صفحة جزء
366 39 - حدثنا أحمد بن يونس قال : حدثنا إبراهيم بن سعد قال : حدثنا ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة [ ص: 93 ] فلما انصرف قال : اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم ، وأتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي .
مطابقته للترجمة ظاهرة ، ( ذكر رجاله ) وهم خمسة ذكروا غير مرة ، وأحمد بن عبد الله بن يونس ، وينسب إلى جده ، وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري ، وعروة بن الزبير بن العوام .

( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه أن رواته كوفيون ، ومدنيون ، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية .

( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن موسى بن إسماعيل ، وأخرجه أبو داود أيضا فيه عن موسى بن إسماعيل به ، وأخرجه مسلم في الصلاة عن عمرو الناقد ، وزهير بن حرب ، وأبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة ، وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم ، ومحمد بن منصور عن سفيان ، وأخرجه ابن ماجه في اللباس عن أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان به .

( ذكر لغاته ومعانيه ) : قوله : "في خميصة" بفتح الخاء المعجمة ، وكسر الميم ، وبالصاد المهملة ، وهي كساء أسود مربع له علمان أو أعلام ، ويكون من خز أو صوف ، ولا يسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة ، سميت بذلك للينها ورقتها وصغر حجمها إذا طويت ، مأخوذ من الخمص ، وهو ضمور البطن ، وقال ابن حبيب في شرح الموطأ : الخميصة كساء صوف أو مرعزي معلم الصنعة . قوله : "لها أعلام" جملة وقعت صفة لخميصة ، والأعلام جمع علم بفتحتين ، وقد فسرناه عن قريب . قوله : "فلما انصرف" أي : من صلاته ، واستقبال القبلة . قوله : "إلى أبي جهم" بفتح الجيم ، وسكون الهاء ، واسمه عامر بن حذيفة العدوي القرشي المدني الصحابي ، وقيل : اسمه عبيد أسلم يوم الفتح ، وكان معظما في قريش ، وعالما بالنسب شهد بنيان الكعبة مرتين ، مات في آخر خلافة معاوية ، وهو غير أبي جهيم المصغر المذكور في المرور . قوله : "بأنبجانية أبي جهم" قد اختلفوا في ضبط هذا اللفظ ومعناه ، فقيل بفتح الهمزة ، وسكون النون ، وكسر الباء الموحدة ، وتخفيف الجيم ، وبعد النون ياء النسبة ، وقال ثعلب : يقال كبش أنبجاني بكسر الباء وفتحها إذا كان ملتفا كثير الصوف ، وكساء أنبجاني كذلك ، وقال الجوهري إذا نسبت إلى منبج فتحت الباء ، فقلت : كساء منبجاني أخرجوه مخرج مخبراني ومنظراني ، وقال أبو حاتم في لحن العامة : لا يقال : كساء أنبجاني ، وهذا مما تخطئ فيه العامة ، وإنما يقال منبجاني بفتح الميم والباء قال : وقلت للأصمعي : لم فتحت الباء ، وإنما نسب إلى منبج بالكسر ؟ قال : خرج مخرج منظراني ومخبراني قال : والنسب مما يغير البناء ، وقال القزاز في الجامع : والنباج موضع تنسب الثياب المنبجانية ، وفي الجمهرة : ومنبج موضع أعجمي ، وقد تكلمت به العرب ، ونسبوا إليه الثياب المنبجانية ، وفي المحكم : أن منبج موضع قال سيبويه : الميم فيه زائدة بمنزلة الألف ؛ لأنها إنما كثرت مزيدة أولا ، فموضوع زيادتها كموضع الألف ، وكثرتها ككثرتها إذا كانت أولا في الاسم والصفة ، وكذلك النباج ، وهما نباجان نباج نبتل ، ونباج بن عامر وكساء منبجاني منسوب إليه على غير قياس ، وفي المغيث : المحفوظ كسر باء الأنبجانية ، وقال ابن الحصار في تقريب المدارك : من زعم أنه منسوب إلى منبج فقد وهم ، ( قلت ) منبج بفتح الميم ، وسكون النون ، وكسر الباء الموحدة ، وفي آخره جيم بلدة من كور قنسرين بناها بعض الأكاسرة الذي غلب على الشام ، وسماها منبه ، وبنى بها بيت نار ، ووكل بها رجلا فعربت فقيل : منبج ، والنسبة إليها منبجي على الأصل ، ومنبجاني على غير قياس ، والباء تفتح في النسبة كما يقال في النسبة إلى صدف بكسر الدال : صدفي بفتحها ، ومن هذا قال ابن قرقول : نسبة إلى منبج بفتح الميم ، وكسر الباء ، ويقال : نسبة إلى موضع يقال له أنبجان ، وعن هذا قال ثعلب يقال : كساء أنبجاني ، وهذا هو الأقرب إلى الصواب في لفظ الحديث ، وأما تفسيرها فقال عبد الملك بن حبيب في شرح الموطأ : هي كساء غليظ تشبه الشملة يكون سداه قطنا غليظا أو كتانا غليظا ، ولحمته صوف ليس بالمبرم في فتله ، لين غليظ يلتحف به في الفراش ، وقد يشتمل بها في شدة البرد ، وقيل : هي من أدوان الثياب الغليظة تتخذ من الصوف ، ويقال : هو كساء غليظ لا علم له فإذا كان للكساء علم فهو خميصة ، وإن لم يكن فهو أنبجانية .

قوله : "ألهتني" أي : أشغلتني ، وهو من الإلهاء ، وثلاثيه لهي الرجل عن الشيء يلهى عنه إذا غفل ، وهو من باب يعلم ، وأما لها يلهو إذا لعب فهو من باب [ ص: 94 ] نصر ينصر ، وفي الموعب وقد لهى يلهو والتهى ، وألهاني عنه كذا أي : أنساني وشغلني . قوله : "آنفا" أي : قريبا ، واشتقاقه من الائتلاف بالشيء أي الابتداء به ، وكذلك الاستئناف ، ومنه أنف كل شيء ، وهو أوله ، ويقال قلت : آنفا ، وسالفا ، وانتصابه على الظرفية قال ابن الأثير قلت الشيء آنفا في أول وقت يقرب مني . قوله : "عن صلاتي" أي : عن كمال الحضور فيها ، وتدبير أركانها وأذكارها ، والاستقصاء في التوجه إلى جناب الجبروت .

( ذكر ما يستنبط منه من الأحكام ) : فيه جواز لبس الثوب المعلم ، وجواز الصلاة فيه ، وفيه أن اشتغال الفكر اليسير في الصلاة غير قادح فيها ، وهو مجمع عليه ، وقال ابن بطال : وفيه أن الصلاة تصح وإن حصل فيها فكر مما ليس متعلقا بالصلاة ، والذي حكي عن بعض السلف أنه مما يضر غير معتد به ، وفيه طلب الخشوع في الصلاة ، والإقبال عليها ، ونفي كل ما يشغل القلب ، ويلهي عنه ، ولهذا قال أصحابنا : المستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده ؛ لأنه أقرب إلى التعظيم من إرسال الطرف يمينا وشمالا ، وفيه المبادرة إلى ترك كل ما يلهي ويشغل القلب عن الطاعة ، والإعراض عن زينة الدنيا ، والفتنة بها ، وفيه منع النظر ، وجمعه عما لا حاجة بالشخص إليه في الصلاة وغيرها ، وقد كان السلف لا يخطئ أحدهم موضع قدميه إذا مشى ، وفيه تكنية العالم لمن دونه ، وكذلك الإمام ، وفيه كراهة تزويق المحراب في المسجد وحائطه ونقشه ، وغير ذلك من الشاغلات ، وفيه قبول الهدية من الأصحاب ، والإرسال إليهم ، واستدل به الباجي على صحة المعاطاة في العقود بعدم ذكر الصيغة ، وقال الطيبي : إنما أرسل إليه ؛ لأنه كان أهداها إياه ، فلما ألهاه علمها أي : شغله إياه عن الصلاة بوقوع نظره على نقوش العلم ردها أو تفكر في أن مثل ذلك للرعونة التي لا تليق به ردها إليه ، واستبدل منه أنبجانية كيلا يتأذى قلبه بردها إليه ، وفيه كراهية الأعلام التي يتعاطاه الناس على أردانهم ، وفيه أن لصور الأشياء الظاهرة تأثيرا في النفوس الطاهرة ، والقلوب الزكية .

الأسئلة والأجوبة : منها ما قيل : كيف بعث صلى الله عليه وسلم بشيء يكرهه لنفسه إلى غيره ، وأجيب بأن بعثها إلى أبي جهم لم يكن لما ذكر ، وإنما كان ؛ لأنها كانت سبب غفلته وشغله عن الخشوع ، وعن ذكر الله كما قال : اخرجوا عن هذا الوادي الذي أصابكم فيه الغفلة فإنه واد به شيطان ، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة في الضب : "إنا لا نتصدق بما لا نأكل" ، وهو عليه الصلاة والسلام أقوى خلق الله لرفع الوسوسة ، ولكن كرهها لدفع الوسوسة ، وقال ابن بطال : وأما بعثه صلى الله عليه وسلم بالخميصة إلى أبي جهم ، وطلب أنبجانيته فهو من باب الإدلال عليه لعلمه بأنه يفرح به .

ومنها ما قيل ما وجه تعيين أبي جهم في الإرسال إليه ، وأجيب بأن أبا جهم هو الذي أهداها له صلى الله عليه وسلم فلذلك ردها عليه ، وروى الطحاوي عن المزني عن الشافعي قال : حدثنا مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : "أهدى أبو جهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم خميصة شامية لها علم ، فشهد فيها النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ، فلما انصرف قال : ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم فإنها كادت تفتنني" .

ومنها ما قيل : أليس فيه تغيير خاطره بالرد عليه ، وأجيب بما ذكرناه الآن عن ابن بطال ، والأولى من هذا ما دلت عليه رواية أبي موسى المدني : ردوها عليه وخذوا أنبجانيته لئلا يؤثر رد الهدية في قلبه ، وعند أبي داود : "شغلني أعلام هذه ، وأخذ كرديا كان لأبي جهم فقيل : يا رسول الله ، الخميصة كانت خيرا من الكردي" ، ومنها ما قيل : أليس فيه إشارة إلى استعمال أبي جهم إياها في الصلاة ، وأجيب بأنه لا يلزم منه ذلك ، ومثله قوله : في حلة عطارد حيث بعث بها إلى عمر : إنني لم أبعث بها إليك لتلبسها ، وإنما أباح له الانتفاع بها من جهة بيع أو إكساء لغيره من النساء ، ( فإن قلت ) : ليست قضية أبي جهم مثل قضية عمر رضي الله تعالى عنه ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال له : لم أبعث بها إليك لكذا وكذا ، وهي إذا ألهت سيد الخلق مع عصمته فكيف لا تلهي أبا جهم على أنه قيل إنه كان أعمى ، فالإلهاء مفقود عنه ، ( قلت ) لعله صلى الله عليه وسلم علم أنه لا يصلي فيها ، ويحتمل أن يكون خاصا بالشارع كما قال : "كل فإني أناجي من لا تناجي" ، ومنها ما قيل كيف يخاف الافتتان من لا يلتفت إلى الأكوان ما زاغ البصر وما طغى وأجيب بأنه كان في تلك الليلة خارجا عن طباعه فأشبه ذلك نظره من ورائه ، فأما إذا رد إلى طبعه البشري فإنه يؤثر فيه ما يؤثر في البشر . ومنها ما قيل : إن المراقبة شغلت خلقا من أتباعه حتى إنه وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار ، ولم يعلم ، وأجيب بأن أولئك يؤخذون عن طباعهم فيغيبون عن وجودهم ، وكان الشارع يسلك طريق الخواص وغيرهم ، فإذا سلك طريق [ ص: 95 ] الخواص غير الكل فقال : "لست كأحدكم" ، وإذا سلك طريق غيرهم قال : "إنما أنا بشر" ، فرد إلى حالة الطبع فنزع الخميصة ليس به من ترك كل شاغل .

التالي السابق


الخدمات العلمية