صفحة جزء
7025 باب قول الله تعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ، ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ، إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين


هذا باب في قول الله عز وجل إلخ قوله تعالى: قل لو كان البحر ساق الآية كلها في رواية كريمة، وفي رواية أبي زيد المروزي قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي إلى آخر الآية، وسبب نزولها أن اليهود قالوا لما نزل قوله: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا كيف وقد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فنزلت هذه الآية، والمعنى لو كان البحر مدادا للقلم، والقلم يكتب لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي; لأنها أعظم من أن يكون لها أمد; لأنها صفة من صفات ذاته، فلا يجوز أن يكون لها غاية ومنتهى.

وأخرج عبد الرزاق في تفسيره من طريق أبي الجوزاء "لو كان كل شجرة في الأرض أقلاما والبحور مدادا لنفد الماء وتكسرت الأقلام قبل أن تنفد كلمات الله تعالى" وعن معمر عن قتادة أن المشركين قالوا في هذا القرآن: يوشك أن ينفد فنزلت، والنفاد الفراغ، وسمي المداد مدادا لإمداده الكاتب، وأصله من الزيادة.

فإن قلت: الكلمات لأقل العدد وأقلها عشرة فما دونها، فكيف جاء هنا؟

قلت: العرب تستغني بالجمع القليل عن الكثير وبالعكس; قال تعالى: وهم في الغرفات آمنون وغرف الجنة أكثر من أن تحصى.

قوله: ولو جئنا بمثله أي: بمثل البحر زيادة.

فإن قلت: قال في أول الآية: مدادا وفي آخرها مددا وكلاهما بمعنى، واشتقاقهما غير مختلف؟ قلت: لأن الثانية آخر الآية فروعي فيها السجع، وهو الذي يقال في القرآن الفواصل، وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة "مدادا" مثل الأول.

قوله: ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام الآية، وسبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا: القرآن كلام قليل يوشك أن ينفد فنزلت، ومعنى الآية لو كان شجر الأرض أقلاما، وكان البحر ومعه سبعة أبحر مدادا ما نفدت كلمات الله، وقيل: فيه حذف تقديره: فكتبت بهذه الأقلام وهذه الأبحر كلمات الله تعالى لتكسرت الأقلام ونفدت البحور، ولم تنفد كلمات الله.

قوله: "من بعده" أي: من خلفه سبعة أبحر تكتب، وقال أبو عبيدة: البحر هنا العذب، فأما الملح فلا تثبت فيه الأقلام.

قوله: إن ربكم الله الذي خلق السماوات الآية، بين الله عز وجل أن المنفرد بقدرة الإيجاد هذا الذي يجب أن يعبد دون غيره، واختلفوا أي يوم بدأ بالخلق على ثلاثة أقوال: أحدها يوم السبت كما جاء في صحيح مسلم، والثاني يوم الأحد قاله عبد الله بن سلام وكعب والضحاك ومجاهد، واختاره ابن جرير الطبري، وبه يقول أهل التوراة، الثالث يوم الاثنين قاله إسحاق، وبه يقول أهل الإنجيل ومعنى [ ص: 144 ] قوله: "في ستة أيام" أي: مقدار ذلك; لأن اليوم يعرف بطلوع الشمس وغروبها، ولم يكن يومئذ شمس ولا قمر، والحكمة في خلقها في ستة أيام مع قدرته على خلقها في لحظة واحدة لوجوه:

الأول: أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمرا تستعظمه الملائكة ومن يشاهده، وهذا عند من يقول: خلق الملائكة قبل السماوات والأرض.

والثاني: ليعلم عباده التثبت في الأمور، فالتثبت أبلغ في الحكمة، والتعجيل أبلغ في القدرة.

الثالث: أن الإمهال في خلق شيء بعد شيء أبعد من أن يظن أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق.

الرابع: ليعلمنا بذلك الحساب؛ لأن أصل الحساب من ستة، ومنه يتفرع سائر الأعداد.

قوله: ثم استوى على العرش " قد ذكرنا معنى الاستواء عن قريب، وخص العرش بذلك; لأنه أعظم المخلوقات. والعرش في اللغة السرير قالهالخليل.

قوله: يغشي الليل النهار " الإغشاء إلباس الشيء الشيء، وقال الزجاج: المعنى أن الليل يأتي على النهار فيغطيه. وإنما لم يقل: "ويغشي النهار الليل" لأن في الكلام دليلا عليه كقوله: سرابيل تقيكم الحر " وقال في موضع آخر يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ".

قوله: يطلبه حثيثا " أي: يطلب الليل النهار محثوثا أي: بالسرعة.

قوله: مسخرات " أي: مذللات لما يراد منهن من طلوع وأفول وسير على حسب الإرادة.

قوله: ألا له الخلق والأمر " والغرض من إيراد الآية هنا هو أن يعلم أن الأمر غير الخلق; لأن بينهما حرف العطف، وعن ابن عيينة فرق بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر، أي: من جعل الأمر من جملة ما خلقه فقد كفر، وفيه خلاف المعتزلة.

ومعنى هذا الباب إثبات الكلام لله تعالى صفة لذاته، ولم يزل متكلما ولا يزال كمعنى الباب الذي قبله، وإن كان وصف الله كلامه بأنه كلمات، فإنه شيء واحد لا يتجزأ ولا ينقسم، وكذلك يعبر عنه بعبارات مختلفة، تارة عربية وتارة سريانية، وبجميع الألسنة التي أنزلها الله على أنبيائه، وجعلها عبارة عن كلامه القديم الذي لا يشبه كلام المخلوقين، ولو كانت كلماته مخلوقة لنفدت كما ينفد البحار والأشجار، وجميع المحدثات، فكما لا يحاط بوصفه تعالى كذلك لا يحاط بكلماته وجميع صفاته.

التالي السابق


الخدمات العلمية