صفحة جزء
384 57 - حدثنا عمرو بن عباس قال : حدثنا ابن مهدي قال : حدثنا منصور بن سعد عن ميمون بن سياه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ، فلا تخفروا الله في ذمته .
مطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله : "واستقبل قبلتنا" بيانه أنه صلى الله عليه وسلم أفرد بذكر استقبال القبلة بعد قوله : "من صلى [ ص: 125 ] صلاتنا مع كونه داخلا فيها ؛ لأنه من شرائطها ، وذلك للتنبيه على تعظيم شأن القبلة ، وعظم فضل استقبالها ، وهو غير مقتصر على حالة الصلاة بل أعم من ذلك على ما لا يخفى .

( ذكر رجاله ) وهم خمسة : الأول عمرو بالواو ابن عباس بتشديد الباء الموحدة أبو عثمان الأهوازي البصري مات سنة خمس وثلاثين ومائتين . الثاني : عبد الرحمن بن مهدي بن حسان أبو سعيد البصري اللؤلؤي . الثالث : منصور بن سعد ، وهو صاحب اللؤلؤي البصري . الرابع : ميمون بن سياه بكسر السين المهملة ، وتخفيف الياء آخر الحروف ، وبعد الألف هاء ، وهو بالفارسية ، ومعناه الأسود ، ويجوز فيه الصرف ومنعه ، أما منعه فللعلمية والعجمة ، وأما صرفه فلعدم شرط المنع ، وهو أن يكون علما في العجم ، ولفظ سياه ليس بعلم في العجم فلذلك يكون صرفه أولى ، وقال بعضهم : وهو فارسي ، وقيل : عربي . ( قلت ) قوله : وقيل : عربي غير صحيح لعدم تصرف وجوه الاشتقاق فيه . الخامس : أنس بن مالك .

( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه أن رواته كلهم بصريون .

( ذكر من أخرجه غيره ) : أخرجه النسائي في الإيمان عن حفص بن عمر عن عبد الرحمن به .

( ذكر لغاته ومعناه وإعرابه ) : قوله : "من صلى صلاتنا" أي : صلى كما نصلي ، ولا يوجد إلا من معترف بالتوحيد والنبوة ، ومن اعترف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد اعترف بجميع ما جاء به عن الله تعالى ، فلهذا جعل الصلاة علما لإسلامه ، ولم يذكر الشهادتين ؛ لأنهما داخلتان في الصلاة ، وإنما ذكر استقبال القبلة ، والصلاة متضمنة له مشروطة به ؛ لأن القبلة أعرف من الصلاة ، فإن كل أحد يعرف قبلته ، وإن كان لا يعرف صلاته ، ولأن من أعمال صلاتنا ما هو يوجد في صلاة غيرنا كالقيام والقراءة واستقبال قبلتنا مخصوص بنا ، ثم لما ذكر من العبادات ما يميز المسلم من غيره أعقبه بذكر ما يميزه عادة وعبادة ، فقال : وأكل ذبيحتنا ، فإن التوقف عن أكل الذبائح كما هو من العادات فكذلك هو من العبادات الثابتة في كل ملة ، قال الطيبي : وأقول - والله أعلم - : إذا أجري الكلام على اليهود سهل تعاطي عطف الاستقبال على الصلاة بعد الدخول فيها ، ويعضده اختصاص ذكر الذبيحة ؛ لأن اليهود خصوصا يمتنعون من أكل ذبيحتنا ، وهم الذين حين تحولت القبلة شنعوا بقولهم : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها أي : صلوا صلاتنا ، وتركوا المنازعة في أمر القبلة ، والامتناع عن أكل الذبيحة ؛ لأنه من باب عطف الخاص على العام ، فلما ذكر الصلاة عطف ما كان الكلام فيه ، وما هو مهتم بشأنه عليها كما أنه يجب عليهم أيضا عند الدخول في الإسلام أن يقروا ببطلان ما يخالفون به المسلمين في الاعتقاد بعد إقرارهم بالشهادتين . قوله : "صلاتنا" منصوب بنزع الخافض ، وهو في نفس الأمر صفة لمصدر محذوف أي : من صلى صلاة كصلاتنا كما ذكرناه . قوله : "فذلك المسلم" جواب الشرط ، وذلك مبتدأ ، وخبره المسلم ، وقوله : "الذي" صفته ، وقوله : "ذمة الله" كلام إضافي مبتدأ ، وخبره هو قوله : "له" ، والجملة صلة الموصول . قوله : "ذمة الله" الذمة الأمان والعهد ، ومعناه في أمان الله وضمانه ، ويجوز أن يراد بها الذمام ، وهو الحرمة ، ويقال : الذمة الحرمة أيضا ، قال القزاز : الذمام كل حرمة تلزمك منها مذمة ، تقول : لزمني لفلان ذمام ، وذمة ، ومذمة هذا بكسر الذال ، وكذا لزمتني له ذمامة مفتوح الأول ، وفي المحكم : الذمام والمذمة الحق ، والجمع أذمة ، والذمة العهد والكفالة ، والجمع ذمم ، وفي الغريبين : قال ابن عرفة : الذمة الضمان ، وبه سمي أهل الذمة لدخولهم في ضمان المسلمين . قال الأزهري في قوله تعالى : إلا ولا ذمة أي : ولا أمانا . قوله : "فلا تخفروا الله" قال ثعلب في فصيحه : خفرت الرجل إذا أجرته ، وأخفرته إذا نقضت عهده ، وقال كراع في المجرد ، وابن القطاع في كتاب الأفعال : أخفرته : بعثت معه خفيرا ، وقال القزاز : خفر فلان بفلان ، وأخفره إذا غدر به ، وقال ابن سيده : خفره خفرا ، وخفرا ، وأخفره نقض عهده وغدره ، وأخفر الذمة لم يف بها ( قلت ) لا تخفروا بضم التاء من الإخفار ، والهمزة فيه للسلب أي : لسلب الفاعل عن المفعول أصل الفعل نحو أشكيته أي : أزلت شكايته ، وكذلك أخفرته أي : أزلت خفارته ، وقال الخطابي : فلا تخفروا الله معناه : ولا تخونوا الله في تضييع حق من هذا سبيله ، وإنما اكتفى في النهي بذمة الله وحده ، ولم يذكر الرسول كما ذكر أولا ؛ لأنه ذكر الأصل لحصول المقصود به ، ولاستلزامه عدم إخفاره ذمة الرسول ، وأما ذكره أولا فللتأكيد ، وتحقيق عصمته مطلقا ، والضمير في ذمته يرجع إلى المسلم أو إلى الله تعالى فافهم .

( ذكر ما يستنبط منه ) : فيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر دون باطنها فمن أظهر شعائر الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك ، فإذا دخل رجل غريب في بلد من بلاد المسلمين بدين أو مذهب في الباطن [ ص: 126 ] غير أنه عليه زي المسلمين حمل على ظاهر أمره على أنه مسلم حتى يظهر خلاف ذلك ، وفيه ما يدل على تعظيم شأن القبلة ، وهي من فرائض الصلاة ، والصلاة أعظم قربات الدين ، ومن ترك القبلة متعمدا فلا صلاة له ، ومن لا صلاة له فلا دين له ، وفيه أن استقبال القبلة شرط للصلاة مطلقا إلا في حالة الخوف ، ثم من كان بمكة شرفها الله تعالى فالفرض في حقه إصابة عينها سواء كان بين المصلي وبين الكعبة حائل بجدار أو لم يكن ، حتى لو اجتهد وصلى فبان خطؤه ، فقال الرازي : يعيد ، ونقل ابن رستم عن محمد بن الحسن : لا يعيد إذا بان خطؤه بمكة أو بالمدينة قال : وهو الأقيس ؛ لأنه أتى بما في وسعه ، وذكر أبو البقاء أن جبريل عليه الصلاة والسلام وضع محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسامت الكعبة ، وقيل : كان ذلك بالمعاينة بأن كشف الحال وأزيلت الحوائل فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فوضع قبلة مسجده عليها ، وأما من كان غائبا عن الكعبة ففرضه جهة الكعبة لا عينها ، وهو قول الكرخي ، وأبي بكر الرازي ، وعامة مشايخ الحنفية ، وقال أبو عبد الله الجرجاني شيخ أبي الحسن القدوري : الفرض إصابة عينها في حق الحاضر والغائب ، وهو مذهب الشافعي . قال النووي : الصحيح عن الشافعي فرض المجتهد مطلوبية عينها ، وفي تعلم أدلة القبلة ثلاثة أوجه : أحدها أنه فرض كفاية . الثاني فرض عين ولا يصح . الثالث فرض كفاية إلا أن يريد سفرا ، وقال البيهقي في المعرفة : والذي روي مرفوعا "الكعبة قبلة من يصلي في المسجد الحرام ، والمسجد الحرام قبلة أهل مكة ممن يصلي في بيته أو في البطحاء ، ومكة قبلة أهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الآفاق" فهو حديث ضعيف لا يحتج به ، وفيه أن من جملة الشواهد بحال المسلم أكل ذبيحة المسلمين ، وذلك أن طوائف من الكتابيين والوثنيين يتحرجون من أكل ذبائح المسلمين ، والوثني الذي يعبد الوثن أي : الصنم . .

التالي السابق


الخدمات العلمية