صفحة جزء
67 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : رب مبلغ أوعى من سامع .
الكلام فيه على وجوه ; الأول : التقدير هذا باب في بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم " رب مبلغ أوعى من سامع " ، والباب مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى ما بعده .

الثاني : وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في هذا الباب حال المبلغ - بفتح اللام ، ومن جملة المذكور في الباب السابق الجالس في الحلقة ، وهو أيضا من جملة المبلغين ; لأن حلقة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مشتملة على العلوم والأمر بتعلمها والتبليغ إلى الغائبين . وقال الشيخ قطب الدين : أراد البخاري بهذا التبويب الاستدلال على جواز الحمل على من ليس بفقيه من الشيوخ الذين لا علم عندهم ولا فقه إذا ضبط ما يحدث به . قلت : هذا بيان وجه وضع هذا الباب ، وليس فيه تعرض إلى وجه المناسبة بين هذا الباب وبين الباب الذي قبله ، ولم أر أحدا من الشراح [ ص: 35 ] تعرض لهذا الذي ذكرناه .

الثالث : قال الكرماني : وهذا الحديث رواه معلقا ، وهو إما بمعنى الحديث الذي ذكره بعده بالإسناد فهو من باب نقل الحديث بالمعنى ، وإما أنه ثبت عنده بهذا اللفظ من طريق آخر . وقال الشيخ قطب الدين : وقد جاءت لفظة الترجمة في الترمذي من رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : نضر الله امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمع ، فرب مبلغ أوعى من سامع - قال الترمذي : حديث حسن صحيح . قلت : كل منهما قد أبعد وتعسف ، والذي ينبغي أن يقال هو أن هذا حديث معلق ، أورد البخاري معناه في هذا الباب ، وأما لفظه فهو موصول عنده في باب الخطبة بمنى من كتاب الحج - أخرجه من طريق قرة بن خالد عن محمد بن سيرين قال : أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكرة ورجل آخر أفضل في نفسي من عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن - كلاهما عن أبي بكرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ، قال : أتدرون أي يوم هذا ؟ وفي آخره هذا اللفظ ، وقد أخرج الترمذي في جامعه وابن حبان والحاكم في صحيحيهما من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : نضر الله امرءا سمع مقالتي فحفظها ووعاها فأداها إلى من لم يسمعها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه - قال الترمذي : حسن . وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين .

قوله " نضر " بالتشديد أكثر من التخفيف ; أي حسن ، ويقال نضر الله وجهه ونضر بالضم والكسر - حكاهما الجوهري . قلت : وجاء نضر بالفتح أيضا ، حكاه أبو عبيد ، والمصدر نضارة ونضرة أيضا ، وهو الحسن والرونق . فإن قلت : كيف قال الترمذي لحديث ابن مسعود وهو حديث حسن صحيح وقد تكلم الناس في سماع عبد الرحمن عن أبيه فقالوا كان صغيرا ، وقال يحيى بن معين : عبد الرحمن وأبو عبيدة ابنا عبد الله بن مسعود لم يسمعا من أبيهما . وقال أحمد : مات عبد الله ولعبد الرحمن ابنه ست سنين أو نحوها ؟ قلت : كأنه لم يعبأ بما قيل في عدم سماع عبد الرحمن من أبيه لصغره ، وقال الشيخ قطب الدين : لم يخرج البخاري لأبي عبيدة شيئا ، وأخرج هو ومسلم لعبد الرحمن عن مسروق ، فلما كان الحديث ليس من شرطه جعله في الترجمة . قلت : هذا بناء على تعسفه فيما ذكرناه ، والذي جعله في الترجمة قد ذكره في كتاب الحج على ما ذكرنا .

الرابع : قوله " رب " هو للتقليل ، لكنه كثر في الاستعمال للتكثير بحيث غلب حتى صارت كأنها حقيقة فيه ، وهي حرف خلافا للكوفيين في دعوى اسميته ، وقالوا : قد أخبر عنه الشاعر في قوله :


ورب قتل عار

وأجيب بأن " عار " خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة صفة للمجرور أو خبر للمجرور ; إذ هو في موضع مبتدأ ، وينفرد " رب " بوجوب تصديرها وتنكير مجرورها ونعته إن كان ظاهرا وإفراده وتذكيره وتمييزه بما يطابق المعنى إن كان ضميرا ، وغلبة حذف معداها ومضيه ووجوب كون فعلها ماضيا لفظا أو معنى . وقال الكرماني : وفيها لغات عشر - ثم عدها ، قلت : فيها ست عشرة لغة ; ضم الراء وفتحها ، وكلاهما مع التشديد والتخفيف ، والأوجه الأربعة مع تاء التأنيث الساكنة أو المتحركة أو مع التجرد منها - فهذه اثنتا عشرة ، والضم والفتح مع إسكان الباء وضم الحرفين مع التشديد ومع التخفيف .

قوله " مبلغ " بفتح اللام ; أي مبلغ إليه ، فحذف الجار والمجرور ، كما يقال المشترك ويراد به المشترك فيه .

قوله " أوعى " أفعل التفضيل من الوعي ، وهو الحفظ .

فإن قلت : كيف إعراب هذا الكلام ؟ قلت : إعرابه على مذهب الكوفيين أن " رب مبلغ " كلام إضافي مبتدأ ، وقوله " أوعى من سامع " خبره ، والمعنى : رب مبلغ إليه عني أفهم وأضبط لما أقول من سامع مني ، ولا بد من هذا القيد لأن المقصود ذلك ، وقد صرح بذلك ابن منده في روايته من طريق هودة عن ابن عون ، ولفظه : فإنه عسى أن يكون بعض من لم يشهد أوعى لما أقول من بعض من شهد .

وأما على مذهب البصريين فإن قوله " مبلغ " وإن كان مجرورا بالإضافة ولكنه مرفوع على الابتداء محلا ، وقوله " أوعى " صفة له ، والخبر محذوف تقديره يكون أو يوجد أو نحوهما . وقال النحاة في نحو رب رجل صالح عندي محل مجرورها رفع على الابتدائة ، وفي نحو رب رجل لقيته نصب على المفعولية ، وفي نحو رب رجل صالح لقيته رفع أو نصب كما في قولك هذا لقيته .

التالي السابق


الخدمات العلمية