صفحة جزء
420 باب : الصلاة في مواضع الإبل
أي : هذا باب في بيان الصلاة في موضع الإبل ، وفي بعض النسخ : " في مواضع الإبل " بالجمع " . ثم إن البخاري إن أراد من مواضع الإبل معاطنها فالصلاة فيها مكروهة عند قوم خلافا لآخرين ، وإن أراد بها أعم من ذلك فالصلاة فيها غير مكروهة بلا خلاف ، وعلى كل تقدير لم يذكر في الباب حديثا يدل على أحد الفصلين ، وإنما ذكر فيه الصلاة إلى البعير وهو لا يطابق الترجمة ، وعن هذا قال الإسماعيلي : ليس في هذا الحديث بيان أنه صلى في موضع الإبل ، وإنما صلى إلى البعير لا في موضعه ، وليس إذا أنيخ البعير في موضع صار ذلك عطنا أو مأوى للإبل ، انتهى . قلت : لأن العطن اسم لمبرك الإبل عند الماء ليشرب عللا بعد نهل ، فإذا استوفت ردت إلى المراعي ، وأجاب بعضهم عن كلام الإسماعيلي بقوله : إن مراده الإشارة إلى ما ذكر من علة النهي عن ذلك وهي كونها من الشياطين ، كأنه يقول : لو كان ذلك مانعا من صحة الصلاة لامتنع مثله في جعلها أمام المصلي ، وكذلك صلاة راكبها ، وقد ثبت أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يصلي النافلة وهو على بعيره . قلت : سبحان الله ! ما أبعد هذا الجواب عن موقع الخطاب ، فإنه متى ذكر علة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل حتى يشير إليه ولم يذكر شيئا في كتابه من أحاديث النهي في ذلك ، وإنما ذكره غيره ؛ فمسلم ذكر حديث جابر بن سمرة من رواية جعفر بن أبي ثور عنه أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ . قال : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : فتوضأ من لحوم الإبل . قال : أصلي في مرابض الغنم ؟ قال : نعم . قال : أصلي في مبارك الإبل ؟ قال : لا .

وأبو داود ذكر حديث البراء من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وفيه : سئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال : لا تصلوا في مبارك الإبل ؛ فإنها من الشياطين .

والترمذي ذكر حديث أبي هريرة من حديث ابن سيرين عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل .

وابن ماجه ذكر حديث سبرة بن معبد من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني ، أخبرني أبي ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تصلي في أعطان الإبل ، وتصلي في مراح الغنم . وذكر ابن ماجه أيضا حديث عبد الله بن مغفل من رواية الحسن عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل ؛ فإنها خلقت من الشياطين . وذكر أيضا حديث ابن عمر من حديث محارب بن دثار يقول : سمعت [ ص: 181 ] عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول : توضؤوا من لحوم الإبل . . . الحديث ، وفيه : ولا تصلوا في معاطن الإبل . وذكر الطبراني في الأوسط حديث أسيد بن حضير قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : توضؤوا من لحوم الإبل ولا تصلوا في مناخها . وأخرج أيضا في الكبير حديث سليك الغطفاني عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال : توضؤوا من لحوم الإبل ولا توضؤوا من لحوم الغنم ، وصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في مبارك الإبل . وذكر أبو يعلى في مسنده حديث طلحة بن عبيد الله قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ من ألبان الإبل ولحومها ولا يصلي في أعطانها . وذكر أحمد في مسنده حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في مرابض الغنم ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر . وأخرجه الطبراني في الكبير أيضا ، ولفظه : لا تصلوا في أعطان الإبل ، وصلوا في مراح الغنم . وذكر الطبراني أيضا من حديث عقبة بن عامر في الكبير والأوسط عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل - أو في مبارك الإبل . وذكر أحمد والطبراني أيضا حديث يعيش الجهني المعروف بذي الغرة من رواية عبد الرحمن ابن أبي ليلى عنه قال : عرض أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم . . . الحديث ، وفيه : تدركنا الصلاة ونحن في أعطان الإبل فنصلي فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا . وأخرجه أحمد أيضا .

فهذا كما رأيت وقع في موضع " مبارك الإبل " ، وفي موضع " أعطان الإبل " ، وفي موضع " مناخ الإبل " ، وفي موضع " مرابد الإبل " ، ووقع عند الطحاوي في حديث جابر بن سمرة أن رجلا قال : يا رسول الله ، أصلي في مباءة الغنم ؟ قال : نعم . قال : أصلي في مباءة الإبل ؟ قال : لا . والمباءة المنزل الذي تأوي إليه الإبل ، والأعطان جمع عطن وقد فسرناه ، والمبارك جمع مبرك وهو موضع بروك الجمل في أي موضع كان ، والمناخ - بضم الميم وفي آخره خاء معجمة - المكان الذي تناخ فيه الإبل ، والمرابد - هي بالدال المهملة - الأماكن التي تحبس فيها الإبل وغيرها من البقر والغنم ، وقال ابن حزم : كل عطن فهو مبرك ، وليس كل مبرك عطنا ؛ لأن العطن هو الموضع الذي تناخ فيه عند ورودها الماء فقط ، والمبرك أعم لأنه الموضع المتخذ له في كل حال ، فإذا كان كذلك تكره الصلاة في مبارك الإبل ومواضعها سواء كانت عطنا أو مناخا أو مباءة أو مرابد أو غير ذلك . فدل هذا كله أن علة النهي فيه كونها خلقت من الشياطين ولا سيما فإنه - صلى الله عليه وسلم - علل ذلك بقوله : فإنها خلقت من الشياطين . وقد مر في رواية أبي داود : فإنها من الشياطين . وفي رواية ابن ماجه : فإنها خلقت من الشياطين . فهذا يدل على أن الإبل خلقت من الجن ؛ لأن الشياطين من الجن على الصحيح من الأقوال ، وعن هذا قال يحيى بن آدم : جاء النهي من قبل أن الإبل يخاف وثوبها فتعطب من تلاقي حينئذ ، ألا ترى أنه يقول : إنها جن ومن جن خلقت ؟ واستصوب هذا أيضا القاضي عياض .

وذكروا أيضا أن علة النهي فيه من ثلاثة أوجه أخرى ؛ أحدها : من شريك بن عبد الله أنه كان يقول : نهي عن الصلاة في أعطان الإبل لأن أصحابها من عادتهم التغوط بقرب إبلهم والبول فينجسون بذلك أعطان الإبل ، فنهى عن الصلاة فيها لذلك لا لعلة الإبل ، وإنما هو لعلة النجاسة التي تمنع من الصلاة في أي موضع ما كانت بخلاف مرابض الغنم فإن أصحابها من عادتهم تنظيف مواضعهم وترك البول فيها والتغوط ، فأبيحت الصلاة في مرابضها لذلك ، وهذا بعيد جدا مخالف لظاهر الحديث .

والوجه الثاني أن علة النهي هي كون أبوالها وأرواثها في معاطنها ، وهذا أيضا بعيد أيضا لأن مرابض الغنم تشركها في ذلك .

والوجه الثالث ذكره يحيى بن آدم ؛ أن العلة في اجتناب الصلاة في معاطن الإبل الخوف من قبلها كما ذكرناه الآن ، بخلاف الغنم لأنه لا يخاف منها ما يخاف من الإبل ، وقال الطحاوي : إن كانت العلة هي ما قال شريك فإن الصلاة مكروهة حيث يكون الغائط والبول سواء كان عطنا أو غيره ، وإن كان ما قاله يحيى فإن الصلاة مكروهة حيث يخاف على النفوس سواء كان عطنا أو غيره . وغمز بعضهم في الطحاوي بقوله : قال : إن النظر يقتضي عدم التفرقة بين الإبل والغنم في الصلاة وغيرها كما هو مذهب أصحابه ، وتعقب بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة المصرحة بالتفرقة فهو قياس فاسد الاعتبار .

قلت : هذا الكلام فاسد الاعتبار ؛ لأن الطحاوي ما قال قط : إن النظر يقتضي عدم التفرقة ، وإنما قال : حكم هذا الباب من طريق النظر : أنا رأيناهم لا يختلفون في مرابض الغنم أن الصلاة فيها جائزة ، وإنما اختلفوا في أعطان الإبل ، فقد رأينا حكم لحمان الإبل كحكم لحمان الغنم في طهارتها ورأينا حكم أبوالها كحكم أبوالها في طهارتها أو نجاستها ، فكان يجيء في النظر أيضا أن يكون حكم الصلاة في مواضع الإبل [ ص: 182 ] كهو في مواضع الغنم قياسا ونظرا على ما ذكرنا ، فمن تأمل ما قاله علم أن القياس الذي ذكره ليس من جهة عدم التفرقة وليس هو بمخالف للأحاديث الصحيحة المصرحة بالتفرقة ، وإنما ذهب إلى عدم التفرقة من حيث معارضة حديث صحيح تلك الأحاديث المذكورة وهو قوله صلى الله عليه وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا . فعمومه يدل على جواز الصلاة في أعطان الإبل وغيرها بعد أن كانت طاهرة ، وهو مذهب جمهور العلماء وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وآخرون ، وكرهها الحسن البصري وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وعن أحمد في رواية مشهورة عنه أنه إذا صلى في أعطان الإبل فصلاته فاسدة وهو مذهب أهل الظاهر ، وقال ابن القاسم : لا بأس بالصلاة فيها . وقال أصبغ : يعيد في الوقت . وفي شرح الترمذي : وحمل الشافعي وجمهور العلماء النهي عن الصلاة في معاطن الإبل على الكراهة إذا كان بينه وبين النجاسة التي في أعطانها حائل ، فإن لم يكن بينهما حائل لا تصح صلاته . قلت : إذا لم يكن بين المصلي وبين النجاسة حائل لا تجوز صلاته في أي مكان كان ، وجواب آخر عن الأحاديث المذكورة أن النهي فيها للتنزيه كما أن الأمر في مرابض الغنم للإباحة وليس للوجوب اتفاقا ولا للندب ، ( فإن قلت ) : في حديث البراء عند أبي داود " وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال : صلوا ؛ فإنها بركة " ، وعند الطبري في حديث عبد الله بن مغفل : " فإنها بركة من الرحمن " ، وفي رواية أحمد : " فإنها أقرب من الرحمة " ، وعند البزار من حديث أبي هريرة : " فإنها من دواب الجنة " ؛ فكل هذا يدل على استحباب الصلاة في مرابض الغنم لما فيها من البركة وقرب الرحمة - قلت : ذكر هذا للترغيب في الغنم لإبعادها عن حكم الإبل ، إذ وصف أصحاب الإبل بالغلظ والقسوة ووصف أصحاب الغنم بالسكينة ، ولا تعلق لاستحباب الصلاة بمرابض الغنم . ( فإن قلت ) : مرابد البقر هل تلحق بمرابض الغنم أم بمرابد الإبل ؟ قلت : ذكر أبو بكر بن المنذر أنها ملحقة بمرابد الغنم ، فلا تكره الصلاة فيها . ( فإن قلت ) : في حديث عبد الله بن عمرو من مسند أحمد إلحاقها بالإبل كما تقدم - قلت : في إسناده عبد الله بن لهيعة ، والكلام فيه مشهور .

التالي السابق


الخدمات العلمية