صفحة جزء
6574 وقال بعض الناس: إن وهب هبة ألف درهم أو أكثر حتى مكث عنده سنين واحتال في ذلك ، ثم رجع الواهب فيها فلا زكاة على واحد منهما ، فخالف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الهبة وأسقط الزكاة.


أراد به التشنيع أيضا على أبي حنيفة من غير وجه ; لأن أبا حنيفة في أي موضع قال هذه المسألة على هذه الصورة ، بل الذي قاله أبو حنيفة هو أن الواهب له أن يرجع في هبته ، ولكن لصحة الرجوع قيود:

الأول: أن يكون أجنبيا.

والثاني: أن يكون قد سلمها إليه ; لأنه قبل التسليم يجوز مطلقا.

والثالث: أن لا يقترن بشيء من الموانع ، وهي مذكورة في موضعها ، واستدل في جواز الرجوع بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: من وهب هبة فهو أحق بهبته ما لم يثب منها أي ما لم يعوض . رواه أبو هريرة وابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم.

أما حديث أبي هريرة ، فأخرجه ابن ماجه في الأحكام من حديث عمرو بن دينار ، عن أبي هريرة ، وأما حديث ابن عباس فأخرجه الطبراني من حديث عطاء عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من وهب هبة فهو أحق بهبته ما لم يثب منها ، وأما حديث ابن عمر فأخرجه الحاكم من حديث سالم بن عبد الله ، يحدث عن ابن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها ، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، فكيف يحل أن يقال في حق هذا الإمام الذي علمه وزهده لا يحيط بهما الواصفون أنه خالف الرسول ؟ وكيف خالفه وقد احتج فيما قاله بأحاديث هؤلاء الثلاثة من الصحابة الكبار ؟ وأما الحديث الذي احتج به مخالفوه ، وهو ما رواه البخاري الذي يأتي الآن ، ورواه أيضا الجماعة غير الترمذي عن قتادة عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه . فلم ينكره أبو حنيفة ، بل عمل بالحديثين معا: فعمل بالحديث الأول في جواز الرجوع ، وبالثاني في كراهة الرجوع لا في حرمة الرجوع كما زعموا ، وقد شبه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رجوعه بعود الكلب في قيئه ، وفعل الكلب يوصف بالقبح لا بالحرمة ، وهو يقول به لأنه مستقبح ، ولقائل أن يقول للقائل الذي قال إن أبا حنيفة خالف الرسول: أنت خالفت الرسول في الحديث الذي يحتج به على عدم الرجوع ; لأن هذا الحديث يعم منع الرجوع مطلقا ، سواء كان الذي يرجع منه أجنبيا أو والدا له. فإن قلت: روى أصحاب السنن الأربعة عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاوس ، عن ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده . قلت: هذا بناء على أصلهم أن للأب حق التملك في مال الابن ; لأنه جزؤه ، فالتمليك منه كالتمليك من نفسه من وجه.

قوله: "واحتال في ذلك " فسره بعضهم بقوله: بأن تواطأ مع الموهوب له على ذلك. قلت: لم يقل أحد من أصحاب أبي حنيفة أن أبا حنيفة أو أحدا من أصحابه قال ذلك ، وإنما هذا اختلاق لتمشية التشنيع عليهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية