صفحة جزء
5430 77 - حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا عيسى بن يونس، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني زريق يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا، ثم قال: يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: [ ص: 280 ] مطبوب، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان، فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناس من أصحابه، فجاء، فقال: يا عائشة، كأن ماءها نقاعة الحناء، أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين، قلت: يا رسول الله، أفلا استخرجته؟ قال: قد عافاني الله فكرهت أن أثور على الناس فيه شرا، فأمر بها فدفنت.


مطابقته للترجمة في قوله: "سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل".

وعيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهشام هو ابن عروة، يروي عن أبيه عروة بن الزبير، عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله تعالى عنها -.

والحديث مضى في صفة إبليس بعين هذا الإسناد.

قوله: حدثنا إبراهيم بن موسى، وفي رواية أبي ذر "حدثني" بالإفراد.

قوله: عن أبيه، وقع في رواية يحيى القطان، "عن هشام حدثني أبي" وسيأتي في رواية ابن عيينة، عن ابن جريج: "حدثني آل عروة، عن عروة" وفي رواية الحميدي، عن سفيان، عن ابن جريج: "حدثني بعض آل عروة، عن عروة".

قوله: "من بني زريق" بضم الزاي وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وبالقاف، وهم بطن من الأنصار مشهور، من الخزرج، وكان بين كثير من الأنصار وبين كثير من اليهود قبل الإسلام حلف وود، فلما جاء الإسلام ودخل الأنصار فيه تبرؤوا منهم، والسنة التي وقع فيها السحر سنة سبع، قاله الواقدي، وعن الإسماعيلي: أقام فيه أربعين ليلة، وعند أحمد: ستة أشهر، وعن السهيلي أنه لبث سنة، ذكره في جامع معمر، عن الزهري.

قوله: "حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه" على صيغة المجهول، من التخييل، وبعض المبتدعة أنكروا هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها; لأن كل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وتجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، ورد عليهم ذلك بقيام الدليل على صدقه فيما بلغه من الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، وقيل: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وقال عياض: السحر تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على تمييزه ومعتقده، والدليل عليه ما روي في مرسل سعيد بن المسيب: "حتى كاد ينكر بصره".

قوله: "حتى إذا كان ذات يوم" لفظ ذات مقحم للتأكيد، وقال الزمخشري: هو من إضافة المسمى إلى اسمه، وقال الكرماني: "ذات يوم" بالرفع، ويروى بالنصب.

قوله: "أو ذات ليلة" شك من الراوي.

وقال بعضهم: الشك من البخاري; لأنه أخرجه في صفة إبليس: "حتى كان ذات يوم" ولم يشك، قلت: الشك من عيسى بن يونس، فإن إسحاق بن راهويه أخرجه في مسنده عنه على الشك.

قوله: "لكنه دعا ودعا " قال الكرماني: لكنه للاستدراك، فما المستدرك منه؟ فأجاب بقوله: إما هو عندي، أي: كان عندي، لكن لم يشتغل بي، بل بالدعاء، وإما كان يخيل إليه أنه يفعله، أي: كان المتخيل في الفعل لا في القول والعلم; إذ كان دعاؤه على الصحيح والقانون المستقيم، ووقع في رواية ابن نمير عند مسلم: "فدعا ثم دعا ثم دعا" وهذا هو المعهود منه أنه كان يكرر الدعاء ثلاثا.

قوله: "أشعرت" أي: أعلمت.

قوله: "أفتاني فيما استفتيته" أي: أجابني فيما دعوته، وفي رواية الحميدي: "أفتاني في أمر استفتيته فيه" ووقع في رواية عمرة، عن عائشة: "إن الله أنبأني بمرضي".

قوله: "أتاني رجلان" ووقع في رواية أحمد والطبراني، كلاهما عن هشام: "أتاني ملكان" وسماهما ابن سعد في رواية منقطعة " جبرائيل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام ".

قوله: "فقعد أحدهما عند رأسي" الظاهر أن الذي قعد عند رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام لخصوصيته به - صلى الله عليه وسلم -.

قوله: "فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟" روى النسائي من حديث زيد بن أرقم: "سحر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أياما، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: إن رجلا من اليهود سحرك، عقد لك عقدا في بئر كذا" فدل هذا على أن المسئول هو جبريل والسائل ميكائيل عليهما السلام.

قوله: "ما وجع الرجل؟" كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية ابن عيينة: "ما بال الرجل" وفي حديث ابن عباس عند البيهقي: ما نرى فيه؟

فإن قلت: هذا السؤال والجواب هل كانا والنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - نائم أو في اليقظة؟

قلت: قيل: كان ذلك في المنام; إذ لو جاء إليه وهو يقظان كانا يخاطبانه وهو يسمع، وأطلق في رواية عمرة، عن عائشة أنه كان نائما، ووقع عند ابن سعد من حديث ابن عباس [ ص: 281 ] بسند ضعيف جدا: فهبط عليه ملكان وهو بين النائم واليقظان وعلى كل حال رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي.

قوله: "مطبوب" أي: مسحور، يقال: طب الرجل بالضم إذا سحر، فقال: كنوا عن السحر بالطب؛ تفاؤلا كما قالوا للديغ سليم، وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء طب، والسحر من الداء، فيقال له طب.

قوله: "في مشط ومشاطة" المشط بضم الميم وسكون الشين وبضمها وبكسر الميم وإسكان الشين، وأنكر أبو زيد كسر الميم، وأثبته أبو عبيد، وهو الآلة المعروفة التي يسرح بها الرأس واللحية، والمشط العظم العريض في الكتف وسلاميات القدم ونبت صغير يقال له مشط الذئب، وقال القرطبي: يحتمل أن يكون الذي سحر فيه النبي أحد هذه الأربعة. قلت: المشهور هو الأول. والمشاطة بضم الميم وتخفيف الشين المعجمة: ما يخرج من الشعر عند التسريح، وفيه خلاف يأتي في آخر الباب.

قوله: "وجف طلع نخلة ذكر" بإضافة "جف" إلى "طلع" وإضافة "طلع" إلى "نخلة" ويروى "طلعة نخلة" وقال الكرماني: التاء في طلعة ونخلة للفرق بين الجنس ومفرده كتمر وتمرة، وقال عياض: وقع للجرجاني في البخاري وللعذري في مسلم "جف" بالفاء، ولغيرهما بالباء الموحدة، وفي رواية عيسى بن يونس هنا بالفاء، وللكشميهني ولغيره بالباء الموحدة، وفي روايته في بدء الخلق بالفاء للجميع، وفي رواية أبي أسامة للمستملي بالباء الموحدة وللكشميهني بالفاء، وفي رواية أبي ضمرة في الدعوات بالفاء للجميع، وهو بضم الجيم وتشديد الفاء: وعاء طلع النخل، وهو الغشاء الذي يكون عليه، وذكر القرطبي: الذي هو بالفاء وعاء الطلع مثل ما ذكرنا، وبالباء الموحدة داخل الطلعة إذا خرج منها الكفرى، قاله شمر، ويطلق الجف على الذكر والأنثى، فلذلك وصفه بقوله: "ذكر" والطلع ما يطلع من النخل وهو الكمء قبل أن ينشق، ويقال: ما يبدو من الكمء طلع أيضا، وهو شيء أبيض يشبه بلونه الإنسان وبرائحته المني، قاله في المغرب.

قوله: "ذروان" بفتح الذال المعجمة وسكون الراء، وحكى ابن التين فتحها وأنه قرأه كذلك، قال: ولكنه بالسكون أشبه، وقال صاحب التوضيح: وفي بعض نسخه "ذي أروان" بفتح الهمزة وسكون الراء وبالواو والنون وهو بالمدينة في بني زريق، ووقع في كتاب الدعوات منه "ذروان في بني زريق" وعند الأصيلي، عن أبي زيد: "ذي أوان" بواو من غير راء، قال ابن قرقول: هو وهم، إنما "ذو أوان" موضع آخر على ساعة من المدينة وبه بني مسجد الضرار، وفي كتاب البكري قال القتبي: هي بئر أروان بالهمزة مكان الذال، وقال الأصمعي: وبعضهم يخطئ ويقول "ذروان".

قوله: "فأتاها" أي: فأتى البئر رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -.

قوله: "فجاء" أي: لما أتاها النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وشاهدها، ثم رجع فجاء إلى عائشة وأخبرها، وفي رواية وهيب: فلما رجع قال: يا عائشة، وفي رواية أبي أسامة: فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى البئر فنظر إليها، ثم رجع إلى عائشة.

قوله: "نقاعة الحناء" بضم النون وتخفيف القاف، أراد أن ماء هذا البئر لونه كلون الماء الذي ينقع فيه الحناء، يعني أحمر، والحناء بالمد معروف، وقال القرطبي: كان ماء البئر تغير إما لرداءته وطول إقامته، وإما لما خالطه من الأشياء التي ألقيت في البئر.

قوله: "وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين" وفي رواية بدء الخلق: "كأنه رؤوس الشياطين" بدون ذكر النخل، شبهها برؤوس الشياطين في وحاشة منظرها وسماجة شكلها، وهو مثل في استقباح الصورة، قال الفراء: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يشبه طلعها في قبحه برؤوس الشياطين؛ لأنها موصوفة بالقبح (الثاني): أن العرب تسمي بعض الحيات شيطانا (الثالث): نبت قبيح يسمى رؤوس الشياطين، قيل: إنه يوجد باليمن.

فإن قلت: كيف شبهه بها ونحن لم نرها؟

قلت: على قول من قال هي نبت أو حيات ظاهر، وعلى القول الثالث أن المقصود ما وقع عليه التعارف من المعاني. فإذا قيل: فلان شيطان، فقد علم أن المعنى خبيث قبيح، والعرب إذا قبحت مذكرا شبهته بالشيطان، وإذا قبحت مؤنثا شبهته بالغول ولم ترها، والشيطان نونه أصلية، ويقال: زائدة.

قوله: "قلت: يا رسول الله" القائلة هي عائشة، ويروى: "أفلا استخرجته".

قوله: "قد عافاني الله" يحتمل معنيين أحدهما: لما عافاني الله من مرض السحر فلا حاجة إلى استخراجه، والآخر: عافاني الله من الاشتغال باستخراج ذلك; لأن فيه تهييج الشر، وما أنا بفاعل لذلك.

قوله: "أن أثور " بفتح الثاء المثلثة وتشديد الواو، ويروى: أن أثير من الإثارة، وكلاهما بمعنى واحد.

قوله: "شرا" منصوب; لأنه مفعول "أثور" وفي رواية الكشميهني: "سوءا" وهو تعليم المنافقين السحر من ذلك، ويؤذون المسلمين به، وهذا من باب ترك مفسدة لخوف مفسدة أعظم منها.

ووقع في رواية ابن عيينة أنه استخرجه، وأن [ ص: 282 ] سؤال عائشة إنما وقع عن النشر فأجابها بلا، وفي رواية عمرة عن عائشة: فنزل رجل فاستخرجه، وفيه من الزيادة أنه وجد في الطلعة تمثالا من شمع تمثال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل عليه السلام بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألما، ثم يجد بعدها راحة.

وقوله: "على الناس" فيه تعميم، ووقع في رواية ابن نمير: "على أمتي" وهو أيضا قابل للتعميم; لأن الأمة تطلق على أمة الإجابة وأمة الدعوة وعلى ما هو أعم، وهو يرد على من زعم أن المراد بالناس هنا لبيد بن الأعصم; لأنه كان منافقا، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن لا يثير عليه شرا; لأنه كان يؤثر الإغضاء عمن يظهر الإسلام ولو صدر منه ما صدر.

ووقع في حديث عمرة، عن عائشة "فقيل: يا رسول الله، لو قتلته؟ قال: ما وراءه من عذاب الله أشد" وفي رواية عمرة: "فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعترف فعفا عنه" وقد تقدم في كتاب الجزية قول ابن شهاب: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتله، وأخرج ابن سعد من مرسل عكرمة أنه لم يقتله ونقل عن الواقدي أن ذلك أصح من رواية من قال إنه قتله.

قوله: "فأمر بها" أي: بالبئر "فدفنت".

التالي السابق


الخدمات العلمية