صفحة جزء
408 80 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : هل ترون قبلتي هاهنا ؟ فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم ، إني لأراكم من وراء ظهري .
مطابقته للترجمة من حيث إن في هذا الحديث وعظا لهم وتذكيرا وتنبيها بأنه لا يخفى عليه ركوعهم وسجودهم ، يظنون أنه لا يراهم لكونه مستدبرا لهم وليس الأمر كذلك ؛ لأنه يرى من خلفه مثل ما يرى من بين يديه .

( ذكر رجاله ) : وقد تكرر ذكرهم ، وأبو الزناد - بكسر الزاي وتخفيف النون - عبد الله بن ذكوان ، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز .

( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا هاهنا عن إسماعيل عن مالك ، وأخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن قتيبة عن مالك .

[ ص: 157 ] ( ذكر معناه ) : قوله ( هل ترون قبلتي ؟ ) استفهام على سبيل إنكار ما يلزمه منه ، المعنى : أنتم تحسبون قبلتي هاهنا وأنني لا أرى إلا ما في هذه الجهة ، فوالله إن رؤيتي لا تختص بجهة قبلتي هذه ؛ فإني أرى من خلفي كما أرى من جهة قبلتي .

ثم العلماء اختلفوا هاهنا في موضعين ؛ الأول : في معنى هذه الرؤية ، فقال قوم : المراد بها العلم إما بطريق أنه كان يوحى إليه بيان كيفية فعلهم وإما بطريق الإلهام ، وهذا ليس بشيء ؛ لأنه لو كان ذلك بطريق العلم ما كانت فائدة في التقييد بقوله : " من وراء ظهري " . وقال قوم : المراد به أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير في بعض الأحوال ، وهذا أيضا ليس بشيء ، وهو ظاهر . وقال الجمهور - وهو الصواب : إنه من خصائصه عليه الصلاة والسلام ، وإن إبصاره إدراك حقيقي انخرقت له فيه العادة ، ولهذا أخرج البخاري هذا الحديث في علامات النبوة ، وفيه دلالة للأشاعرة حيث لا يشترطون في الرؤية مواجهة ولا مقابلة ، وجوزوا إبصار أعمى الصين بقعة أندلس . قلت : هو الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب ، فلذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافا للمعتزلة في الرؤية مطلقا وللمشبهة والكرامية في خلوها عن المواجهة والمكان ؛ فإنهم إنما جوزوا رؤية الله تعالى لاعتقادهم كونه تعالى في الجهة والمكان ، وأهل السنة أثبتوا رؤية الله تعالى بالنقل والعقل كما ذكر في موضعه وبينوا بالبرهان على أن تلك الرؤية مبرأة عن الانطباع والمواجهة واتصال الشعاع بالمرئي .

الموضع الثاني : اختلفوا في كيفية رؤية النبي عليه الصلاة والسلام من خلف ظهره ؛ فقيل : كانت له عين خلف ظهره يرى بها من ورائه دائما . وقيل : كانت له بين كتفيه عينان مثل سم الخياط - يعني مثل خرق الإبرة - يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره . وقيل : بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة أمثلتهم فيها فيشاهد بذلك أفعالهم .

قوله ( لا يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم ) ؛ يعني إذا كنت في الصلاة مستدبرا لكم ، ويجوز أن يكون المراد من الخشوع السجود لأنه غاية الخشوع ، وقد صرح في رواية مسلم بالسجود ، ويجوز أن يراد به أعم من ذلك فيتناول جميع أفعالهم في صلاتهم ، ( فإن قلت ) : إذا كان الخشوع بمعنى الأعم يتناول الركوع أيضا فما فائدة ذكره ؟ قلت : لكونه من أكبر عمد الصلاة ، وذلك لأن الرجل ما دام في القيام لا يتحقق أنه في الصلاة ، فإذا ركع تحقق أنه في الصلاة ، ويكون فيه عطف العام على الخاص .

قوله ( فوالله ) قسم منه صلى الله عليه وسلم ، وجوابه قوله : ( لا يخفى ) ، وقوله : ( إني لأراكم ) إما بيان وإما بدل ، قوله : ( ركوعكم ) بالرفع فاعل " لا يخفى " ، وقوله : ( ولا خشوعكم ) عطف عليه ؛ أي : لا يخفى علي خشوعكم ، والهمزة في " لأراكم " مفتوحة واللام للتأكيد .

ومما يستفاد منه أنه ينبغي للإمام إذا رأى أحدا مقصرا في شيء من أمور دينه أو ناقصا للكمال منه أن ينهاه عن فعله ويحضه على ما فيه جزيل الحظ ، ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - كيف وبخ من نقص كمال الركوع والسجود ووعظهم في ذلك بأنه يراهم من وراء ظهره كما يراهم من بين يديه ، وفي تفسير سنيد : حدثنا حجاج ، عن ابن أبي ذئب ، حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا فليح ، عن هلال بن علي ، عن أنس قال : صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ثم رقي المنبر فقال : في الصلاة وفي الركوع إني لأراكم من ورائي كما أراكم . وفي لفظ : أقيمت الصلاة فأقبل علينا بوجهه فقال : أقيموا صفوفكم وتراصوا ، فإني أراكم من وراء ظهري . وفي لفظ : أقيموا الركوع والسجود ، فوالله إني لأراكم من بعدي - وربما قال : من بعد ظهري - إذا ركعتم وإذا سجدتم . وعند مسلم : صلى بنا ذات يوم ، فلما قضى صلاته أقبل علينا بوجهه فقال : أيها الناس ، إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف ، فإني أراكم أمامي ومن خلفي . ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ! قالوا : وما رأيت يا رسول الله ؟ قال : رأيت الجنة والنار . .

التالي السابق


الخدمات العلمية