صفحة جزء
435 ( وأمر عمر ببناء المسجد ، وقال : أكن الناس من المطر ، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس ) .
مطابقته للترجمة ظاهرة جدا ، والمراد من المسجد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويأتي في هذا الباب أنه روي من حديث نافع أن عبد الله أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن ، وسقفه الجريد ، وعمده خشب النخل ، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا ، وزاد فيه عمر ، وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد ، وأعاد عمده خشبا ، ورواه أبو داود أيضا ؛ قوله ( باللبن ) بفتح اللام وكسر الباء الموحدة ، ويقال : اللبنة بكسر اللام وسكون الباء الموحدة ، وهي الطوب النيء ؛ قوله ( وعمده ) بضم العين والميم وبفتحهما ، جمع الكثرة لعمود البيت ، وجمع القلة أعمدة .

قوله ( أكن ) فيه أوجه : الأول : أكن بفتح الهمزة وكسر الكاف وفتح النون على صورة الأمر من الإكنان ، وهي رواية الأصيلي ، وهي الأظهر ، ويدل عليه قوله قبله ( أمر عمر ) ، وقوله بعده ( وإياك ) ، وذلك لأنه أولا أمر بالبناء ، وخاطب أحدا بذلك ثم حذره من التحمير والتصفير بقوله ( وإياك أن تحمر أو تصفر ) ، والإكنان من أكننت الشيء أي : صنته وسترته ، وحكى أبو زيد والكسائي كننته من الثلاثي بمعنى أكننته ، وقال ثعلب في ( الفصيح ) : أكننت الشيء أي : أخفيته ، وكننته إذا سترته بشيء ، ويقال : أكننت الشيء سترته وصنته من الشمس ، وأكننته في نفسي أسررته ، وفي ( كتاب فعل وأفعل ) لأبي عبيدة معمر بن المثنى ، قالت تميم : كننت الجارية أكنها كنا بكسر الكاف ، وأكننت العلم والسر ، وقالت قيس : كننت العلم والسر بغير ألف ، وأكننت الجارية بالألف ، وقال ابن الأعرابي في ( نوادره ) : أكننت السر ، وكننت وجهي من الحر ، وكننت سيفي قال : وقد يكون هذا بالألف أيضا .

الوجه الثاني : أكن الناس بضم الهمزة وكسر الكاف ، وتشديد النون المضمومة بلفظ المتكلم من الفعل المضارع ، وقال ابن التين : هكذا رويناه ، وفي هذا الوجه التفات ، وهو أن عمر أخبر عن نفسه ثم التفت إلى الصانع ، فقال : وإياك ، ويجوز أن يكون تجريدا ، فكأن عمر بعد أن أخبر عن نفسه جرد عنها شخصا ثم خاطبه بذلك .

الوجه [ ص: 205 ] الثالث قاله عياض : كن الناس بحذف الهمزة ، وكسر الكاف ، وتشديد النون من كن يكن ، وهو صيغة أمر ، وأصله أكن بالهمزة حذفت تخفيفا على غير قياس .

الوجه الرابع : كن بضم الكاف من كن فهو مكنون ، وهذا له وجه ولكن الرواية لا تساعده .

قوله ( وإياك ) كلمة تحذير ، أي احذر من أن تحمر ، وكلمة أن مصدرية ، ومفعول تحمر محذوف تقديره : إياك تحمير المسجد أو تصفيره ، ومراده الزخرفة ، وقد روى ابن ماجه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا : "ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم " ؛ قوله ( فتفتن الناس ) بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الفاء من فتن يفتن من باب ضرب يضرب فتنا وفتونا إذا امتحنته ، وضبطه ابن التين بضم تاء الخطاب من أفتن ، والأصمعي أنكر هذا ، وأبو عبيد أجازه ، وقال : فتن وأفتن بمعنى ، وهو قليل ، والفتنة اسم ، وهو في الأصل الامتحان والاختبار ، ثم كثر استعمالها بمعنى الإثم والكفر ، والقتال ، والإحراق ، والإزالة ، والصرف عن الشيء ، وقال الكرماني : ويفتن من الفتنة ، وفي بعضها من التفتين ، قلت : إذا كان من التفتين يكون من باب التفعيل ، وماضيه فتن بتشديد التاء ، وعلى ضبط ابن التين يكون من باب الإفعال ، وهو الإفتان بكسر الهمزة ، وعلى كل حال هو بفتح النون لأنه معطوف على المنصوب بكلمة أن .

التالي السابق


الخدمات العلمية