صفحة جزء
460 131 - ( حدثنا مسدد قال : حدثنا بشر بن المفضل عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر : ما ترى في صلاة الليل ؟ قال : مثنى مثنى ، فإذا خشي الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى ، وإنه كان يقول : اجعلوا آخر صلاتكم وترا ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به ) .
مطابقة هذا الحديث للجزء الثاني من الترجمة ظاهرة ؛ لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يدل على كون جماعة جالسين في المسجد ، ومنهم الرجل الذي سأله عن صلاة الليل ، وهذا لم يعرف اسمه ، وقال ابن بطال : شبه البخاري في الحديث جلوس الرجال في المسجد حول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بالتحلق والجلوس في المسجد للعلم ، انتهى . قلت : فعلى هذا طابق الحديث جزئي الترجمة كليهما .

( ذكر رجاله ) ، وهم خمسة : الأول : مسدد بن مسرهد ، وقد تكرر ذكره . الثاني : بشر بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة ابن المفضل على صيغة المفعول ، مر في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " رب مبلغ أوعى " . الثالث : عبيد الله بن عمر العمري مر في باب الصلاة في مواضع الإبل . الرابع : نافع مولى ابن عمر . الخامس : عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .

( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه القول ، وفيه أن رواته ما بين بصري ومدني .

( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في هذا الباب على ما يأتي إن شاء الله تعالى عن أبي النعمان ، وأخرجه أيضا عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع ، وعبد الله بن دينار عن ابن عمر ، وأخرجه الطحاوي في معاني الآثار من اثني عشر طريقا .

( ذكر معناه وإعرابه ) ؛ قوله ( وهو على المنبر ) جملة حالية ؛ قوله ( ما ترى ) يحتمل أن يكون من الرأي أي : ما رأيك ، وأن يكون من الرؤية التي هي العلم ، والمراد لازمه أي : ما حكمت ؛ إذ العالم يحكم بعلمه شرعا ؛ قوله ( مثنى مثنى ) مقول القول وهو في الحقيقة جملة ؛ لأن مقول القول يكون جملة ، فالمبتدأ محذوف تقديره : صلاة الليل مثنى مثنى ، أي : اثنين اثنين ، والثاني تأكيد للأول وهو غير منصرف لأن فيه العدل الحقيقي والصفة ؛ قوله ( فأوترت ) على صيغة الماضي أي : أوترت تلك الواحدة ( له ) أي : للمصلي ؛ قوله ( ما صلى ) جملة في محل النصب لأنها مفعول أوترت ، والفاعل فيه الضمير الذي يرجع إلى الواحدة ؛ قوله ( وإنه ) جملة استئنافية ، والضمير فيه يرجع إلى ابن عمر ، والقائل هو نافع ؛ قوله : ( بالليل ) ، وقعت في رواية الكشميهني والأصيلي فقط ؛ قوله ( أمر به ) أي : بالوتر أو بالجعل الذي يدل عليه قوله ( اجعلوا ) .

( ذكر ما يستنبط منه ) فيه جواز الحلق في المسجد للعلم والذكر وقراءة القرآن ونحو ذلك ، ( فإن قلت ) : روى مسلم من حديث جابر بن سمرة قال : " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حلق فقال : ما لي أراكم عزين " ، فهذا يعارض ذلك . قلت : تحلقهم هذا كان لغير فائدة ولا منفعة بخلاف تحلقهم في ذلك لأنه كان لسماع العلم والتعلم فلا معارضة ، وفيه أن الخطيب إذا سئل عن أمر الدين له أن يجاوب من سأله ، ولا يضر ذلك خطبته .

وفيه أن صلاة الليل ركعتان ، واختلف العلماء في النوافل فقال مالك والشافعي وأحمد : السنة أن تكون مثنى مثنى ليلا ونهارا ، وقال أبو حنيفة : الأفضل الأربع ليلا ونهارا ، وقال أبو يوسف ومحمد : الأفضل بالليل ركعتان وبالنهار أربع ، واحتج أبو حنيفة في صلاة الليل بما رواه أبو داود في سننه من حديث عائشة : " أنها سئلت عن صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوف الليل فقالت : كان يصلي صلاة العشاء في جماعة ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات ثم يأوي إلى فراشه " . . . الحديث بطوله ، وفي آخره : " حتى قبض على ذلك " ، واحتج في صلاة النهار بما رواه مسلم من حديث معاذة : " أنها سألت عائشة : كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ؟ [ ص: 252 ] قالت : أربع ركعات يزيد ما شاء " ، رواه أبو يعلى في مسنده . وفيه " لا يفصل بينهن بسلام " ( فإن قلت ) : روى الأربعة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى " . قلت : لما رواه الترمذي سكت عنه إلا أنه قال : اختلف أصحاب شعبة فيه فرفعه بعضهم ، ووقفه بعضهم ، ورواه الثقات عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر فيه صلاة النهار ، وقال النسائي : هذا الحديث عندي خطأ ، وقال في سننه الكبرى : إسناده جيد إلا أن جماعة من أصحاب ابن عمر خالفوا الأزدي فيه فلم يذكروا فيه النهار منهم سالم ونافع وطاوس ، والحديث في الصحيحين من حديث جماعة عن ابن عمر ، وليس فيه ذكر النهار ، وروى الطحاوي عن ابن عمر أنه كان يصلي بالنهار أربعا ، وبالليل ركعتين ، ثم قال : فمحال أن يروي ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالف ذلك ، فعلم بذلك أنه كان ما روي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أو كان موقوفا غير مرفوع .

( فإن قلت ) : روى الحافظ أبو نعيم في تاريخ أصفهان عن عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى " ، وروى إبراهيم الحربي في غريب الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى " . قلت : الذي رواه البخاري ومسلم أصح منهما وأقوى وأثبت ، وعلى تقدير التسليم نقول معناه شفعا لا وترا بسبيل إطلاق اسم الملزوم على اللازم مجازا جمعا بين الدليلين ، وفيه أن قوله ( فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة ) احتج به من يقول : إن الوتر ركعة واحدة ، واحتجوا أيضا بما رواه مسلم من حديث ابن مجلز قال : سمعت ابن عمر يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الوتر ركعة من آخر الليل " ، وإليه ذهب عطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن المسيب ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، وإسحاق ، وداود ، وهم جعلوا هذا الحديث أصلا في الإيتار بركعة إلا أن مالكا قال : ولا بد أن يكون قبلها شفع ليسلم بينهن في الحضر والسفر ، وعنه لا بأس أن يوتر المسافر بواحدة ، وكذا فعله سحنون في مرضه .

وقال ابن العربي : الركعة الواحدة لم تشرع إلا في الوتر ، وفعله أبو بكر وعمر ، وروي عن عثمان وسعد بن أبي وقاص ، وابن عباس ، ومعاوية ، وأبي موسى ، وابن الزبير ، وعائشة رضي الله تعالى عنهم .

وقال عمر بن عبد العزيز ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وأحمد في رواية الحسن بن حي ، وابن المبارك : الوتر ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن كصلاة المغرب ، وقال أبو عمر : يروى ذلك عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأنس بن مالك ، وأبي أمامة ، وحذيفة ، والفقهاء السبعة وأجابوا عما احتجت به أهل المقالة الأولى من الحديث المذكور ونحوه في هذا الباب بأن قوله صلى الله عليه وسلم : " الوتر ركعة من آخر الليل " يحتمل ما ذهبوا إليه ، ويحتمل أن يكون ركعة مع شفع تقدمها ، وذلك كله وتر فتكون تلك الركعة توتر الشفع المتقدم لها ، وقد بين ذلك آخر حديث الباب الذي احتج به هؤلاء ، وهو قوله : ( فأوترت له ما صلى ) ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني من هذا الباب : " فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت " ، وآخر حديثهم حجة عليهم .

وروى الترمذي في جامعه عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " كان يوتر بثلاث " . . الحديث ، وروى الحاكم في مستدركه عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوتر بثلاث لا يعقد إلا في آخره " ، وروى النسائي والبيهقي من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة عن سعيد بن هشام عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يسلم في ركعتي الوتر " ، وقال الحاكم : لا يسلم في الركعتين الأوليين من الوتر ، وقال : هذا حديث حسن صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وروى الإمام محمد بن نصر المروزي من حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يوتر بثلاث " الحديث ، وروى مسلم ، وأبو داود من رواية علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه أنه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث ، وفيه : ثم أوتر بثلاث ، وروى النسائي من رواية يحيى بن الجزار عن ابن عباس قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثماني ركعات ، ويوتر بثلاث " ، وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات " ، وروى ابن ماجه من رواية الشعبي قال : سألت عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : ثلاث عشرة منها ثمان بالليل ، ويوتر بثلاث ، وركعتين بعد الفجر ، وروى الدارقطني في سننه من حديث عبد الله بن مسعود قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وتر الليل ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب " ، وروى [ ص: 253 ] محمد بن نصر المروزي من حديث أنس بن مالك " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث " ، وروى أيضا من حديث عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث " ، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه قال : حدثنا حفص عن عمرو عن الحسن قال : أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن ، ( فإن قلت ) : روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا توتروا بثلاث ، وأوتروا بخمس أو بسبع ، ولا تشبهوا بصلاة المغرب " . قلت : روي هذا موقوفا على أبي هريرة كما روي مرفوعا ، ومع هذا هو معارض بحديث علي وعائشة ومن ذكرنا معهما من الصحابة ، وأيضا إن قوله : ( لا توتروا بثلاث ) يحتمل كراهة الوتر من غير تطوع قبله من الشفع ، ويكون المعنى : لا توتروا بثلاث ركعات وحدها من غير أن يتقدمها شيء من التطوع الشفع ، بل أوتروا هذه الثلاث مع شفع قبلها لتكون خمسا ، وإليه أشار بقوله ( وأوتروا بخمس أو أوتروا هذه الثلاث مع شفعين قبلها لتكون سبعا ، وإليه أشار بقوله : ( أو بسبع أي : أوتروا بسبع ركعات ، أربع تطوع وثلاث وتر ، ولا تفردوا هذه الثلاث كصلاة المغرب ليس قبلها شيء ، وإليه أشار بقوله ( ولا تشبهوا بصلاة المغرب ) ، ومعناه لا تشبهوا بصلاة المغرب في كونها منفردة عن تطوع قبلها ، وليس معناه : لا تشبهوا بصلاة المغرب في كونها ثلاث ركعات ، والنهي ليس بوارد على تشبيه الذات بالذات ، وإنما هو وارد على تشبيه الصفة بالصفة ، ومع هذا فيما ذكره نفي أن تكون الركعة الواحدة وترا ؛ لأنه أمر بالإيتار بخمس أو بسبع ليس إلا ، فافهم .

( فإن قلت ) : قال محمد بن نصر المروزي : لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا ثابتا مفسرا أنه أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن كما وجدنا في الخمس والسبع والتسع ، غير أنا وجدنا عنه أخبارا أنه أوتر بثلاث لا ذكر للتسليم فيها . قلت : يرد عليه ما ذكرناه من المستدرك من حديث عائشة أنه " كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن " ، وفي حديث أبي بن كعب : " لا يسلم إلا في آخرهن " ، وقد قيل : لعل محمد بن نصر لا يرى هذا ثابتا . قلت : هذا تعصب لا يجدي ولا يلزم من عدم رؤيته ثابتا أن لا يكون ثابتا عند غيره .

وفيه أن قوله ( اجعلوا آخر صلاتكم ) . . إلى آخره ، دليل على أن ذلك يقتضي الوجوب لظاهر الأمر به ، ولكنه مستحب في حق من لا يغلبه النوم ، فإن كان يغلبه ولا يثق بالانتباه أوتر قبله .

التالي السابق


الخدمات العلمية