صفحة جزء
54 (باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى)


الكلام فيه على وجوه، الأول: أن التقدير هذا باب بيان ما جاء، وارتفاع الباب على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو مضاف إلى كلمة ما التي هي موصولة، وأن مفتوحة في محل الرفع على أنها فاعل جاء، والمعنى ما ورد في الحديث: "إن الأعمال بالنية" أخرجه البخاري هاهنا بهذا اللفظ على ما يأتي الآن، وكذلك أخرجه بهذا اللفظ في باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا في أول الكتاب أنه أخرج هذا الحديث في سبعة مواضع عن سبعة شيوخ، وقوله: "ولكل امرئ ما نوى" من بعض هذا الحديث، وقوله: "والحسبة" ليس من لفظ الحديث أصلا، لا من هذا الحديث، ولا من غيره، وإنما أخذه من لفظة "يحتسبها" التي في حديث أبي مسعود رضي الله عنه الذي ذكره في هذا الباب، فإن قلت: والحسبة عطف على قوله: "بالنية" وداخل في حكمه، وقوله: "ما جاء" يشمل كليهما وكل منهما يؤذن بأنه من لفظ الحديث، وليس كذلك؟ قلت: لا نسلم، أما المعطوف فلا يلزم أن يكون مشاركا للمعطوف عليه في جميع الأحكام، وأما شمول قوله: "ما جاء" كلا اللفظين فإنه أعم أن يكون باللفظ المروي بعينه أو بلفظ يدل عليه مأخوذ منه، وقوله: الحسبة اسم من قوله: "يحتسبها" الذي ورد في حديث أبي مسعود رضي الله عنه، فحينئذ دخلت هذه اللفظة تحت قوله: "ما جاء"، فإن قلت: سلمنا ذلك، ولكن قوله: "ولكل امرئ ما نوى" من تتمة قوله: "الأعمال بالنية"، وقوله: والحسبة ليس منه ولا من غيره بهذا اللفظ، فكان ينبغي أن يقول: باب ما جاء أن الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى، والحسبة، قلت: نعم كان هذا مقتضى الظاهر، ولكن لما كان لفظ الحسبة من الاحتساب وهو الإخلاص كان ذكره عقيب النية أمس من ذكره عقيب قوله: "ولكل امرئ ما نوى" لأن النية إنما تعتبر إذا كانت بالإخلاص قال الله تعالى: " مخلصين له الدين " وجواب آخر وهو أنه عقد هذا الباب على ثلاث تراجم: الأولى: هي أن الأعمال بالنية، والثانية: هي الحسبة، والثالثة: هي قول: "ولكل امرئ ما نوى"، ولهذا أخرج في هذا الباب ثلاثة أحاديث لكل ترجمة حديث، فحديث عمر رضي الله عنه لقوله: "الأعمال بالنية"، وحديث أبي مسعود رضي الله تعالى عنه لقوله: والحسبة، وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لقوله: "ولكل امرئ ما نوى" فلو أخر لفظ الحسبة إلى آخر الكلام وذكره عقيب قوله: [ ص: 312 ] "ولكل امرئ ما نوى" كان يفوت قصده التنبيه على ثلاث تراجم، وإنما كان يفهم منه ترجمتان الأولى من قوله: "الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى"، والثانية من قوله: "والحسبة" فانظر إلى هذه النكات هل ترى شارحا ذكرها أو حام حولها، وكل ذلك بالفيض الإلهي والعناية الرحمانية.

الوجه الثاني: وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في الباب الأول هو الأعمال التي يدخل بها العبد الجنة، ولا يكون العمل عملا إلا بالنية والإخلاص، فلذلك ذكر هذا الباب عقيب الباب المذكور، وأيضا فالبخاري أدخل الإيمان في جملة الأعمال فيشترط فيها النية، وهو اعتقاد القلب بقوله عليه الصلاة والسلام: "الأعمال بالنية"، وقال ابن بطال: أراد البخاري الرد على المرجئة أن الإيمان قول باللسان دون عقد القلب ألا يرى إلى تأكيده بقوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله" إلى آخر الحديث.

الوجه الثالث: أن الحسبة بكسر الحاء وسكون السين المهملة اسم من الاحتساب، والجمع الحسب يقال: احتسبت بكذا أجرا عند الله أي اعتددته أنوي به وجه الله تعالى، ومنه قوله عليه السلام: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وفي حديث عمر رضي الله عنه: "يا أيها الناس احتسبوا أعمالكم فإن من احتسب عمله كتب له أجر عمله وأجر حسبته"، وقال الجوهري: يقال: احتسبت بكذا أجرا عند الله، والاسم الحسبة بالكسر، وهي الأجر، وكذا قال في العباب: الحسبة بالكسر الأجر، ويقال: إنه يحسن الحسبة في الأمر إذا كان حسن التدبير له، والحسبة أيضا من الحساب مثال العقدة والركبة، وقال ابن دريد: احتسبت عليه بكذا أي أنكرته عليه، ومنه محتسب البلد، واحتسب فلان ابنا أو بنتا إذا مات، وهو كبير، فإن مات صغيرا قيل: افترطه، وقال ابن السكيت: احتسبت فلانا اختبرت ما عنده، والنساء يحتسبن ما عند الرجال لهن أي يختبرن، وقال بعضهم: المراد بالحسبة طلب الثواب، قلت: لم يقل أحد من أهل اللغة: إن الحسبة طلب الثواب بل معناها ما ذكرناه من أصحاب اللغات، وليس في اللفظ أيضا ما يشعر بمعنى الطلب، وإنما الحسبة هو الثواب على ما فسره الجوهري، والثواب هو الأجر على أنه لا يفسر به في كل موضع، ألا ترى إلى حديث عمر رضي الله عنه، فإن فيه أجر حسبته، ولو فسرت الحسبة بالأجر في كل المواضع يصير المعنى فيه كتب له أجر عمله، وأجر أجره، وهذا لا معنى له، وإنما المعنى له أجر عمله، وأجر احتساب عمله، وهو إخلاصه فيه، أو المعنى: من اعتد عمله ناويا كتب له أجر عمله، وأجر نيته.

التالي السابق


الخدمات العلمية