صفحة جزء
[ ص: 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب العلم
الكلام فيه على أنواع ; الأول : أن لفظ كتاب مرفوع ; لأنه خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى العلم ، والتقدير : هذا كتاب العلم ، أي في بيان ما يتعلق به وليس هو في بيان ماهية العلم ; لأن النظر في الماهيات وحقائق الأشياء ليس من فن الكتاب .

الثاني : أنه قدم هذا الكتاب على سائر الكتب التي بعده ; لأن مدار تلك الكتب كلها على العلم ، وإنما لم يقدم على كتاب الإيمان لأن الإيمان أول واجب على المكلف أو لأنه أفضل الأمور على الإطلاق وأشرفها ، وكيف لا وهو مبدأ كل خير علما وعملا ومنشأ كل كمال دقا وجلا !

فإن قلت : فلم قدم كتاب الوحي عليه ؟ قلت : لتوقف معرفة الإيمان وجميع ما يتعلق بالدين عليه ، أو لأنه أول خير نزل من السماء إلى هذه الأمة - وقد أشبعنا الكلام في كتاب الإيمان فليعاود هناك .

الثالث : أن العلم في اللغة مصدر علمت وأعلم علما ، قال الجوهري : علمت الشيء أعلمه علما عرفته - بالكسر . فهذا كما ترى لم يفرق بين العلم والمعرفة ، والفرق بينهما ظاهر ; لأن المعرفة إدراك الجزئيات والعلم إدراك الكليات ، ولهذا لا يجوز أن يقال الله عارف كما يقال عالم . وقال ابن سيده : العلم نقيض الجهل ، علم علما ، وعلم هو نفسه ، ورجل عالم وعليم من قوم علماء . وعلام وعلامة من قوم علامين ، والعلام والعلامة النسابة . ويقال : إذا بولغ في وصف الشخص بالعلم يقال له علامة . وعلمه العلم وأعلمه إياه فتعلمه .

وفرق سيبويه بينهما فقال : علمت كأدبت وأعلمت كأديت ، وقال أبو عبيد عبد الرحمن : عالمني فلان فعلمته أعلمه - بالضم ، وكذلك كل ما كان من هذا الباب بالكسر في يفعل فإنه في باب المغالبة يرفع إلى الضم كضاربته فضربته أضربه ، وعلم بالشيء شعر .

وقال يعقوب : إذا قيل لك اعلم كذا - قلت : قد علمت . وإذا قيل : تعلم - لم تقل قد تعلمت . وفي المخصص : علمته الأمر وأعلمته إياه فعلمه وتعلمه . وقال أبو علي : سمي العلم علما لأنه من العلامة ، وهي الدلالة والإشارة .

ومما هو ضرب من العلم قولهم : اليقين . ولا ينعكس ، فنقول : كل يقين علم ، وليس كل علم يقينا ; وذلك أن اليقين علم يحصل بعد استكمال استدلال ونظر لغموض فيه ، والعلم النظر والتصفح .

ومن العلم الدراية ، وهي ضرب منه مخصوص .

ثم العلماء اختلفوا في حد العلم ; فقال بعضهم : لا يحد . وهؤلاء اختلفوا في سبب عدم تحديده ; فقال إمام الحرمين والغزالي : لعسر تحديده ، وإنما تعريفه بالقسمة والمثال . وقال بعضهم - ومنهم الإمام فخر الدين : لأنه ضروري ; إذ لو لم يكن ضروريا لزم الدور ، واللازم باطل فالملزوم مثله . بيان الملازمة أنه لو لم يكن ضروريا لكان نظريا ; إذ لا واسطة ، ولو كان نظريا لزم الدور ، ينتج أنه لو لم يكن ضروريا لزم الدور .

وإنما قلنا : إنه لو كان نظريا لزم الدور لأنه لو كان نظريا لعلم بغير العلم لامتناع اكتسابه من نفسه ، وغير العلم لا يعلم إلا بالعلم ، فيلزم معرفة العلم بغير العلم الذي لا يعلم إلا بالعلم فيلزم الدور ، وهو محال لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه واستلزامه امتناع تصور العلم المتصور .

وقال الآخرون : إنه يحد . ولهم فيه أقوال ، وأصح الحدود أنه صفة من صفات النفس توجب تمييزا لا يحتمل النقيض في الأمور المعنوية .

فقوله " صفة " جنس لتناوله لجميع صفات النفس ، وقوله " توجب تمييزا " احتراز عما لم يوجب تمييزا كالحياة ، وقوله " لا يحتمل النقيض " احتراز عن مثل الظن ، وقوله " في الأمور المعنوية " يخرج إدراك الحواس ; لأن إدراكها في الأمور الظاهرة المحسوسة .

التالي السابق


الخدمات العلمية