صفحة جزء
4553 328 - ( حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا ، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء ، فلم يجبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر بن الخطاب : ثكلت أم عمر ، نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ، كل ذلك لا يجيبك ، قال عمر : فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس ، وخشيت أن ينزل في القرآن ، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي ، فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن ، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه ، فقال : لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) .


مطابقته للترجمة ظاهرة ، وأسلم مولى عمر بن الخطاب كان من سبي اليمن ، وقال الواقدي : أبو زيد الحبشي البجاوي من بجاوة .

وهذا الحديث مضى في المغازي ، في باب غزوة الحديبية ، فإنه أخرجه هناك عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك إلى آخره ، ومضى الكلام فيه هناك ، ولنتكلم هنا أيضا لبعد المسافة فنقول : هذا صورته صورة الإرسال ; لأنأسلم لم يدرك زمان هذه القصة ، لكنه محمول على أنه سمع من عمر ، بدليل قوله في أثناء الحديث : فحركت بعيري ، وقال الدارقطني : رواه عن مالك ، عن زيد ، عن أبيه ، عن عمر متصلا بمحمد بن خالد بن عثمة ، وأبو الفرج عبد الرحمن بن غزوان ، وإسحاق الحنيني ، ويزيد ابن أبي حكيم ، ومحمد بن حرب المكي ، وأما أصحاب ( الموطأ ) فرووه عن مالك مرسلا .

قوله : " في بعض أسفاره " قال القرطبي : وهذا السفر كان ليلا منصرفه - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية ، لا أعلم بين أهل العلم في ذلك خلافا ، قوله : " ثكلت أم عمر " في رواية الكشميهني : ثكلتك أم عمر ، من الثكل ، وهو فقدان المرأة ولدها ، وامرأة ثاكل وثكلى ، ورجل ثاكل وثكلان، وكأن عمر - رضي الله تعالى عنه - [ ص: 176 ] دعا على نفسه حيث ألح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال ابن الأثير : كأنه دعا على نفسه بالموت ، والموت يعم كل أحد ، فإذا الدعاء عليه كلا دعاء ، ويجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يراد بها الدعاء ، كقولهم : تربت يداك ، وقاتلك الله ، قوله : " نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " بالنون وتخفيف الزاء وبالراء ، أي ألححت عليه وبالغت في السؤال ، ويروى بتشديد الزاي ، والتخفيف أشهر ، وقال ابن وهب : أكرهته ، أي أتيته بما يكره من سؤالي ، فأراد المبالغة ، والنزر : القلة ، ومنه البئر النزور القليل الماء ، قال أبو ذر : سألت من لقيت من العلماء أربعين سنة فما أجابوا إلا بالتخفيف ، وكذا ذكره ثعلب وأهل اللغة ، وبالتشديد ضبطها الأصيلي ، وكأنه على المبالغة ، وقال الداودي : نزرت : قللت كلامه ، أو سألته فيما لا يحب أن يجيب فيه .

وفيه أن الجواب ليس لكل الكلام ، بل السكوت جواب لبعض الكلام ، وتكرير عمر - رضي الله تعالى عنه - السؤال إما لكونه ظن أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسمعه ، وإما لأن الأمر الذي كان يسأل عنه كان مهما عنده ، ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابه بعد ذلك ، وإنما ترك إجابته أولا لشغله بما كان فيه من نزول الوحي ، قوله : " فما نشبت " بكسر الشين المعجمة وسكون الباء الموحدة أي : فما لبثت ولا تعلقت بشيء غير ما ذكرت ، قوله : " لهي أحب إلي " اللام فيه للتأكيد ، وإنما كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها ; لما فيها من مغفرة ما تقدم وما تأخر ، والفتح والنصر وإتمام النعمة وغيرها من رضاء الله - عز وجل - عن أصحاب الشجرة ونحوها ، وقال ابن العربي : أطلق المفاضلة بين المنزلة التي أعطيها وبين ما طلعت عليها الشمس ، ومن شرط المفاضلة استواء الشيئين في أصل المعنى ثم يزيد أحدهما على الآخر ، وأجاب ابن بطال : بأن معناه أنها أحب إليه من كل شيء ; لأنه لا شيء إلا الدنيا والآخرة ، فأخرج الخبر عن ذكر الشيء بذكر الدنيا ، إذ لا شيء سواها إلا الآخرة ، وأجاب ابن العربي بما ملخصه : أن أفعل قد لا يراد فيه المفاضلة ، كقوله خير مستقرا وأحسن مقيلا ولا مفاضلة بين الجنة والنار ، أو الخطاب وقع على ما استقر في أنفس أكثر الناس ، فإنهم يعتقدون أن الدنيا لا شيء مثلها وأنها المقصود ، فأخبر بأنها عنده خير مما تظنون أن لا شيء أفضل منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية