني أرجو أن يؤذن لي ، فقال أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت ؟ قال : نعم ، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصحبه ، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر ، وهو الخبط أربعة أشهر .

قال ابن شهاب : قال عروة ، قالت عائشة : فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة ، قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها ، فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي ، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ، قالت : فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن ، فأذن له ، فدخل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر : أخرج من عندك ، فقال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله ، قال : فإني قد أذن لي في الخروج .

[ ص: 41 ] فقال أبو بكر : الصحابة بأبي أنت يا رسول الله ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم ، قال أبو بكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله ، إحدى راحلتي هاتين ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالثمن ، قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز ، وصنعنا لهما سفرة في جراب ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها ، فربطت به على فم الجراب ، فبذلك سميت ذات النطاقين قالت : ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر بغار في جبل ثور ، فكمنا فيه ثلاث ليال ، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن ، فيدلج من عندهما بسحر ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت ، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم ، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء ، فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث ، واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلا من بني الديل ، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا ، والخريت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي ، وهو على دين كفار قريش ، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة ، والدليل فأخذ بهم طريق السواحل .

قال ابن شهاب : وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي ، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول : جاءنا رسل كفار قريش ، يجعلون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر دية كل واحد منهما من قتله ، أو أسره ، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج ، أقبل رجل منهم حتى قام علينا ، ونحن جلوس ، فقال : يا سراقة ، إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل ، أراها محمدا وأصحابه قال سراقة : فعرفت أنهم هم ، فقلت له : إنهم ليسوا بهم ، ولكنك رأيت فلانا وفلانا ، انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم ، ثم لبثت في المجلس ساعة ، ثم قمت فدخلت : فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي ، وهي من وراء أكمة ، فتحبسها علي ، وأخذت رمحي ، فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض ، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها ، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم ، فعثرت بي فرسي ، فخررت عنها ، فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي ، فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا ، فخرج الذي أكره ، فركبت فرسي ، وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت ، وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين ، فخررت عنها ثم زجرتها ، فنهضت فلم تكد تخرج يديها ، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان ، فاستقسمت بالأزلام [ ص: 42 ] فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان ، فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم ، وعرضت عليهم الزاد والمتاع ، فلم يرزآني ، ولم يسألاني إلا أن قال : أخف عنا ، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن ، فأمر عامر بن فهيرة ، فكتب في رقعة من أديم ، ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشأم ، فكسا الزبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ثياب بياض ، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة ، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة ، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم ، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه ، فبصر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب ، هذا جدكم الذي تنتظرون ، فثار المسلمون إلى السلاح ، فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرة ، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف ، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول ، فقام أبو بكر للناس ، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامتا ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه ، فعرف الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك ، فلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة ، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى ، وصلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ركب راحلته ، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين ، وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل : غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بركت به راحلته : هذا إن شاء الله المنزل ، ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغلامين ، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا ، فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله ، فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ، ثم بناه مسجدا ، وطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل معهم اللبن في بنيانه ، ويقول : وهو ينقل اللبن :


هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبرأ ربنا وأطهر

ويقول :


اللهم إن الأجر أجر الآخره     فارحم الأنصار والمهاجره

فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي ،
قال ابن شهاب : ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت .


[ ص: 43 ] مطابقته للترجمة ظاهرة أظهر ما يكون ورجاله قد ذكروا غير مرة ، وعقيل بضم العين ، ومضى جزء من أول هذا الحديث في كتاب الصلاة في باب المسجد يكون في الطريق ، أخرجه هناك بهذا الإسناد بعينه ، وكذلك أخرجه في كتاب الإجازة في باب استئجار المشركين عند الضرورة ، عن إبراهيم بن موسى ، عن هشام ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عائشة من قوله : " واستأجر رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، وأبو بكر رجلا من بني الديل إلى قوله : " وهو على طريق الساحل ، وكذلك أخرجه في الكفالة بإسناد هذا الباب من قوله : إن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : " لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان " إلى قوله : " ورق السمر أربعة أشهر " ، وكذلك أخرجه في الأدب في باب هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة وعشية ، فإنه أخرجه هناك عن إبراهيم ، عن هشام إلى آخره من قوله : " قالت : لم أعقل أبوي " إلى قوله : " قد أذن لي بالخروج " .

وحاصل الكلام أن البخاري أخرج هذا الحديث في هذه المواضع مقطعة مختصرة ، ولم يخرجه مطولا إلا هنا فافهم .

( ذكر معناه ) قوله : " أبوي " وهما أبو بكر الصديق ، وأم رومان ، ولفظ أبوي تثنية مضافة إلى ياء المتكلم منصوبة على المفعولية . قوله : " الدين " : أي دين الإسلام ، وقال بعضهم : وهو منصوب بنزع الخافض : أي بالدين ، ويجوز أن يكون مفعولا به على التجوز .

( قلت ) : إذا قلنا معنى يدينان يطيعان من الدين بمعنى الطاعة ، لا يحتاج إلى تقدير ناصب ; لأن المعنى حينئذ إلا وهما يطيعان الدين أي الإسلام ، وكل من يطيع الإسلام فهو مسلم .

وقوله : على تجوز فيه نظر لا يخفى . قوله : " فلما ابتلي المسلمون " : أي بأذى الكفار من قريش وغيرهم . قوله : " مهاجرا " حال من أبي بكر . قوله : " نحو أرض الحبشة " ، يعني ليلحق من سبقه إليها من المسلمين . قوله : " برك الغماد " البرك بفتح الباء الموحدة ، وحكى كسرها وسكون الراء وبالكاف ، وقال الجوهري : البرك مثل القرد موضع بناحية اليمن ، والغماد بكسر الغين المعجمة وتخفيف الميم وبالدال المهملة ، وهو موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن مما يلي ساحل البحر ، وقال ابن فارس : بضم الغين ، وفي التوضيح برك الغماد موضع في أقاصي هجر .

قوله : " ابن الدغنة " بضم الدال المهملة والغين المعجمة وتشديد النون عند أهل اللغة وعند المحدثين بفتح الدال وكسر الغين وفتح النون الخفيفة ، وقال الجياني : رويناه بهما ، وهو اسم أمه ، وقيل : أم أبيه ، وقيل : دايته ، ومعنى الدغنة المسترخية ، وأصلها الغمامة الكثيرة المطر ، وعن الواقدي ، عن معمر ، عن الزهري أن اسمه الحارث بن زيد ، وحكى السهيلي أن اسمه مالك .

وقال الكرماني : قال ابن إسحاق : اسمه ربيعة بفتح الراء ، وقال بعضهم : ووقع في شرح الكرماني أن ابن إسحاق سماه ربيعة بن رفيع ، وهو وهم من الكرماني ، فإن ربيعة المذكور آخر يقال له : ابن الدغنة ، لكنه سلمي ، والمذكور هنا من القارة .

( قلت ) : لا ينسب الكرماني إلى الوهم ; لأنه نقل عن ابن إسحاق أنه قال : ابن الدغنة اسمه ربيعة بن رفيع ، ولم يذكر أنه سلمي ، أو من القارة ، فالوهم من غيره ، وأما السلمي فذكره أبو عمر ، وقال ربيعة بن رفيع أهبان بن ثعلبة السلمي : كان يقال له ابن الدغنة ، وهي أمه ، فغلبت على اسمه ، شهد حنينا ، ثم قدم على رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في بني تميم ، وهو الذي قتل دريد بن الصمة يوم حنين ، وآخر يقال له ابن دغنة يسمى حابسا ، وذكره أبو عمر ، وذكره الذهبي عنه ، وقال : حابس بن دغنة الكلبي له في أعلام النبوة ، وله صحبة ورؤية .

قوله : " وهو سيد القارة " بالقاف وتخفيف الراء ، وهي قبيلة مشهورة من بني الهون بالضم والتخفيف ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، كانوا حلفاء بني زهرة من قريش . قوله : " أخرجني قومي " لم يخرجوه حقيقة ولكنهم تسببوا في خروجه . قوله : " أن أسيح " بالسين والحاء المهملتين من السياحة يقال : ساح في الأرض يسيح سياحة إذا ذهب فيها ، وأصله من السيح وهو الماء الجاري المنبسط على الأرض ، ومعناه هاهنا إرادة مفارقة الأمصار ، وسكنى البراري ، وإنما قال أبو بكر : أن أسيح ولم يذكر جهة مقصده ، مع أنه قصد التوجه إلى أرض الحبشة ; لأن ابن الدغنة كان كافرا . قوله : " لا تخرج ولا تخرج " الأول بفتح التاء من الخروج ، والثاني بضمها على صيغة المجهول من الإخراج .

قوله : " المعدوم " ، وفي رواية الكشميهني : المعدم ، ومعنى تكسب المعدوم : تعطيه المال وتملكه إياه ، يقال : كسبت للرجل مالا وأكسبته ، وقال الخطابي : وأفصح اللغتين حذف الألف ، ومنع القزاز إثباتها ، وجوزها ابن الأعرابي . قوله : " وتحمل الكل " بفتح الكاف وتشديد اللام وهو ما يثقل حمله من القيام بالعيال ونحوه مما لا يقوم [ ص: 44 ] بأمر نفسه . قوله : " على نوائب الحق " جمع نائبة ، ومعناه تعين بما تقدر عليه من أصابته نوائب : أي ما ينزل به من المهمات والحوادث . قوله : "فأنا لك جار " : أي مجير ، أمنع من يؤذيك ، والجار الناصر الحامي المانع المدافع . قوله : " ارجع " أمر لأبي بكر : أي ارجع إلى بلدك ووطنك . قوله : " فرجع " : أي أبو بكر . قوله : " وارتحل معه " : أي مع أبي بكر ابن الدغنة ، وقد تقدم في الكفالة ارتحل ابن الدغنة ، فرجع مع أبي بكر . قوله : " لا يخرج " بفتح الياء من الخروج ولا يخرج بضم الياء . قوله : " أتخرجون " بهمزة الاستفهام على سبيل الإنكار ، ورجلا منصوب به . قوله : " فلم تكذب " من التكذيب ، وقريش فاعله ، أراد أن أحدا منهم لم يرد قوله في أمان أبي بكر ولم يمنع أحد جواره ، وكل من كذب بشيء فقد رده ، فأطلق التكذيب وأراد لازمه ، وتقدم في الكفالة بلفظ : فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة . قوله : " فليعبد ربه " عطف على محذوف تقديره مر أبا بكر لا يتعرض إلى شيء وليقعد في حاله فليعبد ربه . قوله : " ولا يؤذينا بذلك " : أي بما يصدر منه من صلاته وقراءته . قوله : " ولا يستعلن به " : أي بما يفعله من الصلاة والقراءة . قوله : " فلبث أبو بكر " : أي مكث على ما شرطوا عليه ، ولم يبين فيه مدة المكث . قوله : " ثم بدا لأبي بكر " : أي ثم ظهر له رأي غير الرأي الأول .

قوله : " بفناء داره " بكسر الفاء وتخفيف النون ، وبالمد وهي سعة أمام البيت ، وقيل : ما امتد من جوانب البيت . قوله : " فيتقذف عليه " : أي على أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، ويتقذف على وزن يتفعل بالتاء المثناة من فوق ، والقاف والذال المعجمة الثقيلة من القذف : أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضا ، فيتساقطون عليه ، ويروى فيتقصف بالصاد المهملة : أي يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض وينكسر .

وقال الخطابي : هذا هو المحفوظ ، وأما يتقذف فلا وجه له هاهنا ، إلا أن يجعل من القذف ، وفسره بما ذكرناه الآن ، وفي رواية الكشميهني بنون وقاف مفتوحة وصاد مهملة مكسورة : أي يسقط .

قوله : " بكاء " على وزن فعال بالتشديد صيغة المبالغة : أي كثير البكاء . قوله : " لا يملك عينيه " : أي لا يطيق إمساكهما من البكاء من رقة قلبه . قوله : " إذا " ظرفية ، والعامل فيه لا يملك ، ويجوز أن يكون شرطية ، والجزاء مقدر ، تقديره إذا قرأ القرآن لا يملك عينيه ونحو ذلك . قوله : " وأفزع ذلك " : أي أخاف ما فعله أبو بكر من صلاته وقراءته وتعبده لله ، فقوله : " ذلك " فاعل أفزع ، وقوله : " المشركين " بالنصب مفعوله ، يعني خافوا من ذلك على النساء والصبيان أن يميلوا إلى دين الإسلام . قوله : " فقدم عليهم " : أي على أشراف قريش من المشركين ، وفي رواية الكشميهني فقدم عليه : أي على أبي بكر . قوله : " أجرنا " بقصر الهمزة وبالجيم والراء في رواية الأكثرين ، وفي رواية القابسي بالزاي : أي أبحنا له .

قوله : " بجوارك " : أي بسبب جوارك أبا بكر رضي الله عنه . قوله : " أن تفتن " بصيغة المجهول ، وقوله : " نساؤنا " مرفوع " وأبناؤنا " عطف عليه ، وفي رواية أبي ذر : " أن يفتن " على صيغة المعلوم ، والضمير الذي فيه يرجع إلى أبي بكر ، ونساءنا بالنصب مفعوله ، وأبناءنا عطف عليه .

قوله : " فانهه " : أي فانه أبا بكر وهو أمر لابن الدغنة . قوله : " وإن أبى " : أي امتنع " إلا أن يعلن " بضم الياء من الإعلان بذلك : أي بما ذكر من الصلاة والقراءة . قوله : " فسله " أصله : فاسأله ، وكذا هو في رواية الكشميهني من سال ، ولما نقلت حركة الهمزة إلى السين ، وحذفت للتخفيف استغني عن همزة الوصل ، فحذفت ، فصار سله . قوله : " ذمتك " : أي أمانك وعهدك . قوله : " أن نخفرك " بضم النون وسكون الخاء المعجمة وكسر الفاء من الإخفار ، يقال : خفرت الرجل إذا أجرته وحفظته ، وأخفرته إذا نقضت عهده . قوله : " ولسنا مقرين " ، ويروى بمقرين : أي لا نسكت عليه الإنكار للمعنى الذي ذكروه من الخشية على نسائهم وأبنائهم أن يدخلوا في دينه .

قوله : " الذي عاقدت بضم التاء التي للمتكلم . قوله : " على ذلك " : أي على الذي عاقدت عليه . قوله : " أني أخفرت " بضم الهمزة على صيغة المجهول . قوله : " وأرضى بجوار الله " : أي بأمانه وحمايته . قوله : " والنبي - صلى الله عليه وسلم - " الواو فيه للحال . قوله : " أريت " بضم الهمزة على صيغة المجهول . قوله : " بين لابتين وهما الحرتان " وهي تثنية حرة ، وهذا اللفظ مدرج في الخبر من تفسير الزهري ، واللابتان تثنية لابة بتخفيف الباء الموحدة وهي الحرة ، وهي شبه الجبل من حجارة سود ، يريد المدينة وهي بين الحرتين . قوله : " قبل المدينة " بكسر القاف والباء الموحدة المخففة . قوله : " ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة " : أي رجع معظم الذين هاجروا إلى الحبشة إلى المدينة لما سمعوا استيطان المسلمين المدينة ، ولم يرجع جميعهم ; لأن جعفرا ومن كان معه تخلفوا في الحبشة . قوله : " وتجهز أبو بكر قبل المدينة " بكسر القاف وفتح الباء الموحدة : أي جهتها ، وتقدم في الكفالة : وخرج أبو بكر مهاجرا هو نصب على الحال المقدرة [ ص: 45 ] : أي مقدرا الهجرة ، وفي رواية هشام بن عروة ، عن أبيه عند ابن حبان : استأذن أبو بكر النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - في الخروج من مكة ، ويروى : وتجهز أبو بكر إلى المدينة : أي إلى الخروج إلى المدينة . قوله : " على رسلك " بكسر الراء وسكون السين المهملة : أي على مهلك : أي وهينتك : أي لا تستعجل ، وفي رواية ابن حبان : فقال اصبر . قوله : " أن يؤذن " على صيغة المجهول . قوله : " بأبي أنت " لفظ أنت مبتدأ ، وبأبي خبره : أي أنت مفدى بأبي ، قيل : يحتمل أن يكون أنت فاعل ترجو ، وقوله : " بأبي " قسم ، وقوله : " ذلك إشارة إلى الإذن الذي يدل عليه أن يؤذن .

قوله : " فحبس أبو بكر نفسه " : أي منعها من الهجرة ، وفي رواية ابن حبان فانتظره أبو بكر رضي الله تعالى عنه . قوله : " على رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - " : أي لأجله ، وكلمة على تأتي للتعليل كما في قوله تعالى : ولتكبروا الله على ما هداكم قوله : " ليصحبه " : أي لأن يصحب رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في الهجرة . قوله : " وعلف " : أي أبو بكر . قوله : " راحلتين " تثنية راحلة ، وهي من الإبل البعير القوي على الأسفار ، والأحمال ، والذكر والأنثى فيه سواء ، والهاء فيه للمبالغة ، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة ، وتمام الخلق وحسن المنظر ، فإذا كانت في جماعة الإبل عرفت .

قوله : " السمر " بفتح السين المهملة وضم الميم وهو شجر الطلح ، وقيل : شجر أم غيلان ، وقيل : كل ما له ظل ثقيل . قوله : " وهو الخبط " : أي ورق السمر هو الخبط بفتح الخاء المعجمة وبالباء الموحدة ، وهو الورق المضروب بالعصا الساقط من الشجر ، وقوله : " وهو الخبط " مدرج أيضا من تفسير الزهري .

قوله : " قال ابن شهاب " إلى آخره موصول بالإسناد المذكور أولا : أي قال محمد بن مسلم بن شهاب الراوي : قال عروة بن الزبير قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها " . قوله : " فبينما " قد مر الكلام فيه غير مرة . قوله : " جلوس " : أي جالسون . قوله : " في نحر الظهيرة " : أي في أول وقت الحرارة وهي المهاجرة ، ويقال : أول الزوال ، وهو أشد ما يكون من حر النهار ، والغالب في أيام الحر القيلولة فيها . قوله : " متقنعا " : أي مغطيا رأسه ، وانتصابه على الحال ، كما في قولك : هذا زيد قائما : أي أشير إليه ، وهو العامل فيه ، ومن له يد في العربية لا يخفى عليه هذا وأمثاله . قوله : " فداء له " بكسر الفاء وبالمد في رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره بالقصر ، وانتصاب فداء على تقدير أن يكون له أبي وأمي فداء ، ويجوز الرفع على أنه خبر المبتدأ ، وهو قوله : " أبي وأمي " فداء له : أي للنبي - صلى الله عليه تعالى وسلم - .

فإن قلت على هذا : أين المطابقة بين المبتدأ والخبر ؟ قلت : الفداء يشمل الواحد فما فوقه . قوله : " إلا أمر " : أي أمر قد حدث ، وكذا جاء في رواية موسى بن عقبة ، ولفظه : فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ما جاء بك إلا أمر حدث . قوله : " فأذن " على صيغة المجهول . قوله : " أخرج من عندك " بفتح الهمزة من الإخراج ، ومن عندك مفعوله . قوله : " إنما هم أهلك " أشار به إلى عائشة وأسماء كما فسره موسى بن عقبة ، ففي روايته قال : أخرج من عندك قال : لا عين عليك ، إنما هما ابنتاي .

قوله : " فإني " ، وفي رواية الكشميهني فإنه . قوله : " قد أذن لي " على صيغة المجهول . قوله : " الصحابة " بالنصب : أي أريد الصحابة يا رسول الله ، يعني المصاحبة . قوله : " نعم قال " : يعني نعم الصحبة التي تطلبها . قوله : " بالثمن " : أي لا آخذ إلا بالثمن ، وفي رواية ابن إسحاق : لا أركب بعيرا ليس هو لي قال : فهو لك ، قال : لا ، ولكن بالثمن الذي ابتعته به قال : أخذته بكذا وكذا ، قال : هو لك ، وفي رواية الطبراني عن أسماء قال : بثمنها يا أبا بكر ، قال بثمنها : إن شئت ، وعن الواقدي أن الثمن ثمانمائة ، وأن الراحلة التي أخذها رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - من أبي بكر هي القصواء ، وأنها كانت من نعم بني قشير ، وأنها عاشت بعد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قليلا ، وماتت في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع ، وذكر ابن إسحاق أنها الجذعاء ، وكانت من إبل بني الحريش ، وكذا في رواية أخرجها ابن حبان أنها الجذعاء . قوله : " فجهزناهما : أي النبي وأبا بكر . قوله : أحث الجهاز ، لفظ أحث بالحاء المهملة والثاء المثلثة أفعل التفضيل من الحث وهو الإسراع ، والحثيث على وزن فعيل : المسرع الحريص ، وأحث أفعل منه ، وفي رواية أبي ذر أحب بالباء الموحدة ، والأول أصح ، والجهاز بفتح الجيم وكسرها ما يحتاج إليه في السفر ونحوه . قوله : " ووضعنا لهما : أي للنبي وأبي بكر ، ويروى : وصنعنا من صنع ، والسفرة الزاد هنا ; لأن أصل السفرة في اللغة الزاد الذي يصنع للمسافر ، ثم استعمل في وعاء الزاد ، ومثله المزادة للماء ، وكذلك الراوية ، وعن الواقدي أنه كان في السفرة شاة مطبوخة . قوله : " في [ ص: 46 ] جراب بكسر الجيم وربما فتحت . قوله : " من نطاقها " بكسر النون ، وهو إزار فيه تكة تلبسه النساء ، والمنطق كل شيء شددت به وسطك قاله ابن فارس ، قال الداودي : هو المئزر ، وقال الهروي : النطاق هو المنطق ، وهو أن تأخذ المرأة ثوبا فتلبسه ثم تشد إزارها وسطها بحبل ، ثم ترسل الأعلى على الأسفل . قوله : " ذات النطاقين " هذه رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره ذات النطاق بالإفراد ، وقال الهروي : سميت بذات النطاقين ; لأنها كانت تجعل نطاقا على نطاق ، وقيل : كان لها نطاقان تلبس أحدهما ، وتحمل في الآخر الزاد لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وهو في الغار ، وفي رواية ابن سعد : شدت نطاقها ، فأوكت بقطعة منه الجراب ، وشدت فم القربة بالباقي ، فسميت ذات النطاقين .

قوله : " ثور " بالثاء المثلثة على لفظ الحيوان المشهور ، وذكر الواقدي رحمه الله تعالى أنهما خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر ، وقال الحاكم : تواترت الأخبار على أن خروجه كان يوم الاثنين ، ودخوله المدينة كان يوم الاثنين إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال : إنه خرج من مكة يوم الخميس .

قلت : الذي يفهم من كلام ابن إسحاق كان خروجه بالليل ، وذلك أن أعيان قريش لما اجتمعوا فيما يفعلون في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار كل واحد برأي ، فما أصغوا إليه فآخر الأمر ، أشار أبو جهل بقتله ، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ، قال : فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام ، فيثبون عليه ، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكانهم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : " نم على فراشي ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفنة من تراب في يده ، فجعل ينثره على رؤوسهم ، وهو يتلو هذه الآيات : يس والقرآن الحكيم إلى قوله : فهم لا يبصرون ولم يبق منهم أحد إلا وقد وضع على رأسه تراب ، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قوله : " عندهما " : أي عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر رضي الله تعالى عنه عبد الله بن أبي بكر ، قيل في نسخة : عبد الرحمن ، وهو وهم . قوله : " ثقف " بفتح الثاء المثلثة وكسر القاف ، ويجوز إسكانها وفتحها ، وفي آخره فاء ، وهو الحاذق الفطن ، تقول : ثقفت الشيء إذا أقمت عوجه ، وقال الخطابي : الثقافة حسن التلقي للأدب ، يقال : غلام ثقف ، وقال ابن فارس : ويقال : رجل ثقف . قوله : " لقن " بفتح اللام وكسر القاف وبالنون وهو السريع الفهم ، ويقال : اللقن الحسن التلقي لما يسمعه ويعلمه . قوله : " فيدلج " بتشديد الدال وبالجيم : أي يخرج بالسحر منصرفا إلى مكة يقال : أدلج إذا سار في أول الليل ، وقيل في كله : وادلج بتشديد الدال إذا سار في آخره . قوله : " يكتادان به " وفي رواية الكشميهني : " يكادان " بغير تاء مثناة من فوق ، وهو من قولهم : كدت الرجل إذا طلبت له الغوائل ومكرت به . قوله : " إلا وعاء " : أي حفظه . قوله : " عامر بن فهيرة " بضم الفاء وفتح الهاء وسكون الياء آخر الحروف ، وبالراء مولى أبي بكر الصديق ، كان مولدا من مولدي الأزد ، أسود اللون ، مملوكا للطفيل بن عبد الله بن سخبرة ، فأسلم وهو مملوك ، فاشتراه أبو بكر وأعتقه ، وكان حسن الإسلام ، وكان يرعى الغنم في ثور ، ويروح بها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر في الغار ، وشهد بدرا وأحدا ، ثم قتل يوم بئر معونة ، وهو ابن أربعين سنة ، قتله عامر بن الطفيل ، ويروى عنه أنه قال : رأيت أول طعنة طعنتها عامر بن فهيرة نورا خرج منها ، وقال أبو عمرو : روى ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري قال : زعم عروة بن الزبير أن عامر بن فهيرة قتل يومئذ ، فلم يوجد جسده ، يرون أن الملائكة دفنته ، وكانت بئر معونة سنة أربع من الهجرة . قوله : " منحة " بكسر الميم وسكون النون وبالحاء المهملة ، وهي في الأصل الشاة التي يجعل الرجل لبنها لغيره ، ثم يقع على كل شاة ، وقال ابن فارس : المنحة والمنيحة منحة اللبن ، والمنحة الناقة ، أو الشاة يعطى لبنها ، ثم جعلت كل عطية منحة ، وفي رواية موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب أن الغنم كانت لأبي بكر ، فكان يروح عليهما الغنم كل ليلة فيحلبان ، ثم يسرح بكرة فيصبح في رعيان الناس فلا يفطن له .

قوله : " في رسل " بكسر الراء وسكون السين المهملة وهو اللبن الطري . قوله : " ورضيفهما " الرضيف بفتح الراء وكسر الضاد المعجمة على وزن رغيف وهو اللبن الذي جعل فيه الرضفة وهي الحجارة المحماة لتزول وخامته وثقله ، وقيل : الرضيف الناقة المحلوبة .

( فإن قلت ) : كيف إعرابه ؟ ( قلت ) : إن جعلته عطفا على لبن منحتهما يكون مرفوعا ، وإن جعلته عطفا على المضاف إليه فيه يكون مجرورا فافهم ، وفي التوضيح ، ويروى وصريفها ، والصريف اللبن ساعة يحلب ، وقال ابن الأثير في باب الصاد المهملة ، وفي حديث الغار ، ويبيتان في رسلها وصريفها ، الصريف اللبن ساعة [ ص: 47 ] يصرف عن الضرع . قوله : " حتى ينعق بهما ، كلمة حتى للغاية ، وينعق بكسر العين المهملة : أي يصيح بغنمه ، والنعق صوت الراعي ، والضمير في بهما يرجع إلى لفظ المنحة ، ولفظ الغنم ، وهذا هو رواية أبي ذر ، أعني بهما بالتثنية ، وفي رواية غيره بها بالإفراد ، قال الكرماني : أي بالمنحة ، أو بالغنم . قوله : " عامر " مرفوع ; لأنه فاعل ينعق . قوله : " بغلس " : أي في غلس ، وهو ظلام آخر الليل . قوله : " من بني الديل " بكسر الدال وسكون الياء آخر الحروف ، وقيل : بضم أوله وبالهمزة المكسورة في ثانيه . قوله : " وهو " : أي الرجل الذي استأجراه من بني عبد بن عدي بن الديل بن عبد مناف بن كنانة ، ويقال : من بني عدي بن عمرو بن خزاعة ، وقال ابن هشام : اسمه عبد الله بن أرقد ، وفي رواية الأموي ، عن ابن إسحاق : أريقد بالتصغير ، وعند ابن سعد : عبد الله بن أريقط بالطاء موضع الدال بالتصغير ، وهذا هو الأشهر ، وقال ابن التين : عن مالك اسمه رقيط ، وكان كافرا .

قوله : " هاديا " نصب ; لأنه صفة رجلا ، يعني يهديهما إلى الطريق . قوله : " خريتا " صفة بعد صفة ، وهو بكسر الخاء المعجمة وتشديد الراء وبالياء آخر الحروف الساكنة ، وفي آخره تاء مثناة من فوق ، والخريت الماهر بالهداية ، أشار به إلى تفسير الخريت ، وهذا مدرج في الخبر من كلام الزهري ، وعن الخطابي : الخريت مأخوذ من خرت الإبرة ، كأنه يهتدي لمثل خرتها من الطريق ، وخرت الإبرة بالضم ثقبها ، وحكي عن الكسائي : خرتنا الأرض إذا عرفناها ولم تخف علينا طرقها .

وقال ابن الأثير : الخريت الماهر الذي يهتدي لأخرات المفازة ، وهي طرقها الخفية ، قوله : قد غمس حلفا في آل العاص بن الوائل ، هذه الجملة وقعت حالا من قوله : " رجلا " ، والأصل في الجملة الفعلية الماضية إذا وقعت حالا أن يكون فيها كلمة قد إما ظاهرة وإما مقدرة ، كما في قوله تعالى : أو جاءوكم حصرت صدورهم أي قد حصرت . قوله : " غمس حلفا " : أي أخذ بنصيب من حلفهم وعقدهم يأمن به كانت عادتهم أن يحضروا في جفنة طيبا أو دما أو رمادا ، فيدخلون فيه أيديهم عند التحالف ; ليتم عقدهم عليه باشتراكهم في شيء واحد ، والحلف بفتح الحاء وكسر اللام مصدر حلفت ، وقد تسكن اللام ، ويراد به العهد بين القوم .

قوله : " فأمناه " بقصر الهمزة وكسر الميم : أي ائتمناه ، كما في قوله تعالى : فإن أمن بعضكم بعضا وأمنته على كذا وائتمنته بمعنى . قوله : " فأخذ بهم طريق السواحل " ، وفي رواية موسى بن عقبة : فأجاز بهما أسفل مكة ، ثم مضى بهما حتى جاء بهما الساحل أسفل من عسفان ، ثم أجاز بهما حتى عارض الطريق .

قوله : " قال ابن شهاب " هو موصول بإسناد حديث عائشة المذكور ، وهو محمد بن مسلم الزهري أحد رواة الحديث . قوله : " عبد الرحمن بن مالك بن جعشم بضم الجيم وسكون العين المهملة ، وضم الشين المعجمة ، وحكى فتح الجيم أيضا المدلجي بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر اللام ، وبالجيم من بني مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة ، ومالك والد عبد الرحمن هذا ، ذكره ابن حبان في التابعين وليس له ولا لأخيه سراقة ، ولا لابنه عبد الرحمن في البخاري غير هذا الحديث . قوله : " وهو ابن أخي سراقة بن جعشم " : أي عبد الرحمن هو ابن أخي سراقة ، وفي رواية أبي ذر : سراقة بن مالك بن جعشم ، والأول هو المعتمد عليه ، وقال الكرماني : سراقة بن جعشم ، ويروى سراقة بن مالك بن جعشم ، والأول هو الموافق لكونه ابن أخيه ، لكن المشهور هو الثاني كما في كتاب الاستيعاب ، قلت : يعني ذكر أبو عمر في كتاب الاستيعاب سراقة بن مالك بن جعشم بن مالك إلى آخره ، وذكر أنه يعد في أهل المدينة ، ويقال : إنه سكن مكة ، وكنية سراقة أبو سفيان ، وكان ينزل قديدا ، وعاش إلى خلافة عثمان .

وقال الذهبي : سراقة بن مالك بن جعشم الكناني المدلجي أبو سفيان أسلم بعد الطائف ، ويقال : وحيث جاء في الروايات سراقة بن جعشم يكون نسبته إلى جده . قوله : " دية في كل واحد " : أي مائة من الإبل ، وصرح بذلك موسى بن عقبة ، وصالح بن كيسان في روايتهما عن الزهري . قوله : " ودية " منصوب بقوله : " يجعلون " ، ويروى دية كل واحد بإضافة دية إلى كل . قوله : " من قتله " ، ويروى : لمن قتله ، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - وكذلك في " أو أسره " . قوله : " فبينما أنا جالس " : قول سراقة . قوله : " أقبل " جواب بينما ، ويروى : إذ أقبل . قوله : " ونحن جلوس " الواو فيه للحال ، والجلوس جمع جالس . قوله : " فقال يا سراقة " القائل هو الرجل الذي هو من بني مدلج . قوله : " رأيت آنفا " : أي في هذه الساعة . قوله : " أسودة " : أي أشخاصا . قوله : " فعرفت أنهم هم " : أي عرفت أن الأسودة هم محمد وأصحابه . قوله : " فقلت له " القائل سراقة لذلك الرجل : إنهم أي إن الأسودة ليسوا بهم : أي بمحمد وأصحابه ، ثم استدرك بقوله : " ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا " : أي في نظرنا معاينة [ ص: 48 ] يتبعون ضالة لهم . قوله : " ثم قمت " كلام سراقة ، وكذلك قوله : " فدخلت وأمرت جاريتي " إلى قوله : " قال ابن شهاب " . قوله : " أكمة " وهي الرابية المرتفعة عن الأرض . قوله : " فخططت " بالخاء المعجمة ، وفي رواية الكشميهني والأصيلي بالمهملة : أي أمكنت أسفله . قوله : " بزجه " بضم الزاي وتشديد الجيم وهو الحديدة التي في أسفل الرمح ، وفي رواية الكشميهني : فخططت به . قوله : " وخفضت عاليه " : أي عالي الرمح ; لئلا يظهر بريقه لمن بعد منه ; لأنه كره أن يتبعه أحد فيشركه في الجعالة ، وروى ابن أبي شيبة من حديث الحسن عن سراقة : " وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركني أهل الماء فيها " . قوله : " فرفعتها " بالراء : أي أسرعت بها السير .

قال ابن الأثير : أي كلفتها المرفوع من السير وهو فوق الموضوع ، ودون العدو يقال : أرفع دابتك : أي أسرع بها ، ويروى دفعتها بالدال ، يقال : دفع ناقته إذا حملها على السير . قوله : " تقرب بي " من التقريب وهو السير دون العدو وفوق العادة ، وقال الأصمعي : هو أن ترفع الفرس يديها معا ، وتضعهما معا . قوله : " فخررت عنها " : أي عن دابتي من الخرور بالخاء المعجمة وهو السقوط . قوله : " فأهويت يدي " : أي بسطتها إليها للأخذ ، والكنانة : الخريطة المستطيلة من جلود تجعل فيها السهام ، وهي الجعبة .

قوله : " الأزلام " وهي القداح ، وهو السهام التي لا ريش لها ولا نصل ، وكان لهم في الجاهلية هذه الأزلام مكتوبا عليها ( لا ) ( ونعم ) ، فإذا اتفق لهم أمر من غير قصد كانوا يخرجونها ، فإن خرج ما عليه ( نعم ) مضى على عزمه ، وإن خرج ( لا ) انصرف عنه . قوله : " فاستقسمت بها " من الاستقسام وهو طلب معرفة النفع والضر بالأزلام : أي التفاؤل بها . قوله : " فخرج الذي أكره " : أي الذي لا يضرهم ، وصرح به الإسماعيلي وموسى ، وابن إسحاق زاد : أو كنت أرجو أن أرده وآخذ المائة الناقة .

قوله : " وعصيت الأزلام " الواو فيه للحال ، أراد أنه ما التفت إلى الذي خرج ما يكرهه . قوله : " تقرب بي " يعني فرسه ، ومضى معنى التقريب آنفا . قوله : " وهو لا يلتفت " الواو فيه للحال : أي والحال أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات. قوله : " ساخت يدا فرسي " أراد أنه حين سمع النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ساخت يدا فرسه بالخاء المعجمة : أي غاصت ، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر ، فوقعت لمنخريها . قوله : " حتى بلغتا الركبتين " ، وفي رواية البزار : فارتطمت به فرسه إلى بطنها . قوله : " فخررت عنها " بالخاء المعجمة : أي سقطت . قوله : " ثم زجرتها " : أي حثثتها وحملتها على القيام فنهضت : أي أسرعت للقيام ولم تكد من أفعال المقاربة : أي لم تقرب من إخراج يديها . قوله : " فلما استوت قائمة " : أي بعد تحمل شدة في القيام ، وفي رواية أنس : ثم قامت تحمحم الحمحمة بالحاءين المهملتين : صوت الفرس وصهيله .

قوله : " إذا " كلمة مفاجأة ، وهي جواب لما . قوله : لأثر يديها اللتين غاصتا في الأرض . قوله : " عثان " بضم العين المهملة وبالثاء المثلثة وبعد الألف نون ، وهو الدخان من غير نار ، وعثان مرفوع بالابتداء ، وخبره هو قوله : " لأثر يديها مقدما " . قوله : " ساطع " : أي منتشر مرتفع ، وفي رواية الكشميهني : غبار بغين معجمة مضمومة وباء موحدة وبراء .

قال الكرماني : هذه هي الأصح ، وقيل : الأولى هي الأشهر ، وفي رواية موسى بن عقبة ، والإسماعيلي واتبعها دخان مثل الغبار ، وفيه : فعلمت أنه منع مني . قوله : " فناديتهم بالأمان " ، وفي رواية ابن إسحاق : فناديت القوم أنا سراقة بن مالك بن جعشم ، انظروني أكلمكم ، فوالله لا آتيكم ، ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه . قوله : " وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم " : أي من الحرص على الظفر بهم وبذل المال لمن يحصلهم لهم . قوله : " فلم يرزآني " براء ثم زاي : أي لم يأخذا مني شيئا ، ولم ينقصا من مالي ، يقال رزأته أرزؤه ، وأصله النقص ، ويرزآني تثنية يرزأ ، والضمير فيه يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، وكذلك في ولم يسألاني . قوله : " إلا أن قال " : أي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر ، ويروى : إلا أن قالا بالتثنية ، يعني كلاهما قالا : أخف عنا بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة أمر من الإخفاء . قوله : " فسألته " : أي قال سراقة : سألت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن يكتب لي كتاب أمن بسكون الميم ، وفي رواية الإسماعيلي : كتاب موادعة ، وفي رواية ابن إسحاق : كتابا يكون آية بيني وبينك . قوله : " فأمر " : أي النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عامر بن فهيرة . قوله : " فكتب لي في رقعة من أدم " وهو بفتحتين اسم لجمع أديم ، وهو الجلد المدبوغ ، ويروى : من أديم ، وفي رواية ابن إسحاق : فكتب لي كتابا في عظم أو رقعة أو خرقة ، ثم ألقاه إلي ، فأخذته فجعلته في كنانتي ، ثم رجعت .

قوله : " قال ابن شهاب " هو متصل إلى ابن شهاب الزهري بالإسناد المذكور أولا . قوله : " فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، وهذا مرسل وصله [ ص: 49 ] الحاكم من طريق معمر عن الزهري قال : أخبرني عروة أنه سمع الزبير الحديث . قوله : " لقي الزبير " : أي ابن العوام ، وقال موسى بن عقبة : يقال لما دنا : أي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان طلحة قدم من الشام ، فخرج عامدا إلى مكة إما متلقيا وإما معتمرا ، ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام ، فلما لقيه أعطاه فلبس منها هو وأبو بكر رضي الله عنه ، وقال الدمياطي : لم يذكر الزبير بن بكار الزبير بن العوام ، ولا أهل السير ، وإنما هو طلحة بن عبيد الله ، وقال ابن سعد : لما ارتحل النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - من الحجاز في هجرته إلى المدينة لقيه طلحة بن عبيد الله من الغد ، جائيا من الشام ، فكسا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبا بكر من ثياب الشام ، وأخبر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن بالمدينة من المسلمين قد استبطؤوا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فتعجل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وقد رجح الدمياطي الذي في السير على الذي في الصحيح ، والأولى أن يجمع بينهما بأن يكون كل من طلحة والزبير أهدى لهما من الثياب .

قوله : " في ركب " بفتح الراء وسكون الكاف جمع راكب كتجر جمع تاجر . قوله : " قافلين " نصب على الحال : أي راجعين . قوله : " مخرج رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، ويروى : بمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مصدر ميمي بمعنى الخروج . قوله : " يغدون " بسكون الغين المعجمة : أي يخرجون غدوة . قوله : " أوفى رجل " : أي اطلع إلى مكان عال فأشرف منه . قوله : " على أطم " بضمتين وهو الحصن ، ويقال : بناء من حجر كالقصر . قوله : " مبيضين " نصب على الحال : أي عليهم الثياب البيض التي كساهم إياها الزبير ، أو طلحة أو كلاهما ، وقال ابن التين : يحتمل أن يكون معناه مستعجلين ، وحكي عن ابن فارس يقال : بائض أي مستعجل .

قوله : " يزول بهم السراب " : أي يزول السراب عن النظر بسبب عروضهم له ، وقيل : معناه ظهرت حركتهم فيه للعين ، والسراب بفتح السين المهملة هو الذي يرى في شدة الحر كالماء ، فإذا جئته لم تلق شيئا كما قال تعالى : يحسبه الظمآن ماء الآية . قوله : " يا معشر العرب " ، وفي رواية عبد الرحمن بن عويمر : يا بني قيلة ، بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف وهي الجدة الكبرى من الأنصار ، والدة الأوس والخزرج ، وهي قيلة بنت كاهل بن عدي . قوله : " هذا جدكم " بفتح الجيم : أي حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه ، وفي رواية معمر : " هذا صاحبكم ". قوله : " بظهر الحرة " بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء ، وهي الأرض التي عليها الحجارة السود ، وقد مرت غير مرة .

قوله : " في بني عمرو بن عوف " : أي ابن مالك بن أوس بن حارثة ، ومنازلهم بقباء ، وهي على فرسخ من المسجد النبوي بالمدينة . قوله : " وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول " ، ولم يبين أي يوم الاثنين من الشهر ، وفيه اختلاف كثير ، ففي رواية موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قدمها لهلال ربيع الأول : أي أول يوم منه ، وعن ابن إسحاق قدمها لليلتين خلتا من ربيع الأول ونحوه عند أبي معشر ، لكن قال : ليلة الاثنين ، وفي شرف المصطفى من طريق أبي بكر بن حزم قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول ، وفيه من حديث عمر ، ثم نزل على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول ، وعند الزبير في خبر المدينة عن ابن شهاب في نصف ربيع الأول ، ويمكن الجمع بين هذه الروايات بالحمل على الاختلاف في مدة إقامته بقباء ، فعن أنس أنه أقام بقباء أربع عشرة ليلة ، وعن الكلبي أربع ليال فقط ، وعن موسى بن عقبة ثلاث ليال ، وحكي عن الزبير بن بكار اثنين وعشرين يوما ، وعلى اعتداد يوم الدخول والخروج وعدم اعتدادهما فافهم .

قوله : " فقام أبو بكر للناس " : أي يتلقاهم . قوله : " فطفق " : أي جعل من جاء من الأنصار يحيي أبا بكر : أي يسلم عليه ، قال ابن التين : إنما كانوا يفعلون ذلك بأبي بكر ; لكثرة تردده إليهم في التجارة إلى الشام ، فكانوا يعرفونه ، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يأتها بعد أن كبر . قوله : " فنزل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف ، قيل : نزل على كلثوم به الهدم ، وقيل : سعيد بن حثمة ، ولا خلاف أنه نزل في المدينة على أبي أيوب رضي الله تعالى عنه . قوله : " وأسس المسجد " : أي مسجد قباء . قوله : " المسجد الذي أسس على التقوى " هذا صريح في أنه مسجده ، وقد اختلف في ذلك في زمانه ، فقيل : إنه مسجده ، وقيل : إنه مسجد قباء ، والأول أثبت ، وقال الداودي : إنه ليس باختلاف ، وكلاهما أسس على التقوى . قوله : " وكان مربدا " بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء الموحدة ، وهو الموضع الذي يجفف فيه التمر . قوله : لسهيل وسهل ابني رافع بن عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار ، وسهيل شهد بدرا دون أخيه سهل . قوله : " في حجر أسعد بن زرارة " بفتح الحاء وسكون الجيم وهو من حجر الثوب ، وهو طرفه المقدم ; لأن الإنسان يربي ولده في حجره [ ص: 50 ] والولي القائم بأمره كذلك ، وقال ابن الأثير : الحجر بالفتح والكسر الثوب والحصن والمصدر بالفتح لا غير ، وأسعد بن زرارة بالألف في أوله ، وفي رواية أبي ذر وحده سعد بن زرارة بدون الألف ، والأول هو الأوجه ، وكان من السابقين إلى الإسلام من الأنصار ، ووقع في مرسل ابن سيرين عند أبي عبيد في الغريب أنهما كانا في حجر معاذ بن عفراء ، وحكى الزبير أنهما كانا في حجر أبي أيوب ، والأول أثبت .

قوله : " حتى ابتاعه منهما " : أي حتى اشتراه من سهيل وسهل ، وعن الواقدي ، عن معمر ، عن الزهري أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يعطيهما ثمنه ، وقيل : أعطاهما عشرة دنانير ، وعن الزبير أن أبا أيوب أرضاهما عن ثمنه .

( فإن قلت ) : قد تقدم في أبواب المساجد من حديث أنس أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : يا بني النجار ، ثامنوني بحائطكم ، قالوا : لا والله ، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله .

( قلت ) : يجمع بينهما بأنهم لما قالوا : لا نطلب ثمنه إلا إلى الله ، سأل عمن يختص بملكه منهم ، فعينوا له الغلامين فابتاعه منهما ، ويحتمل أن يكون الذين قالوا : لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تحملوا عنه الغلامين بالثمن . قوله : " فطفق " : أي جعل ينقل اللبن بفتح اللام وكسر الباء الموحدة ، وهو الطوب النيء الذي لم يحرق . قوله : " هذا الحمال " بكسر الحاء المهملة وتخفيف الميم : أي هذا محمول من اللبن أبر عند الله : أي أبقى ذخرا وأكثر ثوابا ، وأدوم منفعة ، وأشد طهارة من حمال خيبر : أي التي تحمل منها من التمر والزبيب ونحو ذلك ، وفي رواية المستملي هذا الجمال بفتح الجيم . قوله : " ربنا " منادى مضاف : أي يا ربنا . قوله : " فتمثل بشعر رجل من المسلمين .

وقال الكرماني : يحتمل أن يراد به الشعر المذكور ، وأن يراد شعر آخر ، وقال بعضهم : الأول هو المعتمد ، ( قلت ) : لم يبين وجهه والاعتماد لا يكون إلا بالعماد .

قوله : " قال ابن شهاب " : أي محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أحد رواة الحديث . قوله : " غير هذا البيت " ، ويروى غير هذه الأبيات ، زاد ابن عائذ في آخره التي كان يرتجز بهن وهو ينقل اللبن لبنيان المسجد ، وقال ابن التين : أنكر على الزهري هذا من وجهين :

( أحدهما ) : أنه رجز وليس بشعر ، ( والثاني ) : أن العلماء اختلفوا هل كان ينشد النبي - صلى الله عليه وسلم - شعرا أم لا ؟ وعلى الجواز هل كان ينشد بيتا واحدا ويزيد ؟ .

( وأجيب ) عن الأول أن الجمهور على أن الرجز من أقسام الشعر إذا كان موزونا ، وعن الثاني أن الممتنع على النبي - صلى الله عليه وسلم - إنشاؤه لا إنشاده ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية