صفحة جزء
632 55 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن حفص بن عاصم، عن عبد الله بن مالك ابن بحينة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل. قال: وحدثني عبد الرحمن قال: حدثنا بهز بن أسد قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني سعد بن إبراهيم قال: سمعت حفص بن عاصم قال: سمعت رجلا من الأزد يقال له: مالك ابن بحينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لاث به الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: آلصبح أربعا؟! آلصبح أربعا؟!


مطابقته للترجمة في قوله: " آلصبح أربعا " حيث أنكر صلى الله تعالى عليه وسلم على الرجل الذي كان يصلي ركعتين بعد أن أقيمت صلاة الصبح، فقال: " آلصبح أربعا " أي: آلصبح تصلي أربعا؟ لأنه إذا صلى ركعتين بعد أن أقيمت الصلاة ثم يصلي مع الإمام ركعتين صلاة الصبح، فيكون في معنى من صلى الصبح أربعا، فدل هذا على أن لا صلاة بعد الإقامة إلا الصلاة المكتوبة.

(فإن قلت): حديث الترجمة أعم لأنه يشمل سائر الصلوات، وحديث الباب في صلاة الصبح.

(قلت): كلاهما في المعنى واحد لأن الحكم في الإنكار فيه أن يتفرغ المصلي للفريضة من أولها حتى لا تفوته فضيلة الإحرام مع الإمام، فهذا يعم الكل في الحقيقة، وقال بعضهم: يحتمل أن تكون اللام في حديث الترجمة عهدية فيتفقان.

(قلت): لا حاجة إلى ذكر الاحتمال لأن الأصل في اللام أن تكون للعهد في الأصل، فحين قال صلى الله عليه وسلم: " إذا أقيمت الصلاة " لا نزاع أنه كان ذلك في وقت صلاة من الصلوات.

(ذكر رجاله) وهم تسعة: الأول: عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى أبو القاسم القرشي العامري الأوسي المدني .

الثاني: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو إسحاق الزهري المدني .

الثالث: أبوه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف .

الرابع: حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب .

الخامس: عبد الله بن مالك ابن بحينة، وبحينة بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون وفي آخره هاء، وهي بنت الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وهو اسم أم عبد الله، وقال أبو نعيم الأصفهاني : بحينة أم أبيه مالك بن القشب بكسر القاف وسكون الشين المعجمة، وفي آخره باء موحدة، وهو لقب واسمه جندب بن نضلة بن عبد الله بن رافع الأزدي، وقال ابن سعد : بحينة عبدة بنت الحارث لها صحبة، وقال: قدم مالك بن القشب مكة في الجاهلية فحالف بني المطلب بن عبد مناف وتزوج بحينة بنت الحارث بن المطلب، وأدركت بحينة الإسلام فأسلمت وصحبت، وأسلم ابنها عبد الله قديما، وحكى ابن عبد البر خلافا لبحينة : هل هي أم عبد الله أو أم مالك؟ والصواب أنها أم عبد الله كما قلنا.

السادس: عبد الرحمن بن بشر بن الحكم بن محمد النيسابوري، مات في سنة ستين ومائتين.

السابع: بهز بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء، وفي [ ص: 183 ] آخره زاي ابن أسد العمي أبو الأسود البصري .

الثامن: شعبة بن الحجاج .

التاسع: مالك ابن بحينة، قال ابن الأثير : له صحبة، وقال الذهبي في تجريد الصحابة: مالك ابن بحينة والد عبد الله ورد عنه حديث وصوابه لعبد الله، وقال ابن عساكر في ترجمته: مالك ابن بحينة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها وهم، وقال ابن معين : عبد الله هو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس يروي أبوه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا نقله عنه الغساني .

(ذكر لطائف إسناده) هنا إسنادان: الأول: عن عبد العزيز، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن حفص بن عاصم، عن عبد الله بن مالك .

الإسناد الثاني: عن عبد الرحمن، عن بهز، عن شعبة، عن سعد، عن حفص، عن مالك ابن بحينة، هكذا يقول شعبة في هذا الصحابي، وتابعه على ذلك أبو عوانة وحماد بن سلمة وحكم الحفاظ يحيى بن معين وأحمد ومسلم والنسائي والإسماعيلي والدارقطني وأبو مسعود وآخرون عليهم بالوهم في موضعين: أحدهما: أن بحينة والدة عبد الله لا والدة مالك، والآخران الصحبة والرواية لعبد الله لا لمالك، وجنح الداودي إلى أن مالكا له صحبة حيث قال: وهذا الاختلاف لا يضر، فأي الرجلين كان فهو صاحب.

(فإن قلت): لم لم يسق البخاري لفظ رواية إبراهيم بن سعد وتحول إلى رواية شعبة؟

(قلت): كأنه أوهم أنهما متوافقتان وليس كذلك، وقد ساق مسلم رواية إبراهيم بن سعد بالسند المذكور، ولفظه " مر برجل يصلي وقد أقيمت صلاة الصبح فكلمه بشيء لا ندري ما هو، فلما انصرفنا أحطنا نقول: ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال لي: " يوشك أحدكم أن يصلي الصبح أربعا " ففي هذا السياق مخالفة لسياق شعبة في كونه صلى الله عليه وسلم كلم الرجل وهو يصلي، ورواية شعبة تقتضي أنه كلمه بعدما فرغ.

(قلت): يمكن الجمع بينهما أنه كلمه أولا سرا، ولهذا احتاجوا أن يسألوه، ثم كلمه ثانيا جهرا فسمعوه، وفائدة التكرار تقرير الإنكار. وفيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضعين. وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه السماع في موضعين. وفيه القول في سبعة مواضع. وفيه أن رواته ما بين نيسابوري وبصري ومدني وواسطي. وفيه أن شيخه عبد العزيز من أفراده. وفيه اثنان من الصحابة على قول من يقول: مالك ابن بحينة من الصحابة. وفيه اثنان من التابعين أحدهما سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف كان من أجلة التابعين، والآخر حفص بن عاصم .

(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم في الصلاة عن القعنبي، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، وعن قتيبة، عن أبي عوانة، عن سعد بن إبراهيم، عن حفص بن عاصم، عن ابن بحينة به قال: وقوله: عن أبيه خطأ بحينة هي أم عبد الله، قال أبو مسعود : وهذا يخطئ فيه القعنبي بقوله: عن أبيه، وأسقط مسلم من أوله: عن أبيه ثم قال: في عقبه، وقال القعنبي : عن أبيه، وأهل العراق منهم شعبة وحماد بن سلمة وأبو عوانة يقولون: عن سعد، عن حفص، عن مالك ابن بحينة، وأهل الحجاز قالوا في نسبة عبد الله بن مالك ابن بحينة وهو الأصح، وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة به، وعن محمود بن غيلان، عن وهب بن جرير، عن شعبة بإسناد نحوه، وقال هذا خطأ، والصواب عبد الله بن بحينة، وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي مروان محمد بن عثمان العثماني، عن إبراهيم بن سعد به.

(ذكر معناه) قوله: " من الأزد " بسكون الزاي، ويقال له: الأسد أيضا، وهم أزد شنوءة وبالسين رواية الأصيلي .

قوله: " رأى رجلا " هو عبد الله الراوي كما رواه أحمد من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو يصلي "، وفي رواية " خرج وابن القشب يصلي " وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والبزار والحاكم وغيرهم، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " كنت أصلي وأخذ المؤذن بالإقامة فجذبني النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أتصلي الصبح أربعا؟ "

(فإن قلت): يحتمل أن يكون الرجل هو ابن عباس؟

(قلت): لا بل هما قضيتان.

قوله: " وقد أقيمت " هو ملتقى الإسنادين، والقدر المشترك بين الطريقين إذ تقديره مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل، وقد أقيمت، ومعناه وقد نودي للصلاة بالألفاظ المخصوصة.

قوله: " فلما انصرف " أي: من الصلاة.

قوله: " لاث به الناس " بالثاء المثلثة الخفيفة أي: دار وأحاط، وقال ابن قتيبة : أصل اللوث الطي، ويقال: لاث عمامته أي: أدارها، ويقال: فلان يلوث بي أي: يلوذ بي، والمقصود أن الناس أحاطوا به والتفوا حوله، والضمير في " به " يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن طريق إبراهيم بن سعد المتقدمة تقتضي أنه يرجع إلى الرجل.

قوله: " آلصبح أربعا " بهمزة ممدودة في أوله ويجوز قصرها وهو استفهام للإنكار التوبيخي، والصبح منصوب بإضمار فعل [ ص: 184 ] مقدر تقديره: أتصلي الصبح؟ وقال الكرماني : ويجوز الصبح بالرفع أي: الصبح تصلى أربعا.

(قلت): يكون الصبح على هذا التقدير مبتدأ، وقوله: " تصلي أربعا " جملة وقعت خبرا، والضمير محذوف لأن تقديره تصليه أربعا، والضمير الذي يقع مفعولا حذفه شائع ذائع، وانتصاب أربعا على الحال قاله ابن مالك، وقال الكرماني : على البدلية.

(قلت): يكون بدل الكل من الكل لأن الصبح صار في معنى الأربع، ويجوز أن يكون بدل الكل من البعض لأن الأربع ضعف صلاة الصبح، ويجوز أن يكون بدل الاشتمال لأن الذي صلاها الرجل أربع ركعات في المعنى.

(ذكر ما يستنبط منه) وهو على وجوه: الأول: اختلف العلماء فيمن دخل المسجد لصلاة الصبح فأقيمت الصلاة: هل يصلي ركعتي الفجر أم لا؟ فكرهت طائفة أن يركع ركعتي الفجر في المسجد والإمام في صلاة الفجر محتجين بهذا الحديث، وروي ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة وسعيد بن جبير وعروة وابن سيرين وإبراهيم وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وقالت طائفة: لا بأس أن يصليهما خارج المسجد إذا تيقن أنه يدرك الركعة الأخيرة مع الإمام وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي، إلا أن الأوزاعي أجاز أن يركعهما في المسجد، وقال الثوري : إن خشي فوت ركعة دخل معه ولم يصلهما وإلا صلاهما في المسجد، وقال صاحب الهداية: ومن انتهى إلى الإمام في صلاة الفجر وهو لم يصل ركعتي الفجر، إن خشي أن تفوته ركعة يعني من صلاة الفجر لاشتغاله بالسنة ويدرك الركعة الأخرى وهي الثانية يصلي ركعتي الفجر عند باب المسجد ثم يدخل المسجد، لأنه أمكنه الجمع بين الفضيلتين يعني: فضيلة السنة وفضيلة الجماعة، وإنما قيد بقوله عند باب المسجد لأنه لو صلاهما في المسجد كان متنفلا فيه مع اشتغال الإمام بالفرض وأنه مكروه لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " وخصت سنة الفجر بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل " رواه أبو داود عن أبي هريرة، هذا إذا كان عند باب المسجد موضع لذلك وإن لم يكن يصليهما في المسجد خلف سارية من سواريه خلف الصفوف، وذكر فخر الإسلام: وأشدها كراهة أن يصلي مخالطا للصف مخالفا للجماعة، والذي يلي ذلك خلف الصف من غير حائل بينه وبين الصف، وفي الذخيرة السنة في سنة الفجر - يعني: ركعتي الفجر - أن يأتي بهما في بيته، فإن لم يفعل فعند باب المسجد إذا كان الإمام يصلي فيه، فإن لم يمكنه ففي المسجد الخارج إذا كان الإمام في المسجد الداخل، وفي الداخل إذا كان الإمام في الخارج وفي المحيط. وقيل: يكره ذلك كله لأن ذلك بمنزلة مسجد واحد، وعند الظاهرية أنه يقطع الصلاة إذا أقيمت الصلاة، وفي الجلاب يصليهما.

وإن فاتته الصلاة مع الإمام إذا كان الوقت واسعا واستدل من كره صلاتهما بحديث الباب وبما في مسلم من حديث عبد الله بن سرجس " جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح، فصلى ركعتين ثم دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فلما انصرف قال له: يا فلان أيتهما صلاتك التي صليتها وحدك أو التي صليت معنا " وبما ذكره ابن خزيمة في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: " كنت أصلي " الحديث وقد ذكرناه عن قريب، وعند ابن خزيمة عن أنس خرج النبي صلى الله عليه وسلم حين أقيمت الصلاة فرأى ناسا يصلون ركعتين بالعجلة فقال: صلاتان معا، فنهى أن تصليا في المسجد إذا أقيمت الصلاة.

(فإن قلت): قد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الإقامة في بيت ميمونة .

(قلت): هذا الحديث وهاه ابن القطان وغيره وفي كتاب الصلاة للدكيني عن سويد بن غفلة كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يضرب على الصلاة قبل الإقامة، ورأى ابن جبير رجلا يصلي حين أقيمت الصلاة، فقال: ليست هذه ساعة صلاة، وعن صفوان بن موهب أنه سمع مسلم بن عقيل يقول للناس وهم يصلون وقد أقيمت الصلاة: ويلكم إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، وعند البيهقي رأى ابن عمر رجلا يصلي الركعتين والمؤذن يقيم فحصبه، وقال: أتصلي الصبح أربعا وذكر، أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي في كتابه مسند ابن عمر رفعه من حديث قدامة بن موسى، عن رجل من بني حنظلة، عن أبي علقمة عن يسار بن نمير مولى ابن عمر قال: " رآني ابن عمر وأنا أصلي الفجر فقال: يا يسار إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا ونحن نصلي هذه الصلاة فتغيظ علينا، وقال: ليبلغ شاهدكم غائبكم لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتين " وذكر ابن حزم نحوه عن ابن سيرين وإبراهيم، وعند أبي نعيم الفضل عن طاوس : " إذا أقيمت الصلاة وأنت في الصلاة فدعها، وعند عبد الرزاق [ ص: 185 ] قال سعيد بن جبير : " اقطع صلاتك عند الإقامة "، وعند ابن أبي شيبة قال سفيان : كان قيس بن أبي حازم يؤمنا، فأقام المؤذن الصلاة وقد صلى ركعة فتركها، ثم تقدم فصلى بنا، وكذا قاله الشعبي .

واستدل من أجاز ذلك بقوله تعالى: ولا تبطلوا أعمالكم وبما رواه البيهقي من طريق حجاج بن نصير، عن عباد بن كثير، عن ليث، عن عطاء، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الفجر " قال البيهقي : هذه الزيادة لا أصل لها، وحجاج وعباد ضعيفان.

(قلت): قال يعقوب بن شيبة : سألت ابن معين عن حجاج بن نصير الفساطيطي البصري، فقال: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات، وعباد بن كثير كان من الصالحين، وعن ابن مسعود أنه دخل المسجد وقد أقيمت صلاة الصبح، فركع ركعتي الفجر إلى أسطوانة بمحضر حذيفة وأبي موسى، قال ابن بطال : وروي مثله عن عمر بن الخطاب وأبي الدرداء وابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وعن ابن عمر أنه أتى المسجد لصلاة الصبح فوجد الإمام يصلي فدخل بيت حفصة فصلى ركعتين ثم دخل في صلاة الإمام، وعند ابن أبي شيبة عن إبراهيم كان يقول: إن بقي من صلاتك شيء فأتممه، وعنه إذا افتتحت الصلاة تطوعا وأقيمت الصلاة فأتم.

الثاني: من الوجوه في حكمة إنكار النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند إقامة الفرض، فقال عياض : لئلا يتطاول الزمان فيظن وجوبها، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث إبراهيم بن سعد : " يوشك أحدكم أن يصلي الصبح أربعا " وقد ذكرناه عن قريب، وعلى هذا إذا حصل الأمن لا يكره ذلك، وقال بعضهم: وهو متعقب بعموم حديث الترجمة.

(قلت): قوله تعالى: ولا تبطلوا أعمالكم يخص هذا العام مع ما روي عن هؤلاء الصحابة المذكورين آنفا، وقال هذا القائل أيضا وقيل: لئلا تلتبس صلاة الفرض بالنفل، وإلى هذا جنح الطحاوي واحتج له، ومقتضاه أنه لو كان خارج المسجد أو في زاوية منه لم يكره، وهو متعقب أيضا بما ذكر. انتهى.

(قلت): دعواه التعقب متعقبة لأن الأصل في النصوص التعليل وهو وجه الحكمة، فالعلة في حديث الترجمة هي كونه جامعا بين الفرض والنفل في مكان واحد، فإذا صلى خارج المسجد أو في زاوية منه لا يلزم ذلك وهو كنهيه صلى الله عليه وسلم من صلى الجمعة أن يصلي بعدها تطوعا في مكان واحد، كما نهى من صلى الجمعة أن يتكلم أو يتقدم، وقال هذا القائل هذا أيضا، وذهب بعضهم إلى أن سبب الإنكار عدم الفصل بين الفرض والنفل لئلا يلتبسا وإلى هذا جنح الطحاوي، واحتج له بالأحاديث الواردة بالأمر بذلك، ومقتضاه أنه لو كان في زاوية من المسجد لم يكره وهو متعقب بما ذكره؛ إذ لو كان المراد مجرد الفصل بين الفرض والنفل لم يحصل إنكار أصلا لأن ابن بحينة سلم من صلاته قطعا ثم دخل في الفرض. انتهى.

(قلت): ذكر شيئا لا يجدي لرده ما قاله الطحاوي، فلو نقل ما رواه الطحاوي أيضا لكان علم أن رده ليس بشيء، وهو أنه روى بسنده " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بابن بحينة وهو يصلي بين يدي نداء الصبح، فقال: لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة الظهر واجعلوا بينهما فصلا " فبان بهذا أن الذي كرهه النبي صلى الله عليه وسلم لابن بحينة وصله إياها بالفريضة في مكان واحد دون أن يفصل بينهما بشيء يسير.

(قلت): فعلم بذلك أنه ما اعتبر الفصل اليسير والسلام منه، وكان سبب الكراهة الوصل بين الفرض والنفل في مكان واحد، ولا اعتبار بالفصل بالسلام، فمقتضى ذلك أن لا يكره خارج المسجد ولا في زاوية منه، وهذا هو التحقيق في استنباط الأحكام من النصوص، وليس ذلك بالتحسيس من الخارج، وقال النووي : الحكمة في الإنكار المذكور أن يتفرغ للفضيلة من أولها فيشرع فيها عقيب شروع الإمام والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من التشاغل بالنافلة.

(قلت): الاشتغال بسنة الفجر الذي ورد فيه التأكيد بالمحافظة عليها مع العلم بإدراكه الفريضة أولى.

(فإن قلت): في حديث الترجمة منع عن التنفل بعد الشروع في إقامة الصلاة سواء كان من الرواتب أو لا، لما روى مسلم بن خالد عن عمرو بن دينار في هذا الحديث " قيل: يا رسول الله ولا ركعتي الفجر، قال: ولا ركعتي الفجر " أخرجه ابن عدي في ترجمة يحيى بن نصر بن حاجب .

(قلت): روى البخاري ومسلم وأبو داود من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتين قبل الصبح "، وروى أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل " أي: لا تتركوهما وإن طردتكم الفرسان، فهذا كناية عن المبالغة وحث عظيم على مواظبتهما، وعن هذا أصحابنا ذهبوا فيه إلى ما ذكرنا عنهم على أن فيه الجمع بين الأمرين.

[ ص: 186 ] فافهم.

الوجه الثالث: أن قوله في الترجمة: " إلا المكتوبة " أي: المفروضة يشمل الحاضرة والفائتة، ولكن المراد الحاضرة وصرح بذلك أحمد والطحاوي من طريق أخرى عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بلفظ " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت " وقد مر وجه الإنكار فيه مستقصى.

التالي السابق


الخدمات العلمية