صفحة جزء
وقول الله تعالى : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها إلى قوله : فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا


وقول الله بالجر عطفا على قوله : الظهار .

قوله : إلى قوله : فمن لم يستطع يعني لم يسبق بالتلاوة قوله تعالى : قد سمع الله إلى قوله : ستين مسكينا كذا في رواية أبي ذر والأكثرين ، وفي رواية كريمة ساق الآيات كلها بالكتابة إلى الموضع المذكور وهي ثلاث آيات .

قوله : قول التي أي : قول المرأة التي تجادلك أي : تخاصمك وتحاورك في زوجها وهي امرأة من الأنصار ثم من الخزرج ، واختلفوا في اسمها ونسبها ، فعن ابن عباس : هي خولة بنت خويلد ، وعن أبي العالية : خولة بنت دليم ، وعن قتادة : خويلة بنت ثعلبة ، وعن مقاتل بن حيان : خولة بنت ثعلبة بن مالك بن حرام الخزرجية من بني عمرو بن عوف ، وعن عطية عن ابن عباس : خولة بنت الصامت ، وروى هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن اسمها جميلة ، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ، وقيل : كانت أمة لعبد الله بن أبي وهي التي نزل فيها : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء وقال أبو عمر : هي خولة بنت ثعلبة بن أصرم بن [ ص: 281 ] فهر بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف ، وهو الأصح ولا يثبت شيء غير ذلك ، وزوجها أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن الخزرج الأنصاري ، شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي إلى زمن عثمان رضي الله عنه .

ثم الكلام فيه على أنواع :

الأول : في سبب نزول هذه الآيات وهو أن خولة بنت ثعلبة كانت امرأة جسيمة الجسم فرآها زوجها ساجدة في صلاتها فنظر إلى عجيزتها ، فلما انصرفت أرادها فامتنعت عليه وكان امرأ فيه سرعة ولمم ، فقال لها : أنت علي كظهر أمي ، ثم ندم على ما قال ، وكان الإيلاء والظهار من طلاق أهل الجاهلية ، فقال لها : ما أظنك إلا قد حرمت علي ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل حتى أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني ، وقد ندم ، فهل من شيء يجمعني وإياه ينعشني به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا وإنه أبو ولدي وأحب الناس إلي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي قد طالت صحبتي ونفضت له بطني أي : كثر ولدي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أراك إلا قد حرمت عليه ، ولم أومر في شأنك بشيء ، فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي ، اللهم أنزل على لسان نبيك ، وكان هذا أول ظهار في الإسلام ، فأنزل الله تعالى عليه : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها الآيات ، قال لها : ادعي زوجك ، فجاء فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمع الله الآيات ثم قال له : هل تستطيع أن تعتق رقبة ؟ قال : إذا يذهب مالي كله ، الرقبة غالية وأنا قليل المال ، فقال صلى الله عليه وسلم : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : والله يا رسول الله إن لم آكل في اليوم ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تغشو عيني ، قال : فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا ؟ قال : لا والله إلا أن تعينني على ذلك يا رسول الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني معينك بخمسة عشر صاعا ، واجتمع لهما أمرهما ، فذلك قوله تعالى : الذين يظاهرون منكم من نسائهم وكلمة منكم توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في الظهار لأنه كان من إيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم .

قوله : ما هن أمهاتهم أي : ليست النساء اللاتي يظاهرون منهن أمهاتهم ; لأنه تشبيه باطل لتباين الحالين إن أمهاتهم أي : ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول لا يعرف صحته وزورا يعني كذبا باطلا منحرفا عن الحق .

النوع الثاني في صورة الظهار : اعلم أن الألفاظ التي يصير بها المرء مظاهرا على نوعين : صريح نحو أنت علي كظهر أمي أو أنت عندي كظهر أمي ، وكناية : نحو أن يقول : أنت علي كأمي أو مثل أمي أو نحوهما يعتبر فيه نيته ، فإن أراد ظهارا كان ظهارا وإن لم ينو لا يصير ظهارا ، وعند محمد بن الحسن هو ظهار ، وعن أبي يوسف هو مثله إن كان في الغضب ، وعنه أن يكون إيلاء ، وإن نوى طلاقا كان طلاقا بائنا .

النوع الثالث : لا يكون الظهار إلا بالتشبيه بذات محرم ، فإذا ظاهر بغير ذات محرم فليس بظهار ، وبه قال الحسن وعطاء والشعبي وهو قول أبي حنيفة والشافعي في قول ، وعنه وهو أشهر أقواله : إن كل من ظاهر بامرأة حل له نكاحها يوما من الدهر فليس ظهارا ، ومن ظاهر بامرأة لم يحل له نكاحها قط فهو ظهار ، وقال مالك : من ظاهر بذات محرم أو بأجنبية فهو كله ظهار ، وعن الشعبي لا ظهار إلا بأم أو جدة وهو قول للشافعي رواه عنه أبو ثور وبه قالت الظاهرية .

واختلفوا فيمن ظاهر من أجنبية ثم تزوجها ، فروى القاسم بن محمد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : إن تزوجها فلا يقربها حتى يكفر وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب والحسن وعروة ، قال ابن حزم : صح ذلك عنهم .

( قلت ) : إن أراد بالصحة عن المذكورين فالأثر عن عمر منقطع لأن القاسم لم يولد إلا بعد قتل عمر رضي الله تعالى عنه ، وإن أراد الباقين فيمكن ، وقال في ( التلويح ) : قال ابن عمر : قال ابن أبي ليلى والحسن بن حي : إن قال : كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي أو سمى قرية أو قبيلة لزمه الظهار ، وقال الثوري فيمن قال : إن تزوجتك فأنت طالق وأنت علي كظهر أمي ، ووالله لا أقربك أربعة أشهر فما زاد ، ثم تزوجها وقع الطلاق وسقط الظهار والإيلاء لأنه بدأ بالطلاق .

النوع الرابع فيمن يصح منه الظهار : ومن لا يصح كل زوج صح طلاقه صح ظهاره سواء كان حرا أو رقيقا مسلما أو ذميا دخل بالمرأة أو لم [ ص: 282 ] يدخل بها أو كان قادرا على جماعها أو عاجزا عنه ، وكذلك يصح من كل زوجة صغيرة كانت أو كبيرة عاقلة أو مجنونة أو رتقاء أو سليمة محرمة أو غير محرمة ذمية أو مسلمة أو في عدة تملك رجعتها ، وقال أبو حنيفة : لا يصح ظهار الذمي ، وقال مالك : لا يصح ظهار العبد ، وقال بعض العلماء : لا يصح ظهار غير المدخول بها ، وقال المزني : إذا طلق الرجل امرأته طلقة رجعية ثم ظاهر منها فإنه لا يصح .

واختلف في الظهار من الأمة وأم الولد فقال الكوفيون والشافعي : لا يصح الظهار منهما ، وقال مالك والثوري والأوزاعي والليث : لا يكون من أمته مظاهرا ، احتج الكوفيون بقوله تعالى : والذين يظاهرون من نسائهم والأمة ليست من نسائنا .

النوع الخامس : في بيان الكفارة وهو تحرير رقبة قبل الوطء سواء كانت ذكرا أو أنثى صغيرة أو كبيرة مسلمة أو كافرة لإطلاق النص ، وقال الشافعي : لا تجوز الكفارة بالكافرة وبه قال مالك وأحمد ، وقال ابن حزم : يجوز المؤمن والكافر والسالم والمعيب والذكر والأنثى ، وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك : لا تجوز الرقبة المعيبة ، وقال ابن حزم : وروينا عن النخعي والشعبي أن عتق الأعمى يجزئ في ذلك ، وعن ابن جريج أن الأشل يجزئ في ذلك ، وقال أبو حنيفة : المجنون لا يصح .

واعلم أن الكفارة على أنواع :

الأول : عتق الرقبة ، فإن عجز صام شهرين متتابعين ليس فيهما شهر رمضان والأيام المنهية وهي يوما العيدين وأيام التشريق ، فإن وطئ فيهما ليلا أو نهارا ناسيا أو عامدا استأنف الصوم ، وذكر ابن حزم عن مالك أنه إذا وطئ التي ظاهر منها ليلا قبل تمام الشهرين يبتدئ بهما من ذي قبل ، وقال أبو حنيفة والشافعي : يتمهما بانيا على ما صام منهما ، وقال أصحابنا : فإن وطئها في الشهرين ليلا عامدا أو يوما ناسيا أو أفطر فيهما مطلقا يعني سواء كان بعذر أو بغير عذر استأنف الصوم عندهما ، وقال أبو يوسف : ولا يستأنف إلا بالإفطار ، وبه قال الشافعي ، وقال مالك وأحمد : إن كان بعذر لا يستأنف ولم يجز للعبد إلا الصوم ، فإن لم يستطع الصوم أطعم ستين مسكينا كالفطرة في قدر الواجب يعني : نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير ، وقال الشافعي : لكل مسكين مد من غالب قوت بلده ، وعند مالك : مد بمد هشام ، وهو مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعند أحمد من البر مد ومن تمر وشعير مدان ، وإن أطعم ثلاثين مسكينا ثم وطئ فقال الشافعي وأبو حنيفة : يتم الإطعام كما لو وطئ قبل أن يطعم لم يكن عليه إلا إطعام واحد ، وقال الليث والأوزاعي ومالك : يستأنف إطعام ستين مسكينا .

النوع السادس : فيمن ظاهر ثم كرر ثانية أو ثالثة فليس عليه إلا كفارة واحدة ، فإن كرر رابعة فعليه كفارة أخرى قاله ابن حزم ، وعن علي رضي الله تعالى عنه إذا ظاهر في مجلس واحد مرارا فكفارة واحدة ، وإن ظاهر في مقاعد شتى فعليه كفارات شتى ، والأيمان كذلك ، وهو قول قتادة وعمرو بن دينار ، وقال ابن حزم : صح ذلك عنهما ، وقال آخرون : ليس في ذلك إلا كفارة واحدة ، قال ابن حزم : روينا عن طاوس وعطاء والشعبي أنهم قالوا : إذا ظاهر من امرأة خمسين مرة فإنما عليه كفارة واحدة ، وصح مثله عن الحسن وهو قول الأوزاعي ، وقال الحسن أيضا : إذا ظاهر مرارا فإن كان في مجالس شتى فكفارة واحدة ما لم يكفر والأيمان كذلك ، قال معمر : وهو قول الزهري وقول مالك ، وقال أبو حنيفة : إن كان كرر الظهار في مجلس واحد ونوى التكرار فكفارة واحدة ، وإن لم يكن له نية فلكل ظهار كفارة ، وسواء كان ذلك في مجلس واحد أو مجالس .

النوع السابع : فيما يجوز للمظاهر أن يفعل مع امرأته التي ظاهر منها ، روي عن الثوري أنه لا بأس أن يقبل التي ظاهر منها قبل التكفير ويباشرها فيما دون الفرج ; لأن المسيس هنا الجماع وهو قول الحسن وعطاء وعمرو بن دينار وقتادة وقول أصحاب الشافعي ، وروي عنه أنه قال : أحب إلي أن يمتنع من القبلة والتلذذ احتياطا ، وقال أحمد وإسحاق : لا بأس أن يقبل ويباشر ، وأبى مالك من ذلك ليلا أو نهارا ، وكذا في صيام الشهرين قال : ولا ينظر إلى شعرها ولا إلى صدرها حتى يكفر ، وقال الأوزاعي : يأتي منها ما دون الإزار كالحائض ، وقال أصحابنا : كما يحرم عليه الوطء قبل التكفير حرمت عليه دواعيه كاللمس والقبلة بشهوة .

النوع الثامن : فيمن وجبت عليه كفارة الظهار ولم تسقط بموته ولا بموتها ولا طلاقه لها ، وهي من رأس ماله إن مات أوصى بها أو لم يوص وهذا مذهب الشافعية ، وعند أصحابنا الديون نوعان : حقوق الله وحقوق العباد ، فحق الله إن [ ص: 283 ] لم يوص به يسقط ، سواء كان صلاة أو زكاة ويبقى عليه الإثم والمطالبة في حكم الآخرة ، وإن أوصى به يعتبر من الثلث ، فعلى الوارث أن يطعم عنه لكل صلاة وقت نصف صاع كما في الفطرة وللوتر أيضا عند أبي حنيفة ، وإن كان صوما يصوم لكل يوم كصلاة كل وقت ، وإن كان حجا فعلى الوارث الإحجاج عنه من الثلث ، وكذا الحكم في النذور والكفارات ، وأما دين العباد فهو مقدم بكل حال .

النوع التاسع : في ظهار العبد ففي ( موطإ مالك ) أنه سأل ابن شهاب عن ظهار العبد فقال : نحو ظهار الحر ، وقال مالك : صيام العبد في الظهار شهران ، وقال أبو عمر : لا خلاف بين العلماء أن الظهار للعبد لازم ، وأن كفارته المجمع عليها الصوم ، قال : واختلفوا في العتق والإطعام فأجاز أبو ثور وداود للعبد العتق إن أعطاه سيده ، وأبى ذلك سائر العلماء ، وقال ابن القاسم عن مالك : إن أطعم بإذن مولاه جاز وإن أعتق بلا إذنه لم يجز ، وأحب إلينا أن يصوم ، وقال مالك : وإطعام العبد كإطعام الحر ستين مسكينا لا أعلم فيه خلافا .

النوع العاشر : في بيان العود المذكور في الآية واختلفوا في معناه ، فقال الشافعي : العود الموجب للكفارة أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار بمضي مدة يمكنه أن يطلقها فلم يطلقها ، وقال قتادة في قوله تعالى : ثم يعودون لما قالوا يريد أن يغشاها ويطأها بعدما حرمها ، وإليه ذهب أبو حنيفة قال : إن عزم على وطئها ونوى أن يغشاها يكون عودا ويلزمه الكفارة ، وإن لم يعزم على الوطء لا يكون عودا ، وقال مالك : إن وطئها كان عودا وإن لم يطأها لم يكن عودا ، وقال أصحاب الظاهر : إن كرر اللفظ كان عودا وإلا لم يكن عودا وهو قول أبي العالية ، وذكر ابن بطال أن العود عند مالك هو العزم على الوطء ، وحكي عنه أنه الوطء بعينه ، ولكن تقدم الكفارة عليه وهو قول ابن القاسم ، وأشار في ( الموطإ ) إلى أنه العزم على الإمساك والإصابة ، وعليه أكثر أصحابه ، وقال ابن المنذر : وهو قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق ، وذهب الحسن وطاوس والزهري إلى أن الوطء نفسه هو العود ، وقال الطحاوي : معنى العود عند أبي حنيفة أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها ، وفي ( التلويح ) قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : معنى العود أن الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة إلا أنه إن لم يطأها مدة طويلة حتى ماتت فلا كفارة عليه سواء أراد في خلال ذلك وطأها أو لم يرد ، فإن طلقها ثلاثا فلا كفارة عليه ، فإن تزوجها بعد زوج آخر عاد عليه حكم الظهار ولا يطؤها حتى يكفر ، وقال أبو حنيفة : الظهار قول كانوا يقولونه في الجاهلية فنهوا عنه ، فكل من قاله فقد عاد لما قال ، وقال ابن حزم : هذا لا يحفظ عن غيره ، قال ابن عبد البر : قاله قبله غيره ، وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف أنه لو وطئها ثم مات أحدهما لم يكن عليه كفارة ولا كفارة بعد الجماع .

التالي السابق


الخدمات العلمية