صفحة جزء
510 12 - (حدثنا أيوب بن سليمان قال: حدثنا أبو بكر، عن سليمان، قال صالح بن كيسان: حدثنا الأعرج عبد الرحمن وغيره، عن أبي هريرة ونافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر أنهما حدثاه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا اشتد الحر، فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم).


مطابقته للترجمة من حيث إن المراد بقوله: (فأبردوا بالصلاة) هي صلاة الظهر؛ لأن الإبراد إنما يكون في وقت يشتد الحر فيه، وذلك وقت الظهر، ولهذا صرح بالظهر في حديث أبي سعيد حيث قال: أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهنم، على ما يأتي في آخر هذا الباب، فالبخاري حمل المطلق على المقيد في هذه الترجمة.

(ذكر رجاله) وهم ثمانية: الأول أيوب بن سليمان بن بلال المدني، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين. الثاني أبو بكر، واسمه عبد الحميد بن أبي أويس الأصبحي، توفي سنة ثنتين ومائة. الثالث سليمان بن بلال والد أيوب المذكور. الرابع صالح بن كيسان. الخامس الأعرج، وهو عبد الرحمن بن هرمز. السادس نافع مولى ابن عمر . السابع أبو هريرة . الثامن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما.

(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وبصيغة التثنية من الماضي في موضع واحد، وفيه العنعنة في أربعة مواضع، وفيه القول في ثلاثة مواضع، وفيه أن رواته كلهم مدنيون، وفيه صحابيان وثلاثة من التابعين، وهم صالح بن كيسان فإنه رأى عبد الله بن عمر، قاله الواقدي والأعرج ونافع، وفيه أن أبا بكر من أقران أيوب. قوله: (وغيره)؛ أي: وغير الأعرج الظاهر أنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وروى أبو نعيم هذا الحديث في المستخرج من طريق [ ص: 20 ] آخر، عن أيوب بن سليمان ولم يقل فيه: وغيره. قوله: (ونافع) بالرفع عطف على قوله: (الأعرج).

(ذكر معناه). قوله: (أنهما حدثاه)؛ أي: أن أبا هريرة وابن عمر حدثا من حدث صالح بن كيسان، ويحتمل أن يعود الضمير في أنهما إلى الأعرج ونافع، أي إن الأعرج ونافعا حدثاه؛ أي: صالح بن كيسان، عن شيخيهما بذلك، ووقع في رواية الإسماعيلي أنهما حدثا بغير ضمير، فلا يحتاج إلى التقدير المذكور. قوله: (إذا اشتد) من الاشتداد من باب الافتعال، وأصله: اشتدد؛ أدغمت الدال الأولى في الثانية. قوله: (فأبردوا) بفتح الهمزة من الإبراد، قال الزمخشري في الفائق: حقيقة الإبراد: الدخول في البرد والباء للتعدية، والمعنى: إدخال الصلاة في البرد، ويقال: معناه: افعلوها في وقت البرد، وهو الزمان الذي يتبين فيه شدة انكسار الحر؛ لأن شدته تذهب الخشوع.

وقال السفاقسي : أبردوا؛ أي: ادخلوا في وقت الإبراد، مثل أظلم دخل في الظلام، وأمسى دخل في المساء.

وقال الخطابي: الإبراد: انكسار شدة حر الظهيرة، وذلك أن فتور حرها بالإضافة إلى وهج الهاجرة برد، وليس ذلك بأن يؤخر إلى آخر برد النهار، وهو برد العشي؛ إذ فيه الخروج عن قول الأئمة. قوله: (بالصلاة)، وفي حديث أبي ذر الذي يأتي بعد هذا الحديث، (عن الصلاة) والفرق بينهما: أن الباء هو الأصل، وأما عن ففيه تضمين معنى التأخير؛ أي: أخروا عنها مبردين. وقيل: هما بمعنى واحد؛ لأن عن تأتي بمعنى الباء، كما يقال: رميت عن القوس؛ أي: بالقوس. وقيل: الباء زائدة، والمعنى: أبردوا بالصلاة، وقوله (بالصلاة) بالباء هو رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني (عن الصلاة)، كما في حديث أبي ذر .

وقال بعضهم في قوله (بالصلاة): الباء للتعدية. وقيل: زائدة، ومعنى أبردوا أخروا على سبيل التضمين. (قلت): قوله: (للتعدية) غير صحيح؛ لأنه لا يجمع في تعدية اللازم بين الهمزة والباء، وقوله على سبيل التضمين أيضا غير صحيح؛ لأن معنى التضمين في رواية عن، كما ذكرنا، لا في رواية الباء فافهم، وقد ذكرنا أن المراد من الصلاة هي صلاة الظهر. قوله: (فإن شدة الحر) الفاء فيه للتعليل، أراد أن علة الأمر بالإبراد هي شدة الحر، واختلف في حكمة هذا التأخير، فقيل: دفع المشقة؛ لكون شدة الحر مما يذهب الخشوع. وقيل: لأنه وقت تسجر فيه جهنم، كما روى مسلم من حديث عمرو بن عبسة حيث قال له - صلى الله عليه وسلم: (أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم) انتهى.

فهذه الحالة ينتشر فيها العذاب. (فإن قلت): الصلاة سبب الرحمة وإقامتها مظنة دفع العذاب، فكيف أمر - صلى الله عليه وسلم - بتركها في هذه الحالة. (قلت:) أجيب عنه بجوابين: أحدهما قاله اليعمري: بأن التعليل إذا جاء من جهة الشارع وجب قبوله، وإن لم يفهم معناه. والآخر من جهة أهل الحكمة، وهو: أن هذا الوقت وقت ظهور الغضب، فلا ينجع فيه الطلب إلا ممن أذن له، كما في حديث الشفاعة حيث اعتذر الأنبياء كلهم - عليهم السلام - للأمم بذلك، سوى النبي - عليه الصلاة والسلام - فإنه أذن له في ذلك. قوله: (من فيح جهنم) بفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره حاء مهملة، وهو سطوع الحر وفورانه، ويقال: بالواو فوح وفاحت القدرة تفوح: إذا غلت.

وقال ابن سيده : فاح الحر يفيح فيحا: سطع وهاج، ويقال: هذا خارج مخرج التشبيه والتمثيل؛ أي: كأنه فار جهنم في حرها، ويقال: هو حقيقة، وهو أن نثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة، ويقوي هذا حديث: (اشتكت النار إلى ربها)، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأما لفظ جهنم فقد قال قطرب: زعم يونس أنه اسم أعجمي، وفي الزاهر لابن الأنباري قال أكثر النحويين: هي أعجمية لا تجر للتعريف والعجمة.

وقال: إنه عربي ولم تجر للتعريف والتأنيث، وفي المغيث: هي تعريب كهنام بالعبرانية، وذكره في الصحاح في الرباعي، ثم قال: هو ملحق بالخماسي لتشديد الحرف الثالث، وفي المحكم: سميت جهنم لبعد قعرها، ولم يقولوا فيها جهنام، ويقال: بئر جهنام بعيدة القعر، وبه سميت جهنم.

وقال أبو عمرو : جهنام اسم، وهو الغليظ البعيد القعر.

(ذكر ما يستنبط منه) وهو على وجوه:

الأول: أن فيه الأمر بالإبراد في صلاة الظهر، واختلفوا في كيفية هذا الأمر، فحكى القاضي عياض وغيره أن بعضهم ذهب إلى أن الأمر فيه للوجوب.

وقال الكرماني : (فإن قلت): ظاهر الأمر للوجوب فلم قلت للاستحباب؟ (قلت:) للإجماع على عدمه.

وقال بعضهم: وغفل الكرماني فنقل الإجماع على عدم الوجوب. (قلت): لا يقال: إنه غفل بل الذين نقل عنهم فيه الإجماع كأنهم لم يعتبروا كلام من ادعى الوجوب، فصار كالعدم، وأجمعوا على أن الأمر للاستحباب. (فإن قلت): ما القرينة الصارفة [ ص: 21 ] عن الوجوب وظاهر الكلام يقتضيه. (قلت): لما كانت العلة فيه دفع المشقة عن المصلي لشدة الحر، وكان ذلك للشفقة عليه، فصار من باب النفع له، فلو كان للوجوب يصير عليه، ويعود الأمر على موضعه بالنقض، وفي التوضيح اختلف الفقهاء في الإبراد بالصلاة: فمنهم من لم يره، وتأول الحديث على إيقاعها في برد الوقت، وهو أوله، والجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم على القول به، ثم اختلفوا فقيل: إنه عزيمة. وقيل: واجب تعويلا على صيغة الأمر. وقيل: رخصة ونص عليه في البويطي، وصححه الشيخ أبو علي من الشافعية وأغرب النووي فوصفه في الروضة بالشذوذ، لكنه لم يحكه قولا وبنوا على ذلك أن من صلى في بيته أو مشى في كن إلى المسجد هل يسن له الإبراد، إن قلنا رخصة لم يسن له؛ إذ لا مشقة عليه في التعجيل، وإن قلنا سنة أبرد، وهو الأقرب؛ لورود الأثر به مع ما اقترن به من العلة من أن شدة الحر من فيح جهنم.

وقال صاحب الهداية من أصحابنا: يستحب الإبراد بالظهر في أيام الصيف، ويستحب تقديمه في أيام الشتاء. (فإن قلت): يعارض حديث الإبراد حديث إمامة جبريل عليه الصلاة والسلام؛ لأن إمامته في العصر في اليوم الأول فيما إذا صار ظل كل شيء مثله، فدل ذلك على خروج وقت الظهر، وحديث الإبراد دل على عدم خروج وقت الظهر؛ لأن امتداد الحر في ديارهم في ذلك الوقت. (قلت): الآثار إذا تعارضت لا ينقضي الوقت الثابت بيقين بالشك، وما لم يكن ثابتا بيقين هو وقت العصر لا يثبت بالشك. (فإن قلت): هل في الإبراد تحديد. (قلت): روى أبو داود والنسائي والحاكم من حديث ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - كان قدر صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام، فهذا يدل على التحديد.

اعلم أن هذا الأمر مختلف في الأقاليم والبلدان ولا يستوي في جميع المدن والأمصار، وذلك لأن العلة في طول الظل وقصره هو زيادة ارتفاع الشمس في السماء وانحطاطها، فكلما كانت أعلى وإلى محاذاة الرؤوس في مجراها أقرب كان الظل أقصر، وكلما كانت أخفض ومن محاذاة الرؤوس أبعد كان الظل أطول، ولذلك ظلال الشتاء تراها أبدا أطول من ظلال الصيف في كل مكان، وكانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة والمدينة - وهما من الإقليم الثاني - ثلاثة أقدام، ويذكرون أن الظل فيهما في أول الصيف في شهر أدار ثلاثة أقدام وشيء، ويشبه أن تكون صلاته إذا اشتد الحر متأخرة عن الوقت المعهود قبله، فيكون الظل عند ذلك خمسة أقدام، وأما الظل في الشتاء فإنهم يذكرون أنه في تشرين الأول خمسة أقدام وشيء، وفي الكانون سبعة أقدام أو سبعة وشيء، فقول ابن مسعود منزل على هذا التقدير في ذلك الإقليم دون سائر الأقاليم والبلدان التي هي خارجة عن الإقليم الثاني، وفي التوضيح اختلف في مقدار وقته فقيل: أن يؤخر الصلاة عن أول الوقت مقدار ما يظهر للحيطان ظل، وظاهر النص أن المعتبر أن ينصرف منها قبل آخر الوقت، ويؤيده حديث أبي ذر (حتى رأينا فيء التلول).

وقال مالك: إنه يؤخر الظهر إلى أن يصير الفيء ذراعا، وسواء في ذلك الصيف والشتاء.

وقال أشهب في مدونته: لا يؤخر الظهر إلى آخر وقتها.

وقال ابن بزيزة: ذكر أهل النقل عن مالك أنه كره أن يصلى الظهر في أول الوقت، وكان يقول: هي صلاة الخوارج وأهل الأهواء، وأجاز ابن عبد الحكم التأخير إلى آخر الوقت، وحكى أبو الفرج، عن مالك: أول الوقت أفضل في كل صلاة إلا الظهر في شدة الحر، وعن أبي حنيفة والكوفيين وأحمد وإسحاق: يؤخرها حتى يبرد الحر، الوجه الثاني أن بعض الناس استدلوا بقوله: (فأبردوا بالصلاة) على أن الإبراد يشرع في يوم الجمعة أيضا؛ لأن لفظ الصلاة يطلق على الظهر والجمعة، والتعليل مستمر فيها، وفي التوضيح: اختلف في الإبراد بالجمعة على وجهين لأصحابنا، أصحهما عند جمهورهم: لا يشرع، وهو مشهور مذهب مالك أيضا، فإن التبكير سنة فيها، انتهى. (قلت): مذهبنا أيضا التبكير يوم الجمعة لما ثبت في الصحيح أنهم كانوا يرجعون من صلاة الجمعة وليس للحيطان ظل يستظلون به من شدة التبكير لها أول الوقت. فدل على عدم الإبراد والمراد بالصلاة في الحديث الظهر، كما ذكرنا فعلى هذا لا يبرد بالعصر إذا اشتد الحر فيه.

وقال ابن بزيزة: إذا اشتد الحر في العصر هل يبرد بها أم لا؟ المشهور نفي الإبراد بها، وتفرد أشهب بإبراده.

وقال أيضا: وهل يبرد الفذ أم لا؟ والظاهر أن الإبراد مخصوص بالجماعة، وهل يبرد في زمن الشتاء أم لا؟ فيه قولان، والظاهر نفيه، وهل يبرد بالجمعة أم لا؟ المشهور نفيه. الوجه الثالث: فيه دليل على وجود جهنم الآن.

التالي السابق


الخدمات العلمية